}

المرأة الفلسطينيّة وامتحان الإنسانيّة القاسي

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 9 مارس 2024
إناسة المرأة الفلسطينيّة وامتحان الإنسانيّة القاسي
قد لا تكبر هند ولكن سرديتها ستفعل
أجزم أن أيّ امرأة على امتداد الكوكب المشغول بتلوّث المحيطات أكثر من انشغاله بِحقيقة إنسانيته عانت في الأزْمنة المنظورة من تاريخ البشرية ما عانته، وما تزال تعانيه، المرأة الفلسطينية.
حاولت منظومة الوعي الغربيّ، ومؤسسات المجتمع المدنيّ، في سبعة، أو ثمانية عقود ماضية، فرض مشتركات إنسانية، على شعوب العالم الثالث أن تتبنّاها كما هي، وعلى أبناء جنوب الأرض أن يخضعوا لأبناء شمالها في كيفية التعاطي معها؛ وفي سياق هذه المشتركات أُطلقت عناوين فاقعة من مثل حقوق المرأة، وحقوق الطفل، وصولًا، إنْ شئتم، إلى الحق في الإجهاض.
على أنّ أصحاب هذه المبادئ الإنسانيّة العامة ظلّوا عند كل اختبار حقيقيٍّ يرسْبون في الامتحان، ويتبيّن للنّاظرين بقليلٍ من الانتباه أن الطفل المقصود ليس عموم الطفولة، والمرأة المقصودة ليست عموم النساء. فثمّة شروط كي تكون المرأة التي نطالب بحقوقها تستحق هذه المطالبة، كأن تكون، مثلًا، امرأة كاملة العِرقية البيضاء (النقيّة). ولا بدّ كي نقول إن لهذا الطفل حقوقًا أن تكون عيونه، على سبيل المثال، زرقاء، أو أن لا تكون مغتصبة حقوقه هي (إسرائيل)، أو واحدة من دول الغرب الاستعماريّ الحليفة لها خلف بحار الغواية.
حتى وإن توافرت بالمصادفة البحتة بعض شروط التعاطي والإقرار بحقوق نسائنا وأطفالنا، كأن يكون الطفل الشهيد بعينين زرقاوين، أو خضراوين بلون زيتون البلاد، أو (أبيضاني وشعره كيرلي)، فإن أسباب الإحجام عن إدماجه، أو إدماجها بلائحة الحقوق والشرائع الدولية الكفيلة برد الظلم عنه، أو عنها، كثيرة، من بينها، ربما، ديانته، أو ديانتها، وانتمائه، أو انتمائِها، بالمصادفة البحتة، لـ"أمّة عربية واحدة ذات رسالة خالدة"، ومن دون، حتّى، أن يتبيّنوا أن هذا الشعار عفا عليه الزمن، أو هو حتى لم يبدأ زمنه بعد كي يعفو، بعدها، عنه.
مبكرًا أدركت السرديّة الفلسطينية أنها وحدها القادرة على توثيق المرأة الفلسطينية، وتثبيتها داخل ثنايا النصوص، سواء أكانت نصوصًا إبداعية (شعرية في أجلى التجليّات)، أو بحثية، أو إخبارية، أو أرشيفية توثيقية. ومبكرًا رمت خلف ظهرها التعويل على عدالة تعاطٍ ممكنة من لَدُن الأنْتلجنسيا الغربية على وجه العموم، الأميركية البريطانية منها على وجه الخصوص.
على أن الأمر لم يقتصر على فكرة القُدرة، بل أضيفت إليه لاحقًا، مع توالي الإهمال والتهميش، فكرة المسؤولية الوطنية والقوميّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة، فلا بدّ أن أقوم (يقول لنفسه المدوّن الفلسطيني، وربما العربيّ، إبداعًا، أو بحثًا) بما أحجم عنه، عن قصد، أو عن قصد، فلا مجال لِحسن النّوايا هنا، مدوّنو الغرب المشغول بِتجميل صورة القاتل، وتشويه صورة القتيل.

جفرا وريتا
وهكذا تدفقّت كنهرٍ من الصور والرّموز والدّلالات والمطرّزات المرأة الفلسطينية في الشعر الفلسطيني، وفي عموم الأدب الفلسطينيّ، وفي الأغاني والمَراثي والأمْثال، وحتّى النّكات.




وفي حين لم تكن "ريتا" في قصيدة محمود درويش "ريتا والبندقيّة" فلسطينية، كما يُشاع ولا يُشاع، بل حتى قد تكون النقيض الكامل في تفاصيل الهويّة، إلا أنها تظل تلك الصورة الجدليّة بين الحب والحرب، لعلها ضائعة "بين الإشارة والعبارة" لعلها "لا شيء يا ريتا، أقلّدُ فارسًا في أُغنية/ عن لعنة الحب المحاصر بالمرايا... عَنّي/ وعن حلميْن فوق وسادةٍ يتقاطعان ويهربان/ فواحدٌ يستل سكينًا وآخرُ يُودِعُ النايَ الوصايا/ لا أدرك المعنى، تقول/ ولا أنا، لغتي شظايا/ كغياب امرأةٍ عن المعنى"، وبالتالي فلعلها غياب المعنى الضروريّ لكي تكون القصيدة فلسطينية عن امرأة فلسطينية بالتمام والكمال، لا امرأة عاشت في فلسطين.
عز الدين المناصرة لم يقع في فخّ الاستعاضة عن فلسطينية المرأة في سرديّته، فكانت "جفرا" تميمتَه الأنثويّة الفلسطينية التي تزنّر بها من أوّل الحَجل حتى آخر العنْعنات.
وأيًّا من كانت المرأة التي يكتب عنها المناصرة: جفرا واحد، أو جفرا اثنين، أو ميريام، أو أم علي النصراويّة، أو حيزيّة الجزائريّة، أو أماندا الإغريقيّة الإسكندرانيّة، أو حتى تلكنّ اللاتي التقاهنّ في منافي أوروبا، فإنهنّ جميعهنّ حملْنَ، أو حمّلهنّ بطاقة التعريف الكنعانيّة، فعزّ لا يرضى أن يكتب عن امرأة إن لم يرَ فيها شيئًا من كنعانيّته. وحين أقول "لا يرضى" فليس بمعنى رفضي رحيله، بقدر ما أن الأمر هو رهاني على حاضريّة شعره.
بوجهٍ مساوٍ للكنْعنةِ، ورمزيّة خلعَ عليها دمها المسفوح خطأ، أو غدرًا، طقسًا ابتهاليًّا، أسبغ المناصرة على كنعانياتِهِ بأثْوابهنّ المطرزة بأوراق العنب وأغصانه وعناقيده، أجلّ معاني الفِداء.
تتعدّد دلالات جفرا من قصيدة إلى أخرى، ترتقي، مرّة، إلى كونها مُلهِمة ومُلهَمة، وفي أخرى إلى كونها صريعة التّناحر بين ضفتيّ بيروت الشرقيّة والغربيّة، يؤسْطرها مرّة، ويحوّلها إلى أمٍّ متعبة في أخرى. حتّى عبد الوهاب البياتي أسْطرَ عائشة: "وتنهض عائشة من تحت الأعشاب البريّة، والأحْجار السوداء، غزالًا ذهبيًّا، تعدو وَأنا أتْبعها تحت الكرمة مجنونًا أمسكها وأعرّيها".
وقد ترى جفرا ما لا يراه القوم فتصبح زرقاء يمامة المأساة الممتدة منذ حلّ أوّل مستوطن أرض فلسطين نازلًا من سفينة الاستعمار التي تملأ كل المحيطات والبِحار: "لكن يا جفرا الكنعانية... قلت لنا: إن الأشجار تسير على الطرقات... كجيشٍ محتشدٍ تحت الأمطار".
يأبى عزّ الدين المناصرة أن يدفن رأسه، أو يشنق نفسه، ولهذا يواصل تأكيد معرفته بِجفرا، فمن لا يعرفها فليدفن رأسه، وليشْنق نفسه، أما هو فَيواصل البحث عنْها والسؤال عن أخبارها: "هل قتلوا جفرا قرب الحاجز؟ هل صلبوها في التابوت؟".

مريم الشهيدة جارة مريم شهيدة الخبز 

من كل الجهات تحضر جفرا لِتقوم بواجبات المرأة الفلسطينية؛ من سفح عيبال، من رأس جلعاد، تأتي "كضوءٍ على لجّة الماء"، يرى فيها خبز أم محمود درويش حتى لو كانت "نصف أغنامها سارحة"، يتمرّن في أحداقها على أشياء الحنين، فإذا بهذا الحنين يجعله يشمّ "الطريق التي لامست كعبها"، ويشمّ "الهواء الذي شمّها في سماء الحقول".
بين كارُولِينْ سميح القاسم، وَكَايْ توفيق صايغ، ورَضْوى مريد البرغوثي، وحمدة محمد القيسي (الأم الأسطورية)، تتنوّع صورة المرأة الفلسطينية في السرديّة الشعريّة الفلسطينية، وتتنقّل بين كونها معشوقة، أو زوجة، أو أمًّا، أو حتى فكرة.




وفي مختلف الأحوال فإن السرديّة الفلسطينية، إضافة إلى تجليّات عربيّة غَرَفت، أساسًا، من السرديّة الفلسطينية، ومهما تحققت الحالة التي حضرت من خلالها المرأة الفلسطينية داخل متن هذه السرديّة وهوامشها: المرأة الأم، أو المرأة الأنثى على وجه العموم، أو المرأة الحبيبة، فإنّها الصورة التي فضحت الاحتلال ووكلاءَه، وكشفتْ، بِما لا يقبل التأويل، أن المرأة الفلسطينية إنسانةٌ بكاملِ شغفِ الإنسانية وتقلّباتها وإقْوائِها ونهوضِها وعثرات الزمان فيها.
هم، كما فعل الشاعر الفلسطينيّ راشد حسين (1936 ـ 1977) أحبّوا فيها الكبرياءَ لأنّها "مأخوذةٌ من كبرياءِ الكرملِ". وعشقوا تراويد حصادِها لِقمحها الذي سرعان ما تحوّله إلى كفاف الأيام الصعبة. إن المرأة الفلسطينية هي "أم سعد" غسان كنفاني، وصفيّة "عائد إلى حيفا" التي أبتْ أن يحنّ قلبها على ابنها خلدون بعد أن أصبح عسكريًّا إسرائيليًّا وصار اسمه "دوف"، رغم عدم مسؤوليته هو عن هذا التحوّل الذي حدث عندما كان رضيعًا في القِماط. فجيعة تنطلق كرصاصةٍ تصيب قلب صفيّة وزوجها (سعيد)، يدركان في تلك اللحظة المأساوية المُفزعة والكابوسيّة أن كل شيء سُرق منهما، المنزل والأحباب والذكريات، والأهم من ذلك كلّه أن وطنهما سُرِق منهما.
ما يخلُص إليه سعيد في رائعة غسان كنفاني أنه ما كان عليهما هو وزوجته صفية مغادرة بيتِهما ومغادرة حيفا، وترك صغيرهما، حتى لو مرغميْن، لِتقوم مستوطنة بولندية بتبنّيه وَتغيير ديانته وَفرض اسم يهوديّ عليه. قبل أن يغادر بيته الذي كان يقول لِلمستوطنة البولندية: "تسْتطيعان مؤقتًا البقاء في بيتنا، فذلك أمر تحتاج تسويته إلى حرب".

هند ومريم وحلا
حُرِمت هند (ستة أعوام) التي ضجّت وسائل الإعلام ومواقع التواصل بصوتها تستجير بعد أن قصف العدو الصهيونيّ سيارة ذويها في حيّ تل الهوى الغزّي، فاستشهدوا جميعهم وبقيت هي على قيد الحياة، وتمكّنت من استخدام أحد هواتف أسرتها المغدورة، فاتّصلت بالهلال الأحمر مستجيرة، حرمت، بعد أن قام العدو المجرم بقتلها وقتل كل طاقم الإسعاف الذي هبّ لنجدتها، من أن تكبر وتصير امرأة فلسطينية تَنْعم بِما تَنعم به المرأة الفلسطينية من شجاعة وصبر ومُثابرة وحنوّ وعطاء.

أمانة لا تسامحينا يا حلا 

وحُرمت مريم من أن تكبر، إن كبرت، محتفظة بذاكرة كريمة، قويمة، صحيّة، فعندما سألها المراسل "شو ناقصكم" أجابته موجوعة باكية على الهواء مباشرة "ناقصنا كل إشي". ورغم استشهاد والدها ووالدتها وبقائها مع شقيقها الذي لا يبلغ الرابعة من عمره، عليها أن تُعيله وهي التي لا يتجاوز عمرها السابعة، فإن ما أعلنت أنها تتمنّى أن تراه هو الرغيف الأبيض (نفسي أشوف رغيف الخبز الأبيض). فأيّ أذى سبّبه العدو الفاشيّ لإنسانيّة هذه الطفلة، وأي دَرَكٍ وَصَلَه العالم (خصوصًا النظام الغربيّ منه، فبعض شعوب الغرب بدأت تعبّر عن رفضها لكلّ هذا المأزق الأخلاقيّ المريع)، العالم الذي لا يرى ما يستدعي البكاء على كل هذه القسوة؟ قسوة يغرق فيها الكون كلّه قبل أن تغرق فيها صغيرات غزّة وأطفالها ونساؤها... قسوة تشلع الروح وتغرقنا جميعنا داخل مستنقع عارٍ لا يُبقي ولا يذر...
حلا حمادة بدورها ضحية الغرب الرسميّ المنافق الذي حرمها من أن تكبر وتصير امرأة فلسطينية بكامل مِشمشها... عندما، وعلى أبواب يوم المرأة العالميّ، اتصلت بعمّها من تحت أنقاض منزلها المدمّر في خان يونس، واستنجدت به باكية بقدمٍ هرستها خرسانة أحد عمدان المنزل، أن يأتي وينقذها قبل أن يحلّ الظلام لأنها تخشى الظلام... حوْلها أهلها أجسادًا هامدة... لا تتذكّر في تلك اللحظة أين على وجه الدقّة تنام دميتها تحت خرائب بيتها المهدوم... لا تتذكّر أنها قرأت في حياتها، رغم أنها تعشق القراءة، وحازت جائزة مدرسية في المطالعة، ما يشبه هذا الكابوس...
لا تفكّر حلا إن بقيت على قيد الحياة أن تحتفل بيوم المرأة العالميّ... لا تفكّر معظم نساء غزّة أن يحتفلن بهذا اليوم المتصدّع من كثرة ازدواجيّته وخوائِهِ ولا معناه...
هنّ هناك... من بين خرائب جباليا، وبيت لاهيا، وخان يونس، وغزّة ورفح، ودير البلح... يؤسّسن يومهنّ الخاص بهنّ... يواصلن قهر العدو المريض من خلال إصرارهنّ على البقاء بين الأنقاض... فلا أحد غيرهنّ يملك ثقتهنّ العظيمة بالواحد القهّار... وإيمانهنّ العميق بقدرة رجالهنّ على إعادة إعمار الديار.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.