}

عن صنعُ العالم وتفكيكه في الجسد المتألم

وارد بدر السالم وارد بدر السالم 15 فبراير 2024
اجتماع عن صنعُ العالم وتفكيكه في الجسد المتألم
إلين ساكاري

(1)
تفتح إلين سكاري الضوء في مقدمة مؤلفها الضخم "جسد متألم: صنعُ العالم وتفكيكه" (662 صفحة)* على محاور البحث الفلسفي العميق والواسع لموضوعة (الألم الجسدي) تحصرها ضمن موضوعات أبرزها: (صعوبات التعبير عن الألم الجسدي) و(التعقيدات السياسية والإدراكية الناجمة عن التعبير المادي واللفظي معًا)، وهذه الموضوعات الكاشفة لحقيقة الألم الجسدي تتعاقد في ما بينها، لتصل إلى كثير من الحقائق الفلسفية والأدبية والدينية، في دائرة ثلاثية ذات مركز واحد، باعتبار أن الألم الجسدي (لا صوت له)، ومن الاستحالة تصور مثل هذا الألم الذي يحدث للجسد، وتعجز اللغات عن وصفه؛ فهو خارج اللغة ونظامها اللفظي، بل إنه (يدمرها)، فالعودة الصوتية المتألمة سابقة على اللغة. ولها قوة في المعنى في تصديها الابتدائي للألم. لكنها قوة تستدعي (تشظية اللغة وهدمها) لتنفرد بلغتها الشخصية التي قد لا يستوعبها من غير المتألمين، لكنهم يشعرون بها، بعيدًا عن التكثيف اللغوي الذي نمارسه في توصيف أحداث الجسد الكبيرة منها والصغيرة، حتى الأطباء المعنيين يتعاملون مع صوت المريض بوصفه (ساردًا)، لكن بلا لغة يُعوّل عليها، سوى من إشارات موضع الألم، وصرخات معبّرة عن الوجع؛ وبالتالي فإن التقنيات الطبية تستطيع تحديد موقع الألم من دون لغة واضحة، سوى من لغة الأشعة الطبية، أو تشخيص مواقع الألم في الجسد. وهذا وحده لا يكفي في محنة المتألم جسديًا. فالألم البشري لا يمكن "الاستماع" إليه، كونه لا يقع في منطقة اللغة المعتادة، بل يتطلب من المريض أن يعود إلى بدائيته في إحداث أصوات معبرة عن ألمه أمام الطبيب المختص. وعلى الأخير أن "يتقن" ويفهم تلك الأصوات الخارجة من كهوف الجسد لعلاج موقع الألم الذي يتسبب به.
تبدو العملية مركّبة إلى حد التعقيد، بالرغم من بساطتها الظاهرة، لأن الألم البشري خارق نطاق الوصف اللغوي واللفظي. ومن المؤكد أن سرديات الأدب، والفن السينمائي والتشكيلي، لم تتوسع في هذه المعاناة، إلا بحدود الوصف الإنشائي. وإلى هذا لفتت الباحثة إلى (ندرة تمثيل الألم الجسدي في الأدب)، وهذه الندرة، سرديًا وشعريًا وسينمائيًا، تكاد تمر عابرة في النصوص الأدبية والفيلمية. ولم تتوسع في باطنيتها الإنسانية ومعالجاتها النفسية سوى من قليل منها (فيلم صرخات وهمسات - بيرجمان)، باعتبار أن الفنون والآداب بتعبير توماس مان (ما من أدب ليس عن المعاناة)، وأشارت الباحثة ضمن السياق إلى رواية "لاسوموار- زولا" التي انطوت على هذه الفجاجة البوليسية التي جسدت نوعًا من أنواع الألم الجسدي.
لكن يبدو أن الإحساس بالألم الجسدي قد لا يحدث في اللغة كثيرًا، ولا يتجسد بطبيعة الحال في ذهن المتلقي، فـ اللا لغة، هي نقيض اللغة الاعتيادية. و(لا لغة) الألم يصعب توصيفها واقعيًا، لأنها اخترقت اللغة وهدمتها وحولتها إلى حروف وكلمات في مقاومتها (للتموضع اللفظي)، وفي استنباتها إلى وصفية مكبوتة، تحاول أن تخرج على شكل صرخات هستيرية، أو إشارات غير واضحة.


(2)
لو استعرضنا قضية التعذيب البشري في السجون والمحاكم ولجان التحقيق، وما فيها من أساليب سادية مباشرة وغير مباشرة، سنجد كثيرًا من الأصوات التي تخرج عن سياق اللغة، وتطفو بشكل أصوات وصيحات غير مفهومة، تعبّر عن الجسد في آلامه القصوى التي لا يفهمها حتى السجين ذاته، لأنها من مكونات غير لغوية، أو لفظية، متعارف عليها اجتماعيًا، لهذا فإن الألم نفسه (يهدم اللغة)، ويقوّضها، أو يفككها. والاستجواب الذي يجري على السجين، أو المتهم، سياسيًا كان أم لا؛ ليس ضروريًا الحصول منه على معلومات، بل (إلى تفكيك)، و(تحطيم صوت السجين)، وإحالته إلى طفلية بدئية غير متوازنة مع حالته الشخصية. وهذه فكرة ملتبسة: أن يكون السجين، أو المتهم، بلا صوت، سوى من صيحات استغاثات غير مفهومة، لكنها ـ بالتأكيد ـ تعبّر عن قسوة الألم في جغرافية الجسد المختلفة. فألم المريض يختلف عن ألم المتهم المستجوَب. الأول حالة عارضة قد تزول بزوال مؤثرها، ثم ينحسر الألم ويعود المريض إلى لغته. والثاني قصدية في حصر المتهم (داخل جسده) لإيقاع مزيد من الألم به، وتعريته من الصوت واللغة وتعبيراتها، لتفكيك مشاعره وقوته واستعداداته الأولى، لتشظيته نفسيًا، وتجريده من اللغة واللفظ والمواجهة، وجعله عاريًا أمام المحقق.




هذه المواجهات التعسفية بين السجين والجلاد، التي تستهدف استفزاز الجسد وطمس معالمه بالتدريج، ستخفي كثيرًا من الطمس النفسي، إذ ينشغل السجين بألمه الجسدي، قبل أن يتلاشى مع قسوة الجلاد. وهذا يعني تلاشي الكون من حوله في غرفة ضيقة قد لا تستوعب الألم كله. وقد ينهدم العالم حولها ويتفكك، لنرى أن المسافة بين الجسد وجلاده (غير مرئية)، لأن (الوقائع الفيزيائية غير مرئية أيضًا) فالسجين الذي يقع تحت التعذيب هو بلا لغة. أما الجلاد فهو بكامل لغته الرشيقة بين السؤال والجواب وانتزاع الاعتراف. لهذا فإن الجلاد (بلا ألم)، وبالتالي فهو يمتلك العالم، أو يحضر فيه بشكل مباشر، لأنه غير مقيد بزمن (وكلما تألم السجين ألمًا أكبر، صار عالم الجلاد أوسع)، وكلما سقط جسد السجين في بربرية العقاب والتعذيب، انكمش العالم من حوله وتضاءل. لا سيما وهو يرى أن الكون الواسع كله، تحول إلى غرفة صغيرة، تضيق عليه كل لحظة، حتى تصبح بحجم جسده. أما الجلاد الذي يلجأ إلى ضجيج اللغة، وهستيريا الأسئلة، فإنه يخرج عن السياقات اللفظية والتحضر الاجتماعي، لتظهر فيه ثقافة الشارع المترسبة في لا وعيه، أو يبتكر لغة أخرى فيها كثير من الوقاحة واللفظ السوقي والرطانة الشعبية، وما يخرج من لا وعيه إلى وعي الغرفة الصغيرة، أمام الجسد المخذول.

(3)
سنجد أن هنالك فرقًا بين (جسدي يتألم)، و(جسدي يؤلمني)، فالأول يقع خارج حدود غرفة التعذيب، والآخر داخلها. وفي الحالتين، ثمة غياب للوعي. لكنه وعي مشروط بطريقة الألم. فجسدي يتألم هو أن الجسد يتعرض لما هو خارجي عنه وعليه. وقد لا يصل الأمر إلى حد (إتلاف الجسد)، بينما "جسدي يؤلمني" هو فعل ضاغط على (جسدي)، أي على الـ(أنا) بتشخيصية واضحة، مما يؤدي إلى إتلاف الجسد، وتغييب ذاكرته، وطمس محتوى وعيه. فالجلاد يعرف، بتجربته السادية، أن الألم (يدمر العاطفة)، لذلك فهو قادر على (احتلال) جسد السجين، فاقد اللغة، مقابل اللغة المستحدثة من قبل الجلاد، وهي لغة عاصفة. بذيئة. سوقية. متوعدة في دراما التعذيب.




السجين يدرك بوعي جسده أن (خيانة الذات) أمر يعيد له لغته المفقودة في غرفة الموت البطيء، لكنها إعادة مشروطة بالخيانة، عبر الاعتراف، حتى وإن كان ملتويًا، أو ناقص الحقائق التي يبتغيها الجلاد. وسيجد أن لغته مزيفة وجسده مزيف هو أيضًا. وأن العالم الخارجي، بكل ما فيه من مباهج وحريات، خدع جسده وخدع ذاته. وهكذا نجد أن ألمًا مضافًا آخر دخل الجسد من أضيق الأبواب، وأكثرها تعاسة. وهو الألم النفسي الذي يزيد من وحشة الجسد وغربته، مثلما يعذب صوته الداخلي والخارجي على مدار وجوده. لنفهمْ أمرين أحلاهما مر كما يقال، الأول أن الصمود الجسدي يتطلب نسيان الجسد، والثاني تخاذل الجسد تحت السياط، يعني خيانته وخيانة الذات الداخلية. وهذا التقويض الجسدي والنفسي، يؤسس لمعاناة طويلة الأمد، باعتبار أن الأجساد في بنيتها غير قابلة للنسيان، فـ (ما يحفظه الجسد لا ينساه أبدًا)، وهذا على مستوى التجربة الفردية في الأنظمة الواحدية، ولكن أكثر البشاعات التي تعاني منها الشعوب، هي الحروب الكونية التي تعصف بالحياة. فالتعذيب في غرفة التحقيق هو (حينما يكون الخصم داخليًا) والحرب؛ بخصمٍ خارجي؛ هي لعنة كاملة تصيب الناس جميعًا، وتقتلهم. عندها يكون الجسد، ونسميه "الجسد النفسي" في تمام الاستعداد للمواجهة المقززة، لهذا الهدم التدريجي للبناء، حتى يصبح الجسد البشري (امتدادًا للسلاح)، وتصبح الحروب كوابيس تهدد الأجساد بالفناء، فالحرب (في حقيقتها الهائلة بنية ضخمة تستهدف اجتثاث الأبنية الثقافية)، وأيضًا نرى عبر الحرب ثمة "حرية" متاحة وانتصار محتمل، على عكس غرفة التحقيق الضيقة، التي يكون فيها الخصم منتصرًا دائمًا. ويكون الجسد فيها بأقسى اختبار شخصي.

(4)
ومع رحلة الألم بتقويض الجسد البشري، وتفكيك العالم، ومن ثم صناعته؛ وهي رحلة شاقّة بمعايير الإنسانية؛ من التعذيب الفردي والحروب الجماعية ينتج (هدْم) حضاري باطني وخارجي للمنظومة الإنسانية برمتها. وهذا الهدم به حاجة إلى الترميم، بعد تعرية بنية التعذيب بشقيها الشخصي والجماعي. ولما كان الألم (وحيدًا) بلا لغة ساندة، أو محتوى لفظي قادر على أن يواجه الطرف الآخر، فلا بد من صناعة (التخيّل) لتظهر المحسوسات (في العقل). ولما كان الألم هو (الحالة القصدية لعملية التخيل) لا بد من إظهار التباين بينهما، بوصفهما (تموضعًا ذاتيًا ـ تجسيدًا للذات) بالرؤية، مثلًا ليصبح المرء (متحررًا من الجسد)، وهذا الانسلاخ الرمزي للجسد البشري يعيد تشكيل العالم رمزيًا أيضًا، بصورة أكثر إيجابية.

هوامش:
*جسد متألم: صنعُ العالم وتفكيكه. تأليف: إلين سكاري ـ ترجمة: حسام نايل، المركز القومي للترجمة ـ القاهرة 2018.
*إلين سكاري: أستاذة في الأدب واللغة الإنكليزية تشمل اهتماماتها نظرية التمثيل، ولغة الألم الجسدي، وهيكل اللفظي، وصناعة المواد في الفن والعلوم والقانون.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.