}

عن الكسل شفاءً من "مرض العمل"

فريد الزاهي 5 فبراير 2024
إناسة عن الكسل شفاءً من "مرض العمل"
(Getty)

بين الفينة والأخرى، يتصل بي بعض طلبة الماجستير، أو الدكتوراة، في وسائل التواصل الاجتماعي، طالبين مني إفادتهم بمراجع في هذا الموضوع أو ذاك، في وقت صارت فيه مكتبات الجامعات التي ينتمون إليها مشحونة بالمراجع والكتب التي تهمّهم، وفي زمن صار لنا فيه مكتبة وطنية، وتعلن فيه صفحات الكتاب والناشرين والقراء عن منشوراتهم، وتعج مواقع كثيرة بالكتب المنسوخة والمسروقة بصيغة البي دي إف، القديمة منها والجديدة، بمجلداتها الوحيدة، أو المتعددة. لم يعد استجلاب كتاب جديد أو قديم باللغات اللاتينية يتطلب السفر إلى الخارج، يمكنك طلبه ورقيًا، أو بصيغة الكندل، مباشرة من وكالات كأمازون، أو غيرها. المعرفة أضحت عتبة قريبة منا، غير أن ثقتنا في من هم أكثر معرفة منا زائدة عن اللزوم، والوقت أضحى لا يسعفنا ولا لأن الكائن المعاصر ليس له الوقت، ولكن لأن هذا الوقت ينفلت منه سيالًا من بين يديه.
كل شيء صار يوجد بين أيدينا. حتى العمل صار ممكنًا عن بعد (بعدما أثبتت جائحة كورونا فاعليته). نحن لم نعد نتنقل لتأدية الفواتير، ولا لاقتناء الأجهزة، والملابس نفسها تصلنا حتى عقر دارنا. ويمكننا أن نمتطي دراجة بيت ونسير بها الكيلومترات الوهمية، أو نتمشى ونجري على شريط متحرك في مكان ما من غرفتنا، من غير أن تطأ قدمانا عتبة البيت. والأسواق الكبرى أضحت تمكّننا من اقتناء حاجياتنا بالتطبيقات التي تخلقها، وكأننا عجزة لا يسعفهم جسدهم على الحركة. أما وجبات الطعام فتتكلف بتوصيله لنا شركات متخصصة في ذلك. لم يعد المرء مضطرًا للحركة، يمكنه أن يظل حبيس بيته، أو مكتبه، وينزل إلى قبو العمارة، أو مرآب السيارة ليمتطيها من غير أن تغبرّ قدماه بتراب الطرقات، أو تتسخا بطميها، أو تبتلا بماء المطر. لقد صرنا كائنات منغلقة في مسير محدد كفئران المختبرات.

من الحق في الكسل إلى الكسل الاضطراري
إذا كان اليونان قد منحوا للعطالة والخمول دورًا هامًا في حياتهم، فذلك لأنهم قسموا مجتمعاتهم إلى أسياد خاملين، لا يهتمون إلا بالحرب وملذات الحياة، وإلى عبيد يقومون بالأعمال كافة التي تسمح لهم بالعناية بكسلهم والتفرغ للفكر والفنون والرياضات. بيد أن الحضارة (حضارة الغرب بالأساس) ظلت تقدس العمل والشغل إلى حدّ أضحى رافعًا للتقدم والتطور والنماء. لقد أدرك ماركس أن العمل قيمة مفارقة لأنها (بشكل ما كما كان الأمر في بلاد الإغريق) تخلق طبقة منتجة يستعبدها العمل، وتسلب منها قوة عملها، ولا تستفيد من المنتجات التي تصنعها، وطبقة خاملة تعود لها قيمة الإنتاج. ولعل هذا الاستلاب الذي يخلق اغترابًا للعامل عما ينتجه، هو الذي دفع صهر ماركس الفرنسي بول لافارغ لأن يترك لنا، في وقت مبكر، كتابًا يبدو غريبًا من عنوانه: "الحق في الكسل"، يدعو فيه إلى تقليص ساعات العمل إلى أقل من أربع ساعات في اليوم. وهو النداء الذي سوف يستعيده برتراند راسل لحسابه الخاص داعيًا إلى إنسية يكون فيها العمل قيمة كفاية لا قيمة تقدم وإنتاج مفرط.





الحق في الخمول لم يكن فقط ديْدن المفكرين المناضلين، بل الفنانين والشعراء أيضًا. ففي الفترة نفسها، كانت هذه الصيحات المبحوحة في غرابتها كأنها صدى بدعوات المتصوفة إلى الخلوة والسياحة (الترحال) والتأمل في عجائب الكون وأسراره. ماليفيتش كان من أوائل الفنانين الذين دعوا إلى تدمير قيمة العمل (1921) باعتبارها "أم الحياة"، مبينًا أن دور الحضارة هو أن تنحو إلى تحرير الإنسان من العمل، لتمكنه من كامل تفتحه الوجودي: "العمل يلزم أن يكون شيئًا ملعونًا، كما تعلمنا ذلك الحكايات حول الجنة، في وقت يلزم أن يكون فيه الكسل الهدف الأساس للإنسان. بيد أن ما حدث هو العكس تمامًا. هذا الانقلاب هو ما أرغب في تسليط الضوء عليه". وليس بأبعد عن التصور في الفترة نفسها، مطلع النص الذي نشره الفرنسي أوجين مرسان بعنوان "مديح الخمول": "تصوروا قصرًا. القصر سيعجبكم. لا أن تتصوروا مصنعًا هائلًا بنيت بكلفة باهظة، مثل متحف، بل مثل مسكن".
صحيح أن هذه الآراء "الغريبة" في وقت ذروة الرأسمالية كانت تبدو أشبه صيحات في واد عميق. إنها بيانات دونكشوتية ضد الإنتاج المفرط. يسمى وقت الراحة وقتًا ثالثًا ووقت فراغ، وكأن الإنسان أضحى، بتعوده على العمل بوصفه قيمة مطلقة، يخاف اللاعمل، ويعده هامشًا في الحياة؛ بل وكأن العمل صار ميزة جوهرية من ميزات بني البشر. بيد أن الأنثربولوجيا جاءت لتبين محاسن الخمول والكسل، فقد أكد كتاب الأنثربولوجي جيمس سوزمان: "العمل: تاريخ عميق من بداية العصر الحجري إلى عصر الروبوهات"، التي انطلقت من دراسة قبائل عاشت منعزلة في ناميبيا وبوتسوانا على أن طريقة هذه القبائل في الحياة كانت تنبني على أقل قدر من العمل، وهو ما كان يمنح أفرادها صحة جيدة وحياة بهيجة مبنية على الرضى لا على المنافسة والصراع. كيف انتقلنا من هذا العالم، إذًا، الذي يقدِّس أوقات الراحة، أو الفراغ، إلى ثقافة تجعل منها مجرد تأثيث باهت لأوقات العمل؟ لقد غدا الإنسان المعاصر يمارس في أوقات فراغه الرياضة واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي، والشوبينغ، وغيرها. وهي ممارسات لصيقة بمفهوم الإنتاج، ومتصلة به، لأنها خادمة له. لقد تميزت المجتمعات البدائية ومجتمعات الماضي (التي عشنا ملامحها الأخيرة في الستينيات) بما يسميه دوركهايم "قيمة التبادل"، أو القيمة المتعددة التي كانت تجعل من الشامان في الآن نفسه صيادًا، ومن إمام المسجد والفقيه والمؤذن جزارًا، أو بناءً، أو تاجرًا، أو معلمًا، وخياطًا، من غير تخصص يحول الفرد إلى شخص وظيفي محدد مرهون بعمل ما. بل إن الإدمان على العمل أضحى قيمة كبرى في كثير من البلدان مبنية على المردودية والجزاء، وتحويل محل العمل إلى إقامة دائمة؛ إلى حد أن الاسم يستبدل أحيانًا بالوظيفة...
لقد انتقلنا من الحق في الكسل والخمول إلى الكسل الاضطراري، وصار الجسد ضحية لهذه الممارسات، وكثر الاكتئاب لدى الناس، ومعه ظاهرة الستريس، والاختناق الوجودي، والانتحار، والانطواء، وغيرها من المظاهر النفسية الناجمة عن عدم التوازن بين العمل والراحة.

كيف يكون الكسل قيمة وفضيلةً؟

إميل سيوران: الكسل والخمول هو الارتيابية التي ينهجها البدن


يرى سيوران أن الكسل والخمول هو الارتيابية التي ينهجها البدن. إنها ارتيابية لا يتدخل فيها العقل إلا بمقدار، و"لكي يتم التوصل إلى تلك الحال، من اللازم منح مكان للكسل بين الفضائل الجوهرية وللارتيابية بين الكنائس والشرائع". إن سليل مشيل دو مونتيني هذا قد أدرك بشكل مغاير أن الذات في حاجة إلى أن تأخذ مكانها وحريتها في عالم أضحى مبنيًا على النظام الصارم. وإذا كان دو مونتيني يفسح لهذه الذات إمكان البزوغ وتأكيد نفسها في عالم كان مبنيًا على نظام الجماعة وشرائعها، فإن العالم المعاصر، وهو يمنح للذات والفردانية شرعيتها وحريتها الشخصية، يحرمها في العمق من هوامش حياة مبنية على نظام العمل والإنتاج والاستهلاك وتقنين الراحة.
في خضم هذا التمرد على قَدَرية العمل والإنتاج والإدمان على الشغل، يطرح الروائي الإيطالي أليساندرو باريكو في رواية "مستر غوين" (نقلتها إلى العربية أماني فوزي حبشي، وصدرت عن منشورات الجمل)، الحق نفسَه في العطالة بالعلاقة مع مهنته ككاتب: هل يمكننا الهروب من علّة كينونتنا، خاصة إذا كان تعلق الأمر بالكتابة؟ هل يمكن للكاتب أن يشعر بالضجر من وظيفته الحياتية والحيوية ككاتب، وأن يتخذ في لحظة إشراق قرار التوقف عن التأليف والبحث عن بديل آخر؟ يتخذ الكاتب في الرواية قرار الامتناع عن الكتابة، ويسافر إلى إسبانيا ليعيش حياة عادية. لكن كيف يمكن لشخص تعوّد على العمل (الكتابة) يوميًا أن يصوم عنها نهائيًا؟ "لكنه، كانت تعاوده باستمرار تلك الحاجة لأن يكتب، وكان يفتقد تلك العناية اليومية التي كان ينظم بها أفكاره في شكل عبارة مستقيمة. أصبح، تلقائيا، إذًا، يعوض ذلك النقص بطقس خاص به، بدا له أنه يتسم ببعض الجمال: أخذ يكتب في ذهنه وهو يتمشى، أو وهو يستلقي على فراشه، والضوء مطفأ، منتظرًا أن يستسلم للنوم. كان يختار الكلمات، ويبني العبارات. كان يمكنه بهذه الطريقة أن يطرقع أصابعه، أو أن يقوم ببعض التمارين الرياضية، وبالتدريبات نفسها. كان ذلك أمرًا بدنيًا، وكان يروق له (...) في إحدى المرات، حدث له أن كتب، بهذه الطريقة، نصًا عن مباراة بوكر كاملة. وكان في الحكاية طفل من بين اللاعبين" (ص 15). وسوف ينتهي الكاتب إلى أن يختار مهنة الناسخ لكي يتحرر من سلطة العمل.




تفصح الرواية عن أمرين: أن الكسل والخمول، كما العمل، أمران لا يتعارضان في الأصل بشكل مطلق. فقد أظهر علماء النفس والأعصاب أن النوم ليس خمولًا، لا للجسم، ولا لبنيات الإنسان النفسية، ففيه يشتغل اللاوعي والحلم، مثلما أن الخمول يحرر أحلام اليقظة. يشتغل الذهن في عطالته عن الكتابة، لأن الكتابة في الذهن تتم بالصور، سواء كانت صورًا ذهنية، أو صور كلمات، كما هو الأمر في الأحلام (باعتبارها حكايات، أو شذرات حكاية، أو ومضات وصور). كما أن المشي يحرر الذات من معضلاتها وإكراهاتها ويعيد بناءها، حتى لو كان مشيًا لذاته من غير مقاصد في التنقل. فالراحة كما الكسل والخمول القصدي ليست حقّا فقط للجسم وللذهن، وإنما هي أيضًا فسحات لاستعادة الفرد لجسده وتملّكه له بعيدًا عن ضغوط القوانين الاجتماعية للعمل والإنتاج. وحين يستعبد هذان الأخيران الجسم، يخلقان هوة كبرى بين الكائن وجسده ورغباته. إنه يغدو مملوكًا أو كائنًا من أجل الآخرين، مغتربًا عن إنتاجه كما عن عمله. والكاتب مهما ارتبط إنتاجه بذاته فهو بمجرد نشره يغدو ملكًا للآخرين بالرغم من حقوق الملكية الأدبية والفكرية، التي تغدو، في آخر المطاف، مَشاعًا لسبعين عامًا بعد ذلك.
مع كل هذا، يظل البعد السياسي لمديح الكسل مشحونًا بالديمومة وطراوة المعنى. فارتيابيته الاستراتيجية إزاء العمل والإنتاج المفرط تملك راهنيتها في التحسيس الذي ينطوي عليه، ولو بشكل موارب، تجاه تدمير الطبيعة والإنسان معًا، وتحويل الكائن إلى آلة إنتاج وعمل تُسرق منه حياته وما ينتجه. وحين يستعيد وقته، يكون جسده قد وهن وحياته قد باتت وراءه، ويكون العمل قد استلب منه شبابه وكهولته. من ثم، فإن الكسل والخمول يغدو فضيلة وقيمة بأبعاده المتعلقة بإعادة بناء ذات الكائن الإنساني وهويته وحريته.
الكسل النشط والقصدي يقوم على فلسفة للحياة، وعلى فكر وتصور للوجود، كما على بعُد نقدي فاضح لمنزلقات الحياة المعاصرة ومخاطرها. أما حين يغدو نمط حياة تقوم على كدّ وعمل الآخرين، فإنه يكون بدوره استعبادًا للآخر. والوفرة التي تعرفها حياتنا الاجتماعية الراهنة، التي نجم عنها الكسل الجماعي، تحول هذه "الرفاهية" المعاصرة إلى كسل مرضي، وإلى سيولة ينسى فيها الكائن ماهية وجوده. وثمَّ يكمن الإشكال: الكسل الذي يؤجج فاعليتنا باعتباره موقفًا سياسيًا ووجوديًا، والكسل الذي نكون ضحية له باعتباره نتيجة لحياة سائلة تجري بنا على هواها...

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.