}

"عن شميت": الحياة بعد الستين

أحمد طمليه 4 مايو 2024
اجتماع "عن شميت": الحياة بعد الستين
يحكي الفيلم قصة رجل تقاعد من عمله
كيف يمكن أن تكون الحياة بعد الستين، بعد التقاعد، والاستغناء عن الخدمات، بعد أن يسري الوهن في الجسد، ويتحول الشخص إلى مجرد منتظر لمجهول ليس لديه أدنى فكرة عنه.
في السينما، لعل أهم فيلم تناول هذه الفكرة هو فيلم "قصة شميت"، أو "عن شميت"، كما هي الترجمة للفيلم؛ للمخرج أدريان برودي، وبطولة الممثل جاك نيكلسون من إنتاج 2003. يعد الدور الذي أداه نيكلسون من أهم أدوار حياته، ورشح عنه لجائزة الأوسكار.
يحكي الفيلم قصة رجل تقاعد من عمله في شركة تأمين بعد أن تجاوز الستين، وها هو في صدد أن يبحث عن معنى للحياة بعد الستين. وذلك بعد أن انقلبت حياته رأسًا على عقب، وبات منذورًا إلى اللاشيء وقد غدا متقاعدًا عبثًا، ويحاول أن يعيش فى ساعات نهاره في برنامج محدد.
يبدأ الفيلم و"شميت" (جاك نيكلسون) يهم بمغادرة مكتبه وهو يلقي عليه النظرة الأخيرة؛ وظهيرة ذلك اليوم تقام له حفلة وداع كبيرة يشار خلالها إلى عطائه في العمل، وحنكته ومثابرته الشخصية. ولكن يبدو أن هذه الحفاوة كانت بمثابة "رصاصة الرحمة" على حياة بات "شميت" خارجها، وعليه أن يكيّف نفسه مع حياة جديدة، حياة تبدأ بعد الستين، أي بعد أن يكون المرء قد أفرغ ما في جعبته من رغبات وأحلام وأمنيات، وبات بلا هدف سوى أن يبحث عن معنى للحياة التي يعيشها، وهل حياته في حد ذاتها أفادت شخصًا ما على وجه الأرض بشيء، كما يجيء على لسانه في سياق الفيلم.
يعيش شميت مع زوجته العجوز في بيت كبير، وله ابنة تستعد للزواج من شخص غبي، وهي مقيمة في بلدة أخرى، ومن اليوم الأول يشعر شميت بهول المصيبة، إذ يجد نفسه قد استيقظ، كالعادة، في الساعة السابعة صباحًا بالضبط. يحوم في أرجاء البيت على نحو يبعث على الدوران. يريد أن يتسلى، أن ينهمك بأمر ما. تعرض عليه زوجته أن يتناولا إفطارهما في المركبة الكبيرة التي يمتلكانها، ولكن حتى هذا لا ينفع، فاللقمة عصية على الهضم طالما أن الروح فاترة خاملة. وحتى ذهابه إلى مكتبه، لاعتقاده أنهم قد يحتاجون إليه، يبوء بالفشل، إذ يستقبله بديله الشاب بابتسامة صفراء توحي أن لا حاجة له بعد اليوم.
يبدأ شميت بمتابعة البريد وقراءة المجلات، فتلفت نظره الدعوات التي تبثها مؤسسات إنسانية تدعو أهل الخير إلى تبني أحد الأطفال المشردين لديها بمبلغ شهري من المال، شريطة أن يرسل مع كل مبلغ رسالة من المتبني، أو الراعي، يعرض فيها معلومات شخصية عنه. تستهوي الفكرة شميت، ويبدأ فعلًا بمراسلة أحد الأطفال، ويكتب له كيف أن المؤسسة استغنت عنه بعد سنوات وسنوات من العمل، وجاءت بشاب يافع يجيد استخدام الحاسوب، وكيف أنه بات لا يطيق شيئًا حتى زوجته التي مضى على زواجه بها 42 عامًا، إذ يجهل من وقت لآخر من هذه المرأة العجوز التي تنام في سريره! يشكو شميت من زوجته، ومن تفاصيل صغيرة، بمعنى كيف أنها تخرج مفتاح سيارتها من حقيبتها قبل مسافة بعيدة من الوصول إلى السيارة، وكيف لا تسمح له بالتبول إلا جالسًا على المقعدة، خشية أن يتناثر البول هنا وهناك، وكيف ترمي المعلبات بمجرد أن تنتهي صلاحيتها.
يتضح من السياق العام للفيلم أن شميت يعاني من أزمة مع محيطه، وها هو في صدد أن يواجهه وجهًا لوجه بعد أن غدا وحيدًا عاطلًا عن العمل. وهذا ما يتجلى بالفعل في التطور المهم الذي يحدث حين يعود شميت ذات ظهيرة ليجد زوجته ممددة على الأرض وقد باغتتها جلطة دماغية أنهت حياتها، لتبدأ بعد ذلك معاناته الحقيقية، حيث الوحدة من دون الرتوش الذي كانت تقوم به زوجته، فيتراجع عن انتقاداته لزوجته في الرسالة التي يبعثها للطفل المشرد، ويؤكد له في رسالة لاحقة: "عليك أن تعرف قيمة ما تملك قبل فوات الأوان".




تبدأ معالم عجزه عن إدارة شؤونه الخاصة تظهر، فأواني المطبخ المتسخة على حالها، والبيت في فوضى عارمة، ورائحة الطهو اللذيذ لم تعد تفوح كالعادة. والأهم من ذلك، يبدأ ادراكه أنه شخص ليس بتلك الأهمية، فمؤسسته استغنت عنه بمجرد ظهور التجاعيد بين ثنايا وجهه. والأنكى من كل ذلك ما وجده في غرفة زوجته: رسائل كانت تتبادلها مع أحد أصدقائه، يطير صوابه ويذهب إلى ذلك الصديق ليوبخه، ولكنه يكتشف بعد ذلك أن لا ذنب له، وأن حقيقة الأمر تتلخص في أنه لم يكن زوجًا مثاليًا كما يجب.
تضيق الدنيا بشميت، فيركب حافلته، ويقرر السفر إلى ابنته، ولكنها تمنعه عن ذلك وهو في منتصف الطريق إليها، وترجوه خلال الاتصال الهاتفي أنها ليست بحاجة إليه، ويستطيع أن يحضر قبل يومين فقط من موعد الزواج. ماذا يفعل العجوز حتى ذلك الحين؟ حتمًا العودة إلى منزله ليست واردة، فيقرر أن يجوب المدن من حوله، أن يزور مدرسته الابتدائية، ومسقط رأسه، وجامعته، لعله يزهق الوقت، يبدده، يضيع ما تبقى من عمر بسرعة، وبينما هو يقوم برحلته يصادف رجلًا وزوجته متصالحين مع بعضهما بعضًا، ولهما أسرة جميلة، ويجمعهما حب أليف، وهذا ما لم يعتد عليه شميت من قبل، فينهار في أول خلوة له مع المرأة العابرة، وهي خلوة بريئة أثناء ذهاب الزوج لشراء بعض الحاجيات، فما كان من شميت إلا أن ألقى برأسه على صدر المرأة، وحين حاولت أن تخفف عنه راح يقبلها بنهم من رقبتها، وكأنه يريد أن يروي عطش سنوات من عذوبتها، ولكنها دفعته بعنف، وبكثير من التقزز، بل إنها لم تطق النظر في وجهه، فما كان منه إلا أن حمل أمتعته ومضى.
تتوالى الأحداث إلى أن يصل الأب إلى ابنته للمشاركة في عرسها، ويضطر لأن يقيم في بيت أسرة زوجها، حيث ثمة عائلة: زوج وزوجة وأبناء وأحفاد. وهنا نلاحظ أن هذا النمط من الأسر ليس مستقرًا أيضًا، فالزوجة شبقة جنسيًا، والزوج ثرثار لا أحد يسمعه، أما خطيب البنت فهو شخص تافه، مسكون بإنجاز المهمات التافهة، وهنا تتعاظم أزمة شميت، فالأسرة بمعناها التقليدي، حيث الأبناء والأحفاد، ليست خلاصًا، بل قد تكون جحيمًا إذا تصادمت الرغبات وتنافرت، يحاول شميت أن ينقذ ابنته من العيش وسط صقيع هذه الأسرة الجديدة، ولكنها توقفه عند حده، وتذكره بأن الوقت قد فات ليتدخل في شؤونها.
يقدم الفيلم في المحصلة أزمة الحياة بعد الستين، أو البحث عن معنى للحياة في هذا السن. وعلى الرغم من أن ما صادفه شميت بعد التقاعد عادي، ونراه كل يوم، إلا أن المخرج تمكن من إضفاء الأزمة على التفاصيل العادية، ليجعل السؤال أكثر حدة: ماذا يتبقى لك من حياة وأنت على حافة الحياة؟ أو بمعنى آخر، ما هو المعنى الفعلي للحياة، وهل ما حققناه في حياتنا يضمن لنا سكينة وطمأنينة آخر العمر؟
يقدم المخرج إجابته على هذه الأسئلة في نهاية الفيلم، وذلك عندما يعود شميت إلى بيته، فيجد بريدًا في انتظاره، من ضمنه رسالة من مربية الطفل الذي يراسله، تحكي له أن الطفل لا يقرأ ولا يكتب، ولكنه يتابع رسائله بشغف وهو ممتن جدًا له، وترفق له إحدى رسومات الطفل هدية له: ينظر شميت إلى الصورة، وهي صورة عادية قد تجول في ذهن أي طفل، فيجهش بالبكاء حين يجد أن رسائله، والمبلغ النقدي الذي يرسله، أنعش آمال طفل مشرد يعيش في ركن بعيد على وجه الأرض. وليكون الفيلم بذلك قد قدم إجابته على السؤال الذي طرحه، وهو أن معنى الحياة يكمن في العطاء، فكلما كنت قادرًا على العطاء كلما شعرت بالحياة تجري في عروقك. أما درس الحياة، كما لخصه الفيلم، فيكمن في حقيقة أن عليك أن تقدر قيمة ما لديك قبل فوات الأوان، وأن تعطي من قلبك، فهنا، هنا فقط، قد تغفو مرتاح البال في خريف العمر!

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.