}

عندما يخطئ المخرج

أحمد طمليه 14 أبريل 2024
استعادات عندما يخطئ المخرج
لم يخلُ فيلم "الهروب" من أخطاء المخرج عاطف الطيب
في فيلم "حياة أميركية"، أو "الحياة على الطريقة الأميركية"، الذي بثته إحدى الفضائيات العربية، مؤخرًا، نتابع قصة رجل تجاوز منتصف العمر، ولديه ثلاث فتيات يبحثن عن ذاتهن، في حين يبحث هو عن أفق جديد لحياته بعد أن انصرفت بناته عنه. ونعرف من مجريات الفيلم أن هذا الرجل (أبو البنات) يملك مطعمًا بمشاركة شخص آخر، وهما الاثنان يحبان عملهما، ويستمتعان بصناعة الوجبات والمأكولات الشهية.
ثمة مشهد يستوقف الانتباه، نرى فيه الشخص الشريك في المطعم وهو على رأس عمله، يجلس على كرسي خشبي مجاور لأخذ استراحة قليلة، بينما الآخرون منهمكون في العمل، وفجأة يكتشف الجميع أن صاحبهم لا يحرك ساكنًا، وحين يقتربون منه يكتشفون أنه لفظ أنفاسه الأخيرة، وأصبح جثة هامدة.
ما يميز هذا المشهد أن لا علاقة له بتاتًا بسياق الفيلم، بمعنى أن وفاة الشريك لا تؤثر على مجريات الفيلم، ولا تشكل دلالة لأي معنى، وقد مضى الفيلم بعد هذا المشهد في سياقه الطبيعي.
على الرغم من عدم ارتباط هذا المشهد بسياق الفيلم، إلا أن المخرج حرص على توظيفه، ولا أقول إقحامه، من أجل أن يقول إن ثمة أشياء كثيرة تحدث في الحياة، سواء كانت في صميم اهتماماتنا، أو على هامش تلك الاهتمامات، أي أن المخرج أَضفى بهذا المشهد مصداقية شديدة على مجريات فيلمه، ففي الحياة دائمًا شيء آخر يحدث، شيء ما يحدث، على هامش ما نعيشه.
هذا ما يؤكد عليه المخرج دافيد لين، فيما يتصل بمصداقية المشهد، إذ يرى أنه إذا كان ثمة مشهد لامرأة تحتسي فنجان قهوة في مقهى، فلا ضرر إن قامت هذه المرأة بحركة تلقائية، وبدت كأنها تمسح شيئًا في قعر الفنجان، فمثل هذه الحركات التلقائية تضفي مصداقية على المشهد، وتجعل المشاهد يشعر أنه أمام صورة واقعية مما يزيد من علاقة الانسجام ما بين المشاهد والمشهد السينمائي.
أتحدث عن أهمية العناية بالمشهد وتفاصيله للوقوف أمام ظاهرة عدم العناية التي يوليها كثير من المخرجين بأفلامهم. فأحيانًا قد تتسبب لقطة واحدة في اسقاط الفيلم، أو على الأقل تعكير صفوه، كما لاحظنا ذلك، على سبيل المثال، بفيلم "الهروب" للمخرج الراحل عاطف الطيب، فهذا الفيلم مرسوم بعناية فائقة لدرجة جذبت انتباه المشاهدين وهم يتابعون قصة رجل صعيدي (أحمد زكي) يتم الاحتيال عليه من قبل أحد التجار، فيقرر أن ينتقم منه، ويتزامن ذلك مع أحداث سياسية تشهدها مصر، وخروج طلبة الجامعات في مظاهرات، فيقرر جهاز المخابرات أن يجعل من قضية الرجل الصعيدي أسطورة وهو يوجه إعلامه نحو خطورته ووصفه بالسفاح، لدرجة أن الناس صارت تتابع قصته في الصحف بدل أن تتابع الأوضاع المعيشية المتردية.




حتى الآن الفيلم جميل، وقد اعتنى عاطف الطيب بتفاصيل فيلمه، وأضافت الموسيقى ومشاهد الطيور في السماء أبعادًا رمزية على مجريات الفيلم، إلى أن وقع الخطأ الذي عكر تمامًا صفو الفيلم، وذلك حين يظهر أحمد زكي في زي نادل في الحفل الذي أقامه الرجل الذي احتال عليه، ثم نرى أحمد زكي في اللقطة التالية وهو يصعد درج البيت الداخلي ليطلق النار على المحتال، وقد كان مرتديًا زيًا أسود وبلوزة بعنق طويل، فكان السؤال كيف قدر له أن يغير ملابسه بهذه السرعة من زي نادل لونه أبيض إلى هذا الزي الجديد؟ وهل المكان متاح إلى هذا الحد وهو الذي دخل متسللًا، ثم وهو الأهم هل يهم القاتل عندما يوشك أن يضغط على الزناد إن كان مرتديًا قميصًا وربطة عنق، أم بلوزة بعنق طويل؟
أحيانًا، يأخذ إخفاق المخرج شكلًا آخر، فالأمر لا يتصل بمشهد ضعيف، بل ثمة خلل في السياق، وهذا ما لمسناه بفيلم المخرجة هالة خليل "أحلى الأوقات" فقد تم الاستعداد للفيلم على أن يكون فيلمًا رومانسيًا ببطولة نسائية بحتة، وقدر النقاد أن الفيلم سيكون نقطة مضيئة ضمن موجة الأفلام الشبابية الدارجة. يتحدث الفيلم عن فتاة (حنان الترك) تعيش مع زوج أمها المتوفية، وتتلقى رسائل مصدرها أبوها الذي تركها وهي طفلة ولا اتصال بينها وبينه، فتبدأ برحلة البحث عنه، وتشاركها في ذلك صديقاتها (منة شلبي، وهند صبري) وجارها وزوجها لاحقًا (عمرو واكد).
المهم أن البنت تصل إلى والدها، وتكتشف أنه ليس الفاعل، وأن الذي يرسل الرسائل هو زوج أمها الذي كان يفعل ذلك ليساعدها على استعادة ثقتها بنفسها.
المشكلة في هذا الفيلم هو السياق المعطوب، فلا يعقل أن يسخر جميع من حولها حياتهم من أجل متابعة قصتها مع والدها، حتى أن عمرو واكد كان أشبه بالدمية وهو يلاقيها أمام المصعد، ثم يعلن لها من خلال اتصال هاتفي أنه واقع في حبها ويرغب في الارتباط بها. لقد كان على المخرجة أن تحيي الروح بتلك الشخصيات لا أن تحنطها إذا أرادت فعلًا أن تكسب فيلمها.
إن فهم مثل هذه الأخطاء، أو الهفوات، يدعونا إلى أن نمعن النظر في مهمة المخرج، الذي يتحمل المسؤولية أولًا وأخيرًا، ذلك أن المخرج هو الذي يروي القصة في صور، ويجب قبل ذلك أن يكون مدركًا للشكل الذي سيخرج به فيلمه كاملًا، فالمعروف أن طاقم الفيلم لا يعرف عادة مستوى الأداء الذي يقدمه، ذلك أن الفيلم ينفذ على لقطات ومشاهد متباعدة، ولا يمكن الحكم على الفيلم إلا بعد تجميعه وإجراء عمليات المونتاج المناسبة له. ولهذا، فإننا نلاحظ في استديوهات التصوير كيف أن الممثل يتجه بعد أن ينفذ مشهده إلى الكاميرا ليرى كيف كان أداؤه. إذًا، إن الصورة برمتها في ذهن المخرج، وإذا لم تكن تلك الصورة مكتملة وناضجة، فإن خللًا سيظهر حتمًا عندما ينجز الفيلم تمامًا، أو عندما يعرض على الجمهور.
على ذكر هذه الملاحظة الأخيرة، هنالك كثير من الممثلين يتفاجأون بتردي المستوى الفني الذي ظهروا به وهم يجلسون بين صفوف المشاهدين، أي عند مشاهدة الفيلم كاملًا في عرضه الأول. ولعل هذا ما لاحظه ممثلون كبار، من أمثال يسرا، ونور الشريف، عندما شاهدا العرض الأول لفيلم "دم الغزال"، فعناية هذين الممثلين بأداء مشاهدهما كانت واضحة، ولكن الفيلم ككل ظهر بإيقاع بطيء، وفي أحيان أخرى غير مترابط، فبدت العناية بالأداء التي نفذها الممثلان انفعالًا وليست انسجامًا مع تداعيات الموقف.
هذا ما يؤكد القول: أن تكون ممثلًا جيدًا لا يعني أن تقدم فيلمًا جيدًا، فالمسؤولية برمتها تقع على عاتق المخرج الذي يستطيع أن يتوج نجاحك بمشهد عابر، أو أن يحط من قدرك بفيلم استحوذت أنت على أغلب مشاهده.
هنالك مخرجون، على سبيل المثال، يكتشفون في عرض الفيلم الأول أن الفيلم أطول مما يجب قليلًا، أو أنه أقصر مما يجب قليلًا، ومسألة الزمن هنا مهمة، فيجب أن ينتهي الفيلم عندما يجب أن ينتهي، وأي إطالة غير ذلك تعد حشوًا، وأي قصر، أو تقصير، يعد بترًا.
هذه ملاحظة يمكن أن نستشهد عليها بفيلمين: الأول للمخرج الشاب المبدع مروان حامد في فيلم "لي... لي"، فهذا الفيلم الذي تصل مدته إلى ما يزيد على العشر دقائق بقليل كان يستحق وقفة أطول، ومدة عرض أطول، ليتفاعل مع أحداثه على نحو أفضل. أما الفيلم الثاني فهو للمخرج اللبناني أسد فولادكار "لما حكيت مريم"، الذي تزيد مدته على الساعتين، وكان يمكن اختصار نصف ساعة منه تعفي المشاهد من بطء الإيقاع أحيانًا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.