}

بيت حانون: حيث تُشْرِقُ الشمسُ كلَّ يومٍ من جديد

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 3 فبراير 2024
أمكنة بيت حانون: حيث تُشْرِقُ الشمسُ كلَّ يومٍ من جديد
سيعمّر أهل بيت حانون بيوتهم من جديد
عند أقصى شمال شرق قطاع غزّة، تثقبُ (حتى لا أقول تخزقُ، أو تخوزِقُ) مدينة بيت حانون عينَ الاحتلال. كَفٌّ أبيّةٌ عصيةٌ تقاومُ المِخرز. رمحٌ نافذٌ يغرزُ فنون بطولاتِهِ في قلب أكاذيب العدوّ حول منَعَتِه.

في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول المجيد مرّ المجد من معبرِها (معبر بيت حانون) نحو البلاد التي لم تغِب يومًا عن البال، البلاد التي ما إنْ صارَ الأبطالُ الذين سطّروا الأسطورةَ داخلَ مدّها حتى خرّوا ساجدينَ شاكرينَ حامِدين.
دعكم من الّلبس القديم المَتناقَلِ حول حكايةِ اسمِها واجتهاداتِ نسبِها، بينَ من ينسبْها لحانون القرطاجيّ المستكشف البحريّ البريّ الذي أُمِرَ برحلةٍ تتنكّب أعمدةَ هرَقل وتمضي نحوَ ما ورائِها، وبينَ من ينسِبها لحانون العمّونيّ ابن ناحاش، وبين من يربط اسم المدينة بِملكٍ كنعانيٍّ يُدعى، بحسبِ هذه الرواية، حانون (أو حانو)، ويؤكد أنصار هذه الربطِ التاريخيّ أن اسم هذا الملك ورد في جداريات معبد مدينة العمرانة الفرعونية (رسائل، أو مَسارد، أو أرشيف تل العمارنة) الوارد فيها، كما يؤكدون، أن حانون الكنعانيّ طلب من الفرعون أخْناتون قبلَ 6000 عام (يعني في الألف الرابع قبل الميلاد) العونَ لصدِّ الغزوِ الآشوريّ ضد مملكة حانون شمال شرق قطاع غزة!
دعكم من كلِّ هذا التّضارب، فما من شيء موثّقٌ حول رواياتِ اسمها جميعها، وما من شيء يقينيٌّ، ومن أدرانا فلعلّ الاسم جاء من الحنوّ والحنيّة، فأهلها كرامٌ ليّنو المعشر إنْ لم يلمحوا طمعًا في عيون المارّين من مدينتِهم المشعّة بالجمالِ والتنوّع والتدافعِ الحيّ نحو أسباب الحياة. وهم زئيرُ الأرض وشراسةُ النِزال وانفجارُ الطوفان إن لَمحوا، ولوْ لمحةً، من مطمعٍ، أو خطيئةً من غدر، أو حماقةً من تطاولٍ، أو كسرًا لأعرافِ القيم الإنسانية بين بني البشر، وأصولِ تعاملهِم في ما بينَهم.
باستبعادِنا ارتباط اسمِها بِحانون العمّونيّ، فلا شيء يقول إن مملكةَ العمّونيين وصلت إلى حدود غزّة، واستبعادنا ارتباط اسمها بِحانون القرطاجيّ، فأخبار رحلتِه مُقتضبة، وهي في أساسها كانت نحو إفريقية (اسم ليبيا القديم) والممرّات المائية هناك على امتداد شمال غرب أفريقيا القديمة، مرورًا ببعض مدن المغرب وأثيوبيا وما حولهما، فما يبقى بين يدينا هو ارتباطَها بِحانون الكنعانيّ، علمًا أن الحَوَانين الثلاثة هم في الأصل كنعانيون؛ فالعمّونيون كنعانيّو الأصل (كما يرِدُ في كتاب أحمد عويدي العبّادي "محطات في تاريخ الأردن وعشائره" حول الممالكِ الأردنيّة القديمة)، وكذلك القرطاجيون/ الفينيقيون كنعانيّو الأصل. ها نحن نصل إلى زبدةِ إطالتِنا هنا، من أن بيت حانون، شأنَها شأنَ كلِّ مدن فلسطين، واحدةٌ من بنات كنعان، وهذا ما يهمّنا قبل أن نبحر في تفاصيلها قبل الطوفان وبعده.

الأيدي الطاهرة

مواسم ثمار الفراولة في بيت حانون في قطاع غزة 


طاهرةٌ أيادي رجال بيت حانون ونسائها، تعشق العمل، وتبدع فيه، تمامًا كما تتقنُ حمل السلاح، وتحمي عبْره حدودَها من مسافة المستحيل. عشراتُ الأمتار فقط تفصلها عن المعبرِ الذي يسيطر عليه الاحتلال بالكامل، ومع ذلك تحوّلت هذه الأمتار القليلة إلى كابوسٍ يفشل العدوّ حتى يومنا هذا من إعلان سيطرته الكاملة على مدينة هدّمها عن بكرةِ أبيها، حوّلها إلى كومةٍ من حجارةٍ تحضن في تعاريجِها أبطالَها، يخرجون من حيث لا تحتسبُ الخُرافة، يفجّرون ما تبقّى من بيوتهم باللصوصِ داخلها.





عمّالٌ مَهَرَة شباب بيت حانون، واحد منهم، على سبيل المثال، هو محمود الكفارنة، استخرج الوقود من البلاستيك. صحيحٌ أنه يقيم في جباليا، ولكن الكفارنة من عائلات بيت حانون. على كل حال تتوزّع عشيرة الكفارنة معظم بلاد الشام؛ انطلاقًا من مدينة لوبية قرب طبرية، وصولًا إلى درعا السورية، ومخيم اليرموك، ومخيمات لبنان، مرورًا بالأغوار الشمالية في الأردن (المشارِع على وجه الخصوص). جاءوا مع أمين الأمّة أبو عبيدة عامر بن الجرّاح، ثم ساروا إلى بلاد الشام الواسعة.
في المجمّع الصناعيّ المقام غربي المدينة (في الهاشميّة الغربيّة)، يعملون في البِناء (كل ما يتعلّق بالخرسانة، والقصارةِ، وَصناعة البّلاط، والدّهان، وَما إلى ذلك)، في الصناعات الخشبية، والبلاستيكيّة، والحِدادة، في صناعة مواد التجميل، وصناعة الأدوية، ينسِجون ويشيّدون ويُنشِدون، فالأرضُ مع موّالها تحنّ، والليل مع أشواقه يعنّ.
أيدٍ طاهرةٌ قرّرت، وبشكلٍ نهائيّ، أن تكنُس الدّنس من حولها.
 
مروج البهاء
رغم أنها متنوّعة التضاريس؛ بين سهلٍ وتِلال، إلا أن مروجَ بيت حانون أخّاذة المشهد، عتيقةُ الحَنايا، خصبةُ الوُعود. أمّا زيتونها وباقي أنواع شجرها المُثمر، فهي العدوّ اللدود لاحتلالٍ جبان، يرتعبُ أنَّ خَلْفَ كلِّ شجرة مُقاتل، وتحتَ كلِّ سنبلةٍ لُغُم، وَعليه، لا يدعُ مناسبةَ جرفٍ تمرّ من دون أن يجرفَ ما تسنّى له أن يجرفَه من حقولها الخضراء. التجريفُ هوايتُهُ المريضة، تمامًا كما هو الإنْبات والإخْصاب وَبَذْرِ أسبابِ الحياة، هوايةُ أصحاب الأرض من فلسطينيّي بيت حانون.
وَكما هي الحال في يافا، فإن بيت حانون عميمةُ الحمضيّات، غزيرةُ الخضروات... وَمن بينِ يدي رجالها وَنسائها تطلع الفراولةُ وافيةَ المحيّا، شهيّة الأغاني...  كيف لا وأهلُها يحبّون الحياة إذا ما استطاعوا إليها سبيلا... وهم يزرعون حيث أقاموا نباتًا سريع النموّ، ويحصدون حيث أقاموا قتيلًا.

صغيرةٌ كبيرة

في بيت حانون شارع يهدر نحو فلسطين


صحيح أن بيت حانون صغيرةٌ في حجمها ومساحتِها، إلا أنها كبيرةٌ في تطلّعاتها وَعديد سكّانها. وَكما هي حال مدن القطاع جميعها، فإن كثافة الناس هناك واضحة، وكثيرٌ من أهلها لم يغادرها بعد بدء العدوان البرّيّ الصهيونيّ في السابع والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي 2023.
في بيت حانون سوق واحدة تقريبًا (سوق الخميس)، فَمخيم جباليا ليس بِبعيد عنها، وهناك الأسواق والأرزاق، لا يحتاج الراغب بالتسوّق من المخيم، حيث عالية هناك أصوات الحياة وَالباعة، سوى أن يسير على قدميه مسافة ثلاثة كيلومترات، أو أكثر قليلًا، ليصبح في قلب المخيم، وقلبِ سوقهِ الكبير.
وإذا اعتبرنا أن مسجد النصر الذي هدمتْه جرّافات الاحتلال في عام 2006 هو المَعْلَم التاريخيّ الأهم في بيت حانون، فإن المعْلَمَ المجتمعيّ الأهم هو خلوّ المدينة، تقريبًا، من أيِّ أمّيٍّ، أو غير حاصل على شهادة مدرسية، أو درجة أكاديمية، إذ تكاد نسبة المتعلّمين تبلغ في بيت حانون رقم الاكتمال 100%، قد ينقص أقل من واحد في المئة.
الهدمُ والتجريفُ لا يقتصر على مسجدها الذي يعود تاريخه إلى 800 عام ماضية، ولا يقتصر على عام 2006، ففي ثلاث مناسبات: 1948، 1956 و1967، ظل العدوان من دون هوادة يجرّف في المدينة وآثارها وتاريخها وعمرانها، لكنّها، كانت، في كلّ مرّة، تنهض من جديد. ولأن فيها عمالًا مَهَرة، فقد كانوا يعيدون عمارتها بنضارةٍ متجدّدة، ووعود مُتصاعدة نحو البِناء والبَقاء.
شيّدوا أبراج العودة، وأبْراج الندى، وأبْراجًا غيرهما، وَبنوا بيوتًا داخل بساتينِهم، وَأحسنوا عمارةَ مدينتِهِم. وبعد أن كانت معظم شوارع المدينة التي كان يمرّ منها ذات زهوٍ خطّ سكّة الحديد، غير معبّدة، بات معظمها اليوم ينعم بإسفلتٍ نظيف. ومن أهم شوارعها: شارع غزة ـ يافا (شارع خليل الوزير حاليًا). قبل عام 1948، كان الشارع يتّجه من غزة إلى الشمال مارًا بِجباليا البلد، ثمّ بيت حانون، ودير سْنيد، وبرْبرة، ونِعليا، والخْصاص، ومن ثمّ المَجدل. وعند دوار جولس، تتفرّع طريق إلى يافا تعرف بالطريق الغربية، مارّةً بأسدود، ثم يِبنا، فزرْنوقة. أما الطريق الأخرى فتسمّى الطريق الشرقيّة، حيث تستمر من جولِس إلى السّوافير، ومنها إلى القسْطينة، فالمَسْمِيّة. وعند المسميّة، تتفرّع يمينًا نحوَ القدس، مرورًا بِوادي الصرّار، فالّلطرون، وتلتقي هناك مع الطريق القادمة من يافا مرورًا باللد والرملة.





إضافة إلى هذا الشارع الرئيسيّ المهم، في بيت حانون شوارع أخرى كثيرة: الواد، زمّو، الزيتون، غزّة، العجوز، البعْلي، الشّهيد فايز حمد، السّاقية، المغاير، المصريين، دُمرة، أبو عودة، حيّ الأمل، بورِة الشوّا، أبو غزالة، القطْبينة، البنات، المضخّة، وغيرها من الشوارع. إضافة لِبعض الشوارع الترابية مثل: شراب، الباشا، النزّازة، الفرْطة، أبو رمضان، أبو نحلة الشمالي، والمدينة الرياضية، وغيرها.
في المدينة، إلى ذلك، مدارس كثيرة، ومستشفى، وعيادات، وفيها المدرسة الزراعية الوحيدة في القطاع، كما هي العرّوب المدرسة الزراعية الوحيدة في الضفة الغربية، وجمعيات، وناديان رياضيان، ورياض أطفال، ومؤسسات ومختلف مباهج الحياة.
يقال إن بعض الأكراد الذين رافقوا صلاح الدين الأيوبي، استقروا في بيت حانون، وربما أن أصول حَمولة الزَّعانين، وبعض عائلات المدينة، تعود إلى هؤلاء الكُرد الذين آثَروا الاستقرار فيها.
وُيقال أيضًا، وأيضًا، إن لِشروق الشمس في بيت حانون نَكْهَةُ البدايات... حيث كلّما أشرقت الشمس من جديد... نهضت المدينة من جديد... وزغْردت نساؤها مبتهجاتٍ بِمولودٍ جديد... وقرّر رجالُها أن يحرّروا معبرَهم نحوَ فلسطينِهِم من جديد.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.