}

الفن المغلف بالسياسة

سميرة المسالمة سميرة المسالمة 26 مارس 2024
آراء الفن المغلف بالسياسة
كريم عبد العزيز في مسلسل "الحشاشين"
تقدّم مسلسلات رمضان الحياة كما هي بانتماءاتها الطبقية وحدودها الفاصلة بين الناس، ونجاحها مرتبط بالقدر الذي تستطيع أن تدهشنا، أو تستنزف مشاعرنا، أو تربطنا بالحدث التالي، فهي إما مفتوحة على عالم لا ينتمي له إلا القلة القليلة، ونحاول من خلالها التعرف عليه، تلمس الفوارق بيننا عن قرب من خلال شاشة تدخل بيوتنا، وتقاسمنا لحظات متعتنا، أو هروبنا منها، أو تغوص بعض أعمال الدراما في قاع أحيائنا الشعبية، تتلمس مواجع العامة من الناس، ومآسيهم، فقرهم وعوزهم وعجزهم، التي تنبع من عقر دار السياسة، ومتعاطيها الحريصين على دعم الفن في حدود بقاء وظيفته تحت مظلتهم، ومن أجلهم، ومهمتها تعرية هذا الواقع دون التعريف بالمسبب، او تحميله المسؤولية، مكتفية بتبرير أسبابه، وتفنيدها.

تقدّم الدراما العربية في موسمها الرمضاني كل عام حالة مكثفة من الأعمال المتنوعة، من التاريخي إلى الديني والاجتماعي والترفيهي، تختصر فيه أحداثها زمنًا مضى، وواقعًا ماثلًا، ومستقبلًا مفتوحًا على الاحتمالات المخيفة، ضمن خياري الأبيض والأسود، حيث لا ثالث لهما، وجميعهم يسيرون باتجاه واحد، وهو توظيف الفكرة وتنميتها وتركيب أحداثها بما يقود إلى هدف المستثمر وأسباب تمويلها وتبنيها، وسواء كان المال للقطاع الخاص أو العام، فإن مآلات الأعمال جميعها تمر من تحت عين السياسة، وأذرعها الرقابية، التي قد تسمح بسرد الأحداث كما يشتهي الكاتب، شريطة أن تكون العبرة منها كما تشتهي الأنظمة الحاكمة في أماكن سرد المجريات، بغض النظر عن أماكن تصويرها أو عرضها.

تخرج من بين يوميات المواطن العربي العبر المرتجاة منها، من بؤسه وفقره وتشرده، وتنكشف حكاياته وأسراره الصغيرة، وتصبح روايات يجسدها فن التمثيل في أحدث تقنياته، لتقديم شخصيات البسطاء من العامة بأجساد أكثر المؤثرين فنيًا، من ممثلين ومؤلفين ومخرجين، ما يجعل الناس تعيش أحوالها، وتتعاطف مع أحزانها، تفرح لطاقة فرج هنا، وتصدق يد عون ممدودة من هناك، ويدخل المشاهد في لعبة تبادل الأدوار بين شخصه والممثل، بين فكره ومسار تطور الحدث.

وهنا بالتحديد تعمل الدراما "الموجّهة" من الساسة دور الساحر، أو المنوّم المغناطيسي الذي  يمارس سحره على المشاهد، بأداة ناعمة تتسرّب إلى عقله، ومنها على سبيل المثال، المسلسلات التي تتناول قضايا الثورات ضد الأنظمة التي تنطلق من مظلومية المواطن لتضعنا لاحقًا أمام مسؤوليته عن انتكاسات حياته، فينقسم المجتمع في نظر المتلقي بين مجرم مسؤول عن مأساة الناس، سواء كانت المادية بسبب الفساد والرشوة والمحسوبية، أو الفكرية التي تنازعه ليتمرد على واقعه الآمن والمستقر، لينضم إلى جموع ما سمي بالمتمردين أو "المعارضين" لنظام الحكم، تحت عناوين كاذبة سوقها لهم دعاة من الفاسدين، وبين حماة الوطن من أجهزة أمنية ومسؤولين متحفزين لدخول معركة ما تسميها الأنظمة الحاكمة "معركة أن تكون أو لا تكون"، أن تكون "مع" حكام يحولون دون حدوث الأسوأ، أو تكون "ضد" فتكون أنت هو السوء بنفسه وبالتالي يجب ألا تكون.

وإذا أراد بعض صناع الدراما أن يخرجوا العبر من الماضي السحيق، فإنهم يضعون المتلقي أمام حكايات لن تخرج عن كونها تبحث عن مرتكزات لاسقاطاتها على الواقع الحالي، فتختار ما يخدم الساسة الحاليين في حروبهم على معارضيهم، فنقرأ صفحات التاريخ كما يرويها كتّاب السلطة، وكما يخرجها المؤيدون الموالون، وكأن هذا التاريخ يشهر سلاحه بوجه الناس، يحذرهم من أن كل "تفصيلة" في حياتكم الحالية هي امتداد لإرهاب خلا، تمتد خيوطه من زمن "الحشاشين" إلى زمن المندسين في معركة "كسر عظم"، والخراب الذي حل بأسلافنا هو قاب قوسين أو أدنى من حاضرنا، والسلام المأمول مرهون بحلول يراهن الفن اليوم على تسويقها، والإيمان برسالتها.

تقدّم معظم الدراما الرمضانية جرعات كبيرة من متعة تعذيب النفس، وتضع المشاهد أمام حقائق حياتية مؤلمة، تشبه معاناته بأبشع صورها، لكنها لا تقدّم أسبابها، إلا بالقدر الذي تسمح به الأجهزة الأمنية، وهي أنها حاصل جمع طبيعي لفساد مواطنين آخرين، ومسؤولين أمنيين مزيفين، أو مفصولين من الخدمة، ومدانين، ما يرفع الحرج عن الأنظمة الحاكمة، ويضعها في صف المواجهة مع الفاسدين، على غير ما هي حقيقة الأمور في كثير من بلدان منشأ تلك المسلسلات وكتّابها، حيث يصبح اعتقال المواطن البريء أو قتله خطأ مذمومًا في الشاشة لا في الحقيقة، ويعود السبب إلى تقرير من مواطن آخر حاقد أو عنصر أمن فاسد، ما يبرئ سياسة القمع والتغول الأمني الذي تقوم عليه الأنظمة الفاسدة.

وتعمل بعض المسلسلات على تصوير شحنة الغضب الكامنة في نفوس الناس الذين يعانون من قهر الجوع والفقر والحرب، وتقدّم أشكالًا متنوعة من إفرازات ذلك الواقع عليهم، وتحوّل مجتمعاتهم البسيطة إلى حاضنات للجريمة والإرهاب وارتكاب الموبقات الأخلاقية، فتوسم شعوبًا بها، أو جماعات تشير إليها صراحة أو تتركها بإشاراتها الصريحة لتقدير المتلقي. وبين هذا وذاك الهدف، تنجو الجهات المتسببة في المآسي، ويتم تقديمها على أنها جهة حيادية، بل هي صاحبة الأيادي البيضاء التي حالت دون أن يحدث الأسوأ في مجتمعاتنا، ما يبعد بعض المسلسلات عن صفة الإبداع الفني لتكون تحت وصف التقرير الأمني الذي يبرئ الفاعل ويلقي بالبريء تحت أنياب الجاني. 

*كاتبة سورية.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.