}

جباليا: منصة إطلاق ودرع الطالعين إلى السماء

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 24 فبراير 2024
أمكنة جباليا: منصة إطلاق ودرع الطالعين إلى السماء
المسجد العمري بجباليا يحافظ على شموخه رغم الدمار
الخاطر الأول الذي يحضر مع حضور جباليا شمال قطاع غزة، هو إصرارها، وبعد 140 يومًا منذ طوفان الأقصى وبدء العدوان الصهيونيّ، على أن تظل منصّة إطلاق صواريخ المقاومة، وأن تبقى درعًا بشريًا موقفيًا يحمي الطالعين إلى السماء، الذين اختاروا النضال دربًا للتحرير، وهو، والحق يقال، أوفى دروب التحرير وعودًا، وأجلاها وضوحًا، وأصدقها منهجًا.
صامدة هي جباليا العالية من اسمها، العنيدة رغم جغرافيتها القريبة من عين الشر وحدود الجريمة، وحتى يومنا هذا ما يزال مئات آلاف أهلها وأهل مخيمها ثابتين فوق خرائب بيوتهم، لم يستجيبوا لخرائط الطريق التي رسمها لهم عدوهم، يقول للناس اذهبوا إلى المكان الفُلاني فهو آمن، وحين يفعل المغلوب على أمرهم، فإذا من قيل إنه آمن هو غير آمن. الجباليون أراحوا أنفسهم منذ البداية، وَرأوا أن أمنهم الوحيد هو إيمانهم بربّهم الذي قال: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (آل عمران: 173)، ثم إيمانهم بمقاومتهم، وإيمانهم، أخيرًا وَليس آخرًا، أن بيوتهم هي ملاذهم وحِصنهم الحصين.
كأنّي بهم ينشدون مع المنشدين: "صامدون هنا... صامدون هنا... قرب هذا الدمار العظيم... وفي يدِنا يلمع الرعب. في يدِنا... في القلبِ غصنُ الوفاء النضير... صامدون هنا... صامدون هنا... باتجاه الجدار الأخير".
نعم جدارهم الأخير خيارهم، وهو رهانهم وسِترهم ودِرعهم.
فأيّ الأمكنة هي مدينة جباليا؟ من أي شجن يصعد الناس بها صباحًا نحو أبواب اليقين؟ وما هي علاماتها الخاصة بها؟

جباليا ومخيّمها
لعلّه من الصعوبة بِمكان الحديث عن جباليا من دون الحديث عن مخيّمها الذي كنتُ أفردتُ له في موقع "ضفة ثالثة" مادة خاصة ("مخيّم جباليا: مَهْرُ الطريق من غزّة إلى يافا"، "ضفة ثالثة"، 4 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023)، فالحقيقة أن المدينة التي تبعد عن غزة البلد زهاء أربعة كيلومترات فقط، هي من دون مخيّمها تغدو مجرّد مدينة صغيرة بعددِ سكّان قليل، ولكن أهلها، وعلى قلّة عددهم وتعْدادهم، يتميّزون بصفاتٍ وسجَايا عربية أصيلة كَالشجاعة والكرمِ والنّخوة في الشدّة والرّخاء. كما أن تاريخ جباليا ضارب في القدم شأنها شأن أي مدينة فلسطينية كنعانية، وحين صار داخل حدودها مخيم لاجئين، فإن الناس الذين أقاموا في المخيم جاءوا من مدنٍ ضاربة في القدم أيضًا؛ من يافا واللد والرملة والمجدل وبئر السبع وقرى سِمسم وبَرْبرة ونعْليا وهِرْبيا ويِبنا (أو يِبنة، جنوب غربي الرملة)، وزرْنوقة ودِمْرة ونِجِد وحْليقات وبْرير وديرِ اسْنيد وأسْدود وغيرها، فالتقت العراقة مع العراقة، ونهضا معًا جباليا ومخيّمها، لِيصنعا مجد حاضرهما مسْنودين إلى مجدِ ماضيهِما.
وكعادةِ مخيّمات اللجوء الفلسطينيّ، فقد شكّلت سوق المخيّم الخيار الأول بالنسبة لِأهل مدينة جباليا عند الحديث عن شراء الخضروات وَالفواكه وَاللحوم والملابسِ المسْتعملة وَما إلى ذلك.
رابطٌ آخر يلتقي حوله أهل جباليا البلد وجباليا المخيّم (أو المعسكر كما يطلقون عليه هناك)، هو قوّة الشكيمة، والبأس الشديد، وعُنفوان الإرادة، وفي حين أن المخيم كانت شرارة انطلاق الانتفاضة الأولى (انتفاضة الحِجارة)، فإن جباليا البلد هي أغزر منصّة إطلاق، ودروبُها أوعر دروب لمن تسوّل له نفسه الطّمع في أرضها، أو التطاولَ على مَنَعَتِها.
إلى ذلك، فإن التقسيم الحضريّ، يجعل من مخيّم جباليا جزءًا لا يتجزّأ من باقي مكونات المدينة: مخيم جباليا، مدينة جباليا، النّزلة، تل الزعتر، حي الكرامة، حيّ عباد الرحمن، حيّ الزهراء، مشروع العلمي.

من آثار جباليا 

أمّا الشّريط الساحليّ على البحر الأبيض المتوسط، البالغ طوله زُهاء كيلومتر ونصف الكيلومتر، فهو شريط مشتركٌ للمدينة التي تحدّها من الشمال مدينة بيت لاهيا، ومن الشمال الشرقيّ مدينة بيت حانون، ولمخيّمها كذلك، إنه بحر بلادهم فلسطين، الذي يقبع جزؤُه الباقي شمالًا غرب يافا وحَيْفا وعكّا وكلّ مدن فلسطين المُحاذية له وصولًا لِرأس النّاقورة، تحت نِير الاحتلال الغاشم.
على صعيد التّعداد السكّاني فإن جباليا البلد لا تقل عددًا عن جباليا المخيّم، بل لعلها تزيد عليه قليلًا، ففي حين يصل تعداد سكان المخيّم إلى زهاء 120 ألف نسمة، فإن عدد سكان المدينة يصل إلى حوالي 130 ألف نسمة، يعني أن مجموع سكّان المخيّم والمدينة يُناهز ربع مليون نسمة.

معالمُ العَراقة
مما لا شك فيه أن كنعانيةَ جباليا ما لا يختلف عليه اثنان يعرفان عراقة التاريخ الكنعانيّ وامْتداده في التاريخ القديم فوق مساحات شملت، إضافة لكل فلسطين التاريخيّة ومُدنها، مدنًا وجِهات وأراضي شاسعة وصلت إلى حدود تركيا شمالًا، وكثيرًا من أراضي مصر جنوبًا، وشرقًا كان لها امتداد وصل مشارف أرض الحجاز، ومدنًا في بابل القديمة وما حولها، مرورًا بالبتراء عاصمة الأنباط الكنعانيين. أمّا أن التاريخ لم يسجّل لنا قصة كنعانيةً فوق أرض جباليا فهذا لا يعني أنها لم تكن موجودة أيامهم، فَلعلها كانت مدينة كنعانية سعيدة أنها كذلك، هادئة، كَفَتها غزّة جنوبَها التصدّي للأحداث التي تستحق الإخبار وَتتناقلها الأخبار.
في الزّمن الرومانيّ حملت المدينة اسم جبْلايا، ويبدو أن الرومان أقاموا على جزءٍ من أراضيها مدينة أطلقوا عليها اسم أَزاليا، وبقي الأمر كذلك إلى أن جاء العرب المسلمون، ودحروا الرومان في معركة اليرموك، واستقر جزء منهم في جباليا، فتعرّبت، وتعرّب أهلها، وتعرّبت لغتها، وهو ما يجري حتى يومِنا هذا، حيث جباليا اليوم مدينة فلسطينية، عربية، إسلامية.
في أواخر القرن الثامن عشر وصلتها جماعات عربية غير الذين كانوا فيها، حيث وجدوها قفراء وقد غادرها أهلها، أو قضت عليهم الزلازل وما إلى ذلك. وهؤلاء، الذين يرجع نسبهم إلى عرب الجبارات من بِئر السّبع (كان لهم انتشار كذلك في جنوب الأردن، خصوصًا مدينة الطفيلة) أقاموا بداية في منطقة حملت اسم النّزلة، وامْتزجوا مع من بقي من سكان جباليا. أيامها كانت أرض النزلة لا تتجاوز 24 دونمًا، وتبلغ مساحة جباليا اليوم نحو 4510 دونمات، منها 150 دونمًا للطرق والمَرافق العامة.
تاريخها العريق ترك بعض ما يدلّ عليه وَعليها، فها هو الشيخ الشاعر المتصوّف (1641-1731) عبد الغني النابلسيّ الدمشقيّ العمريّ الحنفيّ النقشبنديّ القادريّ الذي زارها في عام 1101 هجريًا، يُعجب بِها وبِأهلها أيّما إعجاب، وَيصفها قائلًا: "قرية لطيفة الهواء، عذبة المياه، وفي أهلها الصلاح ومحاسن المَلاحة".
وَكعادة كثيرٍ من مدن فلسطين، يوجد في جباليا مسجد يحمل اسم الخليفة عمر بن الخطاب (المسجد العمريّ) الذي يعود تاريخ بنائه إلى ألف عام ماضية، ولكن لم يبقَ من قوامه القديم سوى الرّواق والمِئْذنة، وهو يتكوّن حاليًا من ثلاثة أروقة مدعّمة بأربعة أعمدة حجريةٍ بهيةِ العمارة. ربما علينا أن نقول إنه (كان يتكوّن) لأن العدوان الصهيونيّ الغاشم دمّره بالكامل عندما خصّه بالقصف بتاريخ 20 تشرين الأول/ أكتوبر 2023.




وقد يكون حاكم غزّة المملوكيّ سنجر الجوليّ شيّد في جباليا مسجدًا آخر يحمل اسم مسجد الشمعة، رغم أن بعض الروايات تقول إن هذا المسجد موجود في غزّة وليس في جباليا. وقد يكون وُجد فيها جامعٌ ثالثٌ قديمٌ اسمه جامع أبو برجس.
من معالم عراقتها إلى ذلك، مقبرة كبيرة تعود إلى القرن الثامن الميلادي، وحولها أيقونات هي عبارة عن رسومات لحيوانات بريّة وَطيور وَمناظر ريفية. كما وجد المنقّبون فيها رصيف فُسيفساء، قد يكون مرتبطًا بتاريخها البيزنطيّ، وربما العباسيّ.
وعلى سيرة عهدِها البيزنطيّ، فقد عُثِر خلال إنشاء شارع صلاح الدين على ديرٍ من العصر البيزنطيّ مزدهيًا بِعمارة تلك الأيام، خصوصًا الفُسيفساء.

سِمات
على مِنوال مدينة جبْلة اليمنية، وجبْلة السّورية، تنهض جباليا فوق جبل من الرمال يرتفع عن سطح البحر نحو 45 قدمًا. تُلقي، أوّل ما تلقي، على أبطالها مُطلقي الصواريخ السلام، ثم ترنو إلى هجعةٍ متخيّلة قرب بحرها، الذي تأمل أن يعود قريبًا لها. أرضها خصبة، وحمضيّاتها لا تقلّ شأنًا عن حمضيّات يافا وحيفا، فالموئِل واحد، والشغفُ نفسُه هُنا وهُناك.
مُترعة الحدائق كانت، مترعة الحدائق سوف تبقى. الزراعة ديدنُ أهلها الأوّل وَالأهم، كما هي حال معظم أهل فلسطين، مزارعون بالفطرة والوِراثة والهَوى. صحيح أن معظم أهلها فاتِحو البشرة، لكنّ عزيمتهم سمراء من سُمرةِ أرضهم، أولو بأسٍ شديد، مساجدهم مدارسهم، كان فيها ألواحُ من الصفيح يكتبون عليها، وكانوا يستقبلون فيها ضيوفهم الوافدين إليهم من أهل العلم وغيرهم، وكانوا إذا أرادوا الحج احتفلوا في الليلة الأولى قبل انطلاقهم، ومن عاداتهم عند الوداع ضرب الطبول والدّبكة، مع إنشاد "طلع البدر علينا"، وفي كل المناسبات والأفْراح تراهم يلبسون السراويل والطَرابيش المنْسوجة من الصّوف ووبرِ الجِمال وغيرها، والقنْباز ولبسِ الحطّة والعِقال. أفراحهم حتى الصباح، ولائِمهم عامرة، بيوتهم مفتوحة للضيفِ وَعابر السبيل، مغلقةٌ أمام اللصوص وسرّاق التاريخ وَالجغرافيا.
كانوا يحرثون الأرض بمحراثٍ من الخشب، ويبْذرونها بِاستخدام الدّواب وَالحمير، نصف الناتج لِصاحب الأرض والنّصف الآخر لهم، قمحٌ وشعير وعدس وغير ذلك من الحبوب والمَقاثي. أما خبزهم كَفاف يومهم، فَأرغفته طابون (أو طبْن النار كما يسمّونه). جدران بيوتهم الطينية كانت مخازنَ لحبوبِهم.
الخليل وغّزة كانت وجهتيْهما الأهم بيعًا وشراء وتبادل سلع، يستوردون منهما زيت الزيتون والحلويات والأقمشة، ويبيعونهما الخضروات والحمضيات والفواكه واللوز والتين والزيتون، حيث سوق التركماني شرق غزة هو حقل نشاطهم الاقتصادي.
كانوا يتقاسمون الحياة بحلوِها ومرّها، وحين اجتاح غزّة الجراد في عام 1914، وقف أهل جباليا معهم، وَأغاثوهم، والأمر كذلك حين اجتاح جباليا وباء الكوليرا بعد كارثة الجراد بأعوامٍ قليلة، فقد هبّ أهل غزّة لِدعمهم والتّخفيف عنهم.
تأسست أول مدرسة لِلبنين فيها عام 1919، وَبلغ عدد طلابها نحو 345 طالبًا، المدرسة كان فيها مكتبة بلغ عدد كتبها نحوَ 536 كتابًا. أمّا أول مدرسة إناث فقد تأسست في عام 1921، وبلغ عدد الطالبات فيها نحو 59 طالبة. في عام 1937 تأسّست في النّزلة مدرسة حليمة السعديّة.

همسة أمل من جباليا 

ومثل باقي مدن غزّة فيها القليل من المؤسسات الثقافية، الكثير من المؤسسات الطبية والدعويّة والمجتمعيّة (مستشفى العودة وعدد من المسْتوصفات وَالمراكز الطبية، خصوصًا في مخيّمها)، وفيها مبنى الأولمبيّة الفلسطيني، وَيكفي أن الشاعر الغزّيّ هارون هاشم رشيد (1927-2020) ابن حي الزيتون، خصّها وخصّ مخيّمها بقصيدة سنجعلها مِسك الختام:

"أواهُ يا جَبَالِيا... يا ساحةً للغضبِ
تَفجَّرَتْ مِنْ نَسْغِها... بالعَارضِ المُلْتَهبِ
فَأذْهَلتْ عالَمَنا... بِطِفْلها المُنْتَصِبِ
وأيقظتْ أيَّامَنا... على الصَّدى المُصْطَخِبِ
***
(2)
جَباليا... جَباليا... وينهَضُ المُعَسْكَرُ
فَكلُّ بيتٍ جَمرةٌ... وكلُّ شِبرٍ حَجرُ
وكلُّ طفلٍ ثورةٌ... مَشبوبةٌ، تَنفجِرُ
تَقولُ يا أعداءَنا... جِئناكُمو، فانتظروا
***
(3)
أقَريةٌ أم دولةٌ... يَرِفُّ فيها العَلَمُ
هُنا... هُناكَ عِندها... ما لَمْ يَخط القَلمُ
فألفُ ألفُ امرأةٍ... مَوْجٌ عَريضٌ عَرِمُ
يَقولُ يا أعداءَنا... جِئناكُمو، فانْهَزِموا
***
(4)
جَبالِيا وليلُها... وصُبحُها... والزَّمَنُ
توقُّفُ في بابِها... توقُّفٌ مُرْتَهَنُ
هُنا، فهاتُوا مِثلَها... هُنا تَمورُ المِحَنُ
هنا فهاتوا مِثلَها... يصرخُ فينا الوَطنُ".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.