}

بيت لاهيا: حيث يغارُ التّفاح من الجمّيز فيشتقُّ الفَراولة

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 10 فبراير 2024
أمكنة بيت لاهيا: حيث يغارُ التّفاح من الجمّيز فيشتقُّ الفَراولة
محصول الفراولة قبل تجريفه
حين تسمع البيّاع ينادي (لَهَواني يا تفاح) فاعلم أنك وقعتَ على تفاحٍ عطِر الرائحة، جميل المنظر وَلذيذ الطعم. رغم هذه المواصفات جميعها التي يحظى بها تفاح مدينة بيت لاهيا، أقصى شمال غرب قطاع غزة، إلا أن النبات التي اشتهرت به المدينة وَرافقها منذ بداياتها الكنعانية الأولى هو نبات الجمّيز، حيث جمهرةٌ مهولةٌ منه تحيط المدينة وتشكّل سياجًا بينها وبين مدن فلسطين التاريخية شمالها، وَحيث يأكله الناس هناك نديًا طريًا، أو يابسًا مجففًا، وحيث تشكّل فترة إثماره لوحات من البهاءِ وغاباتٍ من الألوان.
تلك حقائقُ جعلت تفاح بيت لاهيا يَغار من جمّيزها، فما كان منه، وَقد جعلته الغيرة يضحّي بذاتِهِ وبِمكانته، إلّا أن تَرَكَ مساحات شاسعة من أرض المدينة البحرية الرملية لنباتٍ سيأخذ لاحقًا الزهو كلّه، إنها الفراولة التي يطلقون عليها في بيت لاهيا (الذهب الأحمر)، كيف لا وهي التي تتيح لهم فرص التصدير إلى القارّة العجوز أوروبا، وإلى دول الخليج العربي جميعها.
قد تكون الفراولة شكّلت فرصة نهوض اقتصاديّ لمدينةٍ كان يضطر كثير من أبنائها إلى العمل لدى مؤسسات الكيان ومشاريعِهِ ومزارِعِه، إلا أن الأصل يبقى؛ تفاحها سوف يظل صاحب النداء الأزليّ (لَهَواني يا تفاح)، وجمّيزها يبقى رمزها الكنعانيّ وَسياجها المَنيع.

العدو الحقود
عند مطالعةِ ما يواصله العدو الحقود من جرفٍ لأراضي بيت لاهيا، فإننا نلحظ أن الغيرة لم تقتصر على تفاحها الفتّان، فالدافعية الكبرى لكل هذا الجرف العدوانيّ الذي لا يتوقف، هي الغيرة، وهي الرغبة الدّفينة بِمحو كل أثرٍ كنعانيّ متجذّر في عروقِ المكان، وَهو الحسد الذي لا يُطفئ نارَه إلّا الاستيلاء على مقدّرات الآخرين وَخيراتهم وَرموزهم وَأسباب مسرّاتهم وَآفاق زادِهم وَزوّادهم. إلا أنه، والحق يقال، إن غيرة التفاح من حبيبهِ الجمّيز تقع في خانة الغيرة المحبّبة، الدّافعة للتنافس، المحرّضة على الإبداع، أمّا غيرة الأشرار، فليس لها أدنى علاقة بالغيرة وفق معانيها الممكنة، إنها حقدٌ، وحسدٌ، وضيقُ عين، وبشاعةُ طمع، وخسّةُ تَجاورٍ بينهم وبين أيِّ أحدٍ جاوَروه، فهُم طغمةٌ لا تُجاوَر، وَلا يُؤتمن جانبُها، وَلا يمكن التّعايش معها.
أمّا جرفُهم لأراضي بيت لاهيا، فهو لم يبدأ في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، (ولكنه، بإذن الله سينتهي عند نتائج الطوفان)، ولكنه بدأ منذ عام 1948، ثم توقّف مع احتلال المدينة والقطاع في عام 1967، ثم عاد لنشاطه المشؤوم بعد عام 2005، حتى إن آخر جَرْفٍ وتخريبٍ وتطاولٍ كان يوم الثلاثاء الموافق 19 سبتمبر/ أيلول 2023، أي قبل أيام من انفجار طوفان الأقصى، كما لو أنّ شيئًا ما في جوّانياتهم قال لهم إن أمرًا جللًا في طريقه للحدوث لِيمحقكم ويوقفَ زمن اعتداءاتِكم وَاستهتارِكم بأبسطِ حقوق البشر في أرضهم وَفي زرعهم وَضرعهم ومنابتِ وجودِهم.
لكن الجرف والتخريب الذي سبق خروجهم قبل أيامٍ قليلةٍ من بيت لاهيا فَهو ممّا ينْدى له التاريخ، وتعافُ الأزمان أن تتذكّره: جرْفُ بيوت الفراولة جميعها قبل قطفها وَتطييرها نحو أربع جهات الأرض، قتْلُ 150 ألف طير دجاج لاحِم وبيّاض، تخريب مزارع محاصيل البطاطا والبندورة والجزر والخس، وغيرها من محاصيل بيت لاهيا الزراعية الوفيرة، تدميرُ مزارع الأبقار. جرفٌ وتخريبٌ طال مزارعي المدينة جميعهم، حيث يقدّر أحدهم في تقريرٍ تلفزيونيّ أن خسارة هؤلاء المزارعين قد تصل إلى 200 ألف دولار لكل واحد منهم بالمعدّل، فهناك مِن كبارهِم مَن سوف تكون خسائره أكثر من ذلك بِكثير. تدميرُ مولّدات (خلايا) الطاقة الشمسية وتدميرُ مخازن البذور.
لم يقتصر الأمر على جرف الأراضي والمزارع ومختلف موائلِ الرزق وَالحياة، بل إن المدينة دُمّرت، تقريبًا، عن آخرِها، تدميرٌ واعتداءٌ طاول المستشفى الإندونيسيّ وَالمدارس وَالمساجد وَالمراكز وَالبيوت، وَأبراج بِأكملها، ومجمّعات ومربّعات سَكَنية بكلِّ أنفاس الحياة والعمارةِ والنضارةِ فيها.

مدينة الشيخ زايد شرقي بيت لاهيا 

فأيّ حقدٍ أعمى ذاك؟ كيف يولّدون داخل أعماقهم السوداء كل هذه البشاعة، وكلَّ هذا الظلام؟ من أيّ خواءٍ وخرافاتٍ يجدّدون طاقة هذا الحقد الطائشةَ وانْدفاعه المريض؟

عراقةُ التاريخ وعبقريةُ الجغرافيا

كما هي حال مدن قطاع غزّة جميعها وباقي مدن فلسطين، فإن التاريخ ضاربٌ جذوره في بيت لاهيا. وحين يقتصر حديث بعض المؤرخين على  أنها مدينة سوزومِن/ Sozomen‏ (400 ـ 450 م)، المؤرّخ والبَلاغياتي‏ وَالكاتب والمحاميّ البيزنطيّ، فلأنّ حديثهم قاصرٌ، ولأنّهم يأخذون من بعضِهم، فلا يُتعب الثاني نفسَه بِمحاولة تبيّن تقصير الأول، ثم تكرّ سلسلة التقصير وَعدم التمحيص وَالبحث، فهل يعقل أن مدينة تبعد سبعة كيلومترات فقط عن غزّة جنوبها، ولغزّة ما لغزّة من تاريخٍ ضاربٍ في القِدم، أمّا هي فمجرّد مدينة بيزنطية سريانيّة، ثم ما تلا ذلك من حكم إسلاميٍّ وصولًا للحكم العثمانيّ، ثم الانتداب البريطانيّ، ثم الحكم المصريّ، ثم الاحتلال الصهيونيّ؟ هل يعقل هذا؟ ألم يشتمّ الباحثون المقصّرون أريجَ الكنعانيين في حروف اسمها؟ ألم يلحظوا أن الزراعة هي صناعة كنعانية بِامتياز؟ حتى نَفَسُ البَداوة الطالع من بعض عشائرها، وبعض حِرَفها اليدويّة، فهو، من دون أدنى شكّ، نَفَسٌ معتّقٌ قديم. صحيحٌ أن مدينة البحر هذه كانت من المدن التي حقّق فيها صلاح الدين بعض انتصاراتِه، ولكن هذا ليس أوّل منجزاتِها بيت لاهيا، التي سبقت فتح بيت المقدس بآلاف السنين.
بعض المؤرّخين يعتقدون أن بيت لاهيا هي "بيت أيْل" القديمة، ما يؤكد، إن صح اعتقادهم، كنعانية المدينة، وَامتدادها في أعماق التاريخ الفلسطينيّ القديم، فأيْل (أو إل) هو الإله الأعلى عند الكنعانيين، وَيعود تاريخ انبثاقهِ في المعتقدات الكنعانية إلى خمسة آلاف عام ماضية على أقلِّ تقدير.
من أماكنها التاريخية: تل الذهب غرب القرية، وَخربة السحليّة شمال القرية. ذكرها ياقوت في معجم البلدان باسم (سِحْلين) وقال: إنها من قرى عسقلان، ونسب إليها العالم عبد الجبار بن أبي عاصم الخثعمي السِّحليني.
إن لـِ(بتوليون) اسمها الرومانيّ تاريخ عريق، وهي تحيطها جغرافيا عبقرية التوازن بين بحرٍ وبرٍّ وسهل ومرتفع؛ فالكثبان الرمليّة التي تحيطها من كل جانب، خصوصًا من ناحية الشمال والغرب، ترتفع عن سطح البحر 55 مترًا. بعد الكثبان أرضٌ على مدّ البصر، تزهو بغابات الجمّيز، وبحقول المحاصيل، وبمزارع الدواجن، والأبقار. تبعد عن أول مدينة فلسطينية مغتصبة شمالًا ومحوّلٍ اسمها إلى اسم غريبٍ أقل من سبعة كيلومترات، وعن معبر بيت حانون شرقًا أقل من ستة كيلومترات، وأمّا البحر فهو على امتداد غربها وصولًا إلى قرية هِرْبيا المدمّرة التي صار اسمها بِفعل اللصوصيّة (زيكيم).




عبقرية الجغرافيا وترسّبات الزمن الجيولوجيّ الرابع فعلت فعلها في كيف هي المدينة اليوم: مناطق طينية، تربة سطحية (كِرْكار)، سياجٌ رمليّ، خطٌ ساحليٌّ مستقيم، مع حوافّ شديدة الانحدار قريبة من البحر تشكّل أبراجًا طبيعيةً ربّانيّةً لِمراقبة الشاطئ.
ظلّت مهددة بطوفان الرمال، إلى أن جرفها هذا الطوفان الرمليّ في يوم من الأيام فعلًا، إلّا أن أهلها جدّدوا بناءَها وإِعمارَها. في جنوبها موقع يعرف بـِ"تل الذهب" كان الناس يجدون فيه قطعًا من المعدن النّفيس.

روح المدينة

في بيت لاهيا روحٌ مدينيةٌ لا لُبس فيها. لا أقصد أبراجها وشوارعَها وأحياءَها وحاراتِها بدءًا من حيّ السلاطين الذي تقطنه في الأصل عشيرة السلطان، وليس انتهاءً بِحارة حبّوب، وبينهما حاراتُ وأحياءُ: العطاطرة في الغرب نسبة إلى عائلة العطار أو العطاطرة، أصلان في الوسط، الحارة الغربية، مدينة الشيخ زايد، الحارة الشرقية، فدْعوس نسبة لِعائلة فدْعوس، السلام داخل مشروع بيت لاهيا، حيّ أم الفحم وحيّ الفردوس (مشروع عامر)، بل أقصد تنوّع تجليات الحياة فيها، بين زراعةٍ وصناعةٍ ومراكز ثقافية وتطلّعات تنمويةٍ ومختلفِ مظاهر التمدّن المرتبط بالأرضِ والذاكرةِ وَالمعنى.
أمّا على صعيد الزراعة، فإضافة لمّا استهلّينا به حول تفاحها وجمّيزها وتوتِها الأرضيّ، وإضافة لِليمون والبُرتقال وَباقي أنواع الحمضيّات، يزرع الّلهوانيون الخوخ وَالمشمش وَالعنب وَاللوز، كما كانت تكثر في مدينتهم أشجار السنّوط (اسمها القديم، وربما الشعبيّ، المَسمنوط، واسْمها الفصيح: السِّنط العربي، أو القُرظ، أو السَّمر العربي، أو الشوكة القبطيّة، وقد تكون هي نفسها الطَّلْح، أو الأَكاسيا) التي كانوا يصنعون من أغصانها السلال، كما كانوا (وربما ما يزالون) يصنعون القُفَف وَالأخراج وَالأقفاص من نبات الحلفاء. وَفي بيت لاهيا كانت تنتشر بين السكان صناعة الطواقي من وَبَر الجِمال، لكن الجِمال نفسها لم تعد موجودة هناك فذهبت وأخذت معها طواقِيها.

جيل يسلم جيلًا في بيت لاهيا 

على صعيد الصناعة، فإن أكثر صناعة عُرفت بِها بيت لاهيا هي صناعة النسيج (الخياطة، الحياكة). ورُغم وجود عدد غيرِ قليل من مزارع الأبقار فيها، إلا أنه لا يوجد مصنع ألبان في بيت لاهيا، فقط بعض المشاريع الصغيرة لِصناعة (اللبن وَاللبنة)، وبعض مشتقات الحليب كالأجبان و(المَخيض) وما شابه، طبعًا إضافة لِلاستثمار في الدجاج اللاحم وبيض الدجاج البيّاض.
في سياق الحصار الممتد منذ عام 2007، فإن جمعية تطوير بيت لاهيا الواقعة في شارع الشيماء قرب دوار عباس كيلاني، حاولت، وتحاول، تعويض بعض مزارعي الأبقار الذين بدأ حليب أبقارهم لا يجد من يشتريه، إضافة إلى ارتفاع أسعار علف هذه الأبقار.
إلى ذلك، في بيت لاهيا شعراء وَمثقفون وَحركة تعليميّة نشِطة (أكثر من 25 مدرسة وَواحدة من مدارسها افتتحت في عام 1934)، وفيها مركز "ينابيع الأدب الثقافي" الذي يقيم النشاطات الثقافية والتراثية، وتنشط في المركز الشاعرة فدوى أبو ظاهر، والشاعر رشاد أبو سخيلة، وَغيرهما، وقد أقاموا في شهر فبراير/ شباط 2023 الذكرى السنوية السابعة لشاعر بيت لاهيا عمر خليل عمر (1936 ـ 2016) صاحب عدد من الدواوين الشعرية، وصاحب التجربة الإبداعية والنضالية، إذ قضى (أبو خليل) عددًا من سنيِّ عمره أسيرًا لدى الاحتلال الصهيوني، إضافة لخدمته في جيش التحرير الفلسطيني.
من المفارقات اللافتة أن مركز "ينابيع الأدب الثقافي" كان ينوي في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 المشاركة في احتفالات "يوم التراث الفلسطيني" الذي يصادف في السابع من أكتوبر من كل عام، من خلال افتتاح معرض "تراثنا فلسطيني"، ولأنّ السابع من أكتوبر قرّر الاحتفال على طريقته، رائيًا أن تراث المقاومة هو الذي يبقى وَينفع الناس، وَهو الذي يحمي مختلف رموزِنا التراثية من أزياء وَمأكولات وَأهازيج وَأغنيات وَأمثال وَصناعات وَغيرها، فقد تأجّل احتفال مركز التراث لِحين نصرٍ قريب.
من قرية صغيرة لم يكن فيها سوى مسجدين، صارت بيت لاهيا اليوم مدينة فيها عشرات المساجد. في أحد مسجديها القديميْن قبر الشيخ سليم أبو مسلم جد عائلة المسلمي، الذي كان في يوم من الأيام مزارًا. وفيها، إلى ذلك، جامع ومزار للعبدِ الصالح الشيخ سعد.
يقول عنها من زارها، ومن عرف بعض أخبارها، إنها كانت حديقة جميلة فيها أماكن للتنزّه وَاللهو قريبًا من المعابد، فأصبحت بيتًا للآلهةِ مرّة، وبيتًا لِلهوِ مرّة، كما هي عادة ثنائية الحياة بين دينٍ ودنيا، بين لهوٍ وعِبادة، بين أغنيات التفاح ومنصّات الصواريخ التي تَقْلَع عين الاحتلال وتنطلقُ من بيت لاهيا، أو من جباليا، ممرّغة بِرملها الفتّان كل ادّعاءاته حول الإجهاز على كل نفسِ مقاومةٍ فيها.
طالما أن الاحتلال يَجْرِف ستبقى بيت لاهيا تقاوم، رائيةً أن الاحتلال يُجرَف ولا يَجرِف، مُستحضرةً قول شاعرها (أبو خليل):
"أنا راسِخٌ، أنا شامخٌ مثلَ الجِبال الشامخاتِ الراسياتْ
أنا صامدٌ، أنا صامدٌ مثلَ الصخورِ الثابتاتِ الصامداتْ
لن تنحني الهاماتُ ولن أركع، وَلن... إلا لربِّ الكائناتْ
شُهداؤنا من قدّموا الأرواحَ مَهرًا... كالشّموعِ النيّراتْ
لا الطائراتُ تخيفُنا... لا... حتى... ولا... رشُّ القاذِفات".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.