}

مذكرات السياسيين: واقع أم متخيل؟

سميرة المسالمة سميرة المسالمة 16 مارس 2024
تفتح مذكرات السياسيين أبواب الذاكرة الشعبية على مصراعيها، وتهيج في دواخل القارئ رغبة الغوص في الحدث، الذي ربما كان شخص المطلع عليها، أحد ضحاياها، كجزء من خسائر صراع الراوي والمروي عنه من أحداث وظواهر وسياسات، حيث يعتقد المتلقي أنه سيحظى بفرصة الاطلاع على ذلك الماضي غير المعلن عنه، أو على أسرار الدولة التي يرغب فضوله في معرفتها، أو تفسير أسباب حدوثها، بقلم السياسي المتحرر من أعباء منصبه من جهة، وعبء الواقع الراهن للحدث، وهي تفسر، أو هي امتداد لواقع الفرد والمجتمع والدولة، والعنوان لمستقبل كل منهم.
وقد قدمت بعض المذكرات لسياسيين غربيين إضاءات على أحداث وقضايا وتحولات عايشها الراوي، وكان لها الأثر الكبير في محيطها والعالم، لكنها، ومع ما يتمتع فيه الغرب من مساحة حريات فردية وجماعية، لاقت كثيرًا من النقد والتكذيب أحيانًا، وقدم شهود ما يناقض تلك الروايات، أو يعاكسها، على أهمية وجود أكثر من رواية حول أحداث عالمية، كالحرب على العراق التي شنتها الولايات المتحدة الأميركية تحت ذريعة "مخزون سلاح الدمار الشامل"، حيث توضح الروايات المختلفة حول ذلك آلية اتخاذ القرارات في الدولة العظمى!
وهو ما يؤكد أن هذه الكتابات ـ على الرغم من صدورها في بلاد الحريات ـ لا يمكن اعتمادها كوثائق تاريخية، في دول يمتلك مواطنوها حقوق المواطنة الكاملة، وتعد رمزًا للديمقراطية في العالم، كما هي الحال في الولايات المتحدة الأميركية، أو بريطانيا التي لم يسلم أي من سياسييها من انتقاد مذكراتهم، ووصفها بعبارات تحط من قدرها ومصداقيتها، ومثال ذلك مذكرات نائب الرئيس الأميركي الأسبق، ديك تشيني، فكيف هي الحال في الدول التي يعاني فيها المواطنون من انتقاص في معظم حقوقهم، ومنها حق التعبير عن الرأي وحرية الإعلام؟
في المقابل، فإن جملة ما يرويه سياسيو البلدان العربية، وبخاصة تلك التي شهدت ثورات الربيع العربي، عن يومياتهم في مناصبهم الحكومية بعد مغادرتها، سواء كانت من مسؤولين مناصرين للسلطة، أو انقلبوا عليها، فإن الهدف منها ليس شرح واقع أنظمتهم، وأساليبها، وطبيعة اهتمام الحكام بتمتين إمساكهم مقاليد الحكم، على حساب واجباتهم تجاه دولهم ومواطنيهم، وإنما الرغبة في تبرئة أنفسهم، أو التأكيد على موقفهم المساند لرؤسائهم، وهي في المجمل تؤكد أن الحياة السلطوية في بلادنا لم تتغير محاورها الأساسية، منذ استقلال الدول منتصف القرن الماضي، إلا ما ندر، ولأسباب فرضتها الظروف الخارجية، وطرائق الحياة ما بعد الثورة التكنولوجية.
وربما يصح القول إن معظم تلك اليوميات إن صدرت من مؤيد غير معارض للسلطة الحاكمة، كما هي الحال مع مذكرات فاروق الشرع، مع أهميتها، لتأريخ وقائع أحداث وتنظيم مراحلها، وتسجيل أسماء الفاعلين فيها، لا يمكنها أن تقدم لنا الحقائق كاملة (على الرغم من السيرة الحسنة للشرع خلال مسيرته الوظيفية)، لأنها في دول تحكمها الأنظمة الديكتاتورية التي تمتد سياطها وسلطتها إلى ما بعد حكمها على الراوي، إلى أهله ومن حوله، وأحيانًا إلى قرائه، حيث تحظر أجهزتها الرقابية ما تشاء من كتب، وتحظر قراءتها، وتعاقب من يخالف أوامرها، وتسمح فقط بما يتوافق أو يخدم سرديتها، وتبرير مواقفها.




وهي يمكن أن تندرج في إطار الاسم الذي قدمه كاتبها (الشرع)، وهي (الرواية المفقودة)، أي رواية السلطة، وضمنيًا لا تعني الرواية التي تمنحنا كل الحقيقة، بقدر ما تكون هي الرواية الرسمية التي تعامل معها الشرع كمسؤول تنفيذي كبير في حكم الأسد الأب، ولاحقًا في حكم الأسد الابن، وأهميتها تنبع من أنها الوثيقة الوحيدة من جهة رسمية سورية التي تسرد وقائع المفاوضات السورية ـ الإسرائيلية التي بدأت عام 1991 ومرت بمراحل مختلفة، ولا يمكن حتى اليوم الجزم بأنها قد انتهت مع انتهاء دور (الشرع)، إلا أن تلك الرواية لم تقدم المذكرات اليومية لأحداث مهمة مرت بها الدولة السورية خلال تولي الراوي لشهادته الشخصية، فغابت عنها الأحداث المحلية التي يبحث عنها السوريون.
وعلى الجانب الآخر، فإن تلك السرديات التي تصدر بعد خلاف السياسي مع حكومة بلده، أو "معارضته" لها، ومثال ذلك مذكرات نائب الرئيس (عبد الحليم خدام)، وهو أحد المتهمين الأساسيين في حلقة الفساد الحكومية من قبل جهات شعبية وتشريعية وإعلامية، فعلى الرغم من احتواء مذكراته على سلسة أحداث كانت ممنوعة من التداول في الحياة الإعلامية اليومية، إلا أنها على الأغلب تصنف من قبل السلطات في معرض كونها "كتابة انتقامية" غايتها توريط المسؤولين في السلطات المختلف معها كاتبها، لمصلحة براءته أمام القارئ، وهي لا تختلف كثيرًا عن تلك التلفيقات التي يصدّرها الإعلام السلطوي بحق معارضي النظام من السياسيين وغيرهم.
ففي الوقت الذي يسعى فيه "المسؤول" إلى أن يقدم سرده للوقائع التاريخية التي شكلت منعطفات مهمة في حياة الدولة، والمواطنين، سواء بصفته شاهدًا، أو  فاعلًا فيها، فهو قد ينزلق بقصد، أو من دونه، ليجعل من تلك المذكرات منصة دفاع يبرئ عبر صفحاتها نفسه من كل دنس السياسة، كبيرها وصغيرها، التي طاولت ثوب منصبه الذي لبسه سنوات، ودافع عنه بالوسائل المشروعة، أو الشراكة الممسوسة بكل أشكال الفساد والكذب والخديعة، وبنى من خلالها إمبراطوريته المالية، وألقى بالتهم على منافسيه، ووزع شهادات وطنية على أصدقائه، وحمل آخرين مسؤولية الفشل الحكومي التي رافقت مسيرته خلال عشرات السنين من حكمه، وتحكّمه، بالأجهزة التنفيذية ووسائل الإعلام جميعها.
إن الحالة الملائكية التي تتسم فيها شخصية راوي المذكرات السياسية، بالقدر الذي تحظى فيه على رضاه الشخصي عن الصورة التي يرسمها لنفسه، بالقدر الذي ترفع عنها صفة الوثيقة التاريخية لتكون مجرد رواية، لما كان يفترض فيه الكاتب أنه يجب أن يحدث، أكثر من كونه هو حقيقة ما يحدث، وعلى الباحثين عن الحقائق ألا يغيب عنهم أن مسرح الأحداث، أو بلد الراوي وواقعه المأساوي (سورية) مثالًا، يمكنه أن يضعنا أمام رواية أخرى لا يجرؤ أحد من المسؤولين على قولها.

*كاتبة سورية. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.