}

سبعة أيام في عمّان: واحة أمان

صقر أبو فخر صقر أبو فخر 23 يونيو 2024
أمكنة سبعة أيام في عمّان: واحة أمان
عمَّان العاصمة الأردنية

I
غبتُ عن الأردن سنوات طويلة لأسباب خارجة عن إرادتي، ووطئتُ أرضه الغالية في الخامس من حزيران/ يونيو 2024 للمشاركة في احتفالية ثقافية لإطلاق موسوعة غوستاف دالمان "العمل والعادات والتقاليد في فلسطين"، التي توليتُ تحريرها علميًا ثلاث سنوات. وفي رحاب المركز الثقافي الملكي في عمّان الذي احتضن الاحتفالية برعاية وزيرة الثقافة هيفاء النجار، أحسستُ أنني أستعيد ذكرياتٍ دفّاقة عن هذا البلد الأمين، ولم أمتلك الكلمات الثاقبة للتعبير عن غبطتي بوجود الأصدقاء الذين من المحال عدّهم وإيراد أسمائهم جميعًا. والأردن في خاطري هو نهر الأردن، ويوحنا المعمدان، والمغسل، والمسيح، والصابئة المندائيون (المغتسلة)، أي المجوس الذين قصدوا إلى مغارة بيت لحم، حيث وُلد يسوع بحسب الرواية الإنجيلية. والأردن هو امتدادُ القلب من بيروت إلى دمشق فعمّان، وهو قلبُ بلاد الشام والجدارُ الذي تتكّئ فلسطين عليه دائمًا.
والأردن في مخيّلتي منذ الطفولة مكان مدهش، ولا سيما حين كنتُ أستكينُ إلى جانب والدي بعد يوم "العفرتة" لنستمع إلى برنامج "مضافة أبو محمود" من الإذاعة الأردنية وفيه ألوانٌ من غناء سلوى العاص (نوال العجاوي)، وعبده موسى، الذي كان يسحرني حين يجرّ قوسه على وتر الربابة ويغني"نِزْلِنْ على البستان يا عنيّد يا يابا"، فيما تغنّي سلوى "وين عَ رام الله"، أو "بين الدوالي".

موسوعة "العمل والعادات والتقاليد في فلسطين" لغوستاف دالمان تتألف من عشر مجلدات 


كتب عبد الرحمن منيف "سيرة مدينة" (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1994)، لكنه اقتصر في تلك السيرة الجميلة على عمّان كما كانت في أربعينيات القرن المنصرم، وهي الفترة التي عاشها الكاتب في المدينة ذات الجبال السبعة. والأردن، كما هو في تاريخه وحاضره، فضاءٌ مترامٍ من الجمال والأماكن والأوابد. وكانت رحلاتي السابقة إلى الأردن تكاد تُقتصر على عمّان وحدها (اصطحبتني مرّة الصديقة عباب مراد إلى جرش)، وكنتُ في كل زيارة أجوس في أرجائها وأحيائها شرقًا وغربًا، من جبل الحسين، واللويبدة، وتلاع العلي، وشارع الملك حسين، والعبدلي، والساحة الهاشمية، والمدرّج الروماني، والقلعة، وإذا ابتعدتُ فإلى الشميساني (حيث مؤسّسة عبد الحميد شومان قبل انتقالها إلى جبل عمّان، ومديرها الأسبق أسعد عبد الرحمن)، وعبدون ومقهى "الدبلومات" في الدوار الأول في جيل عمّان. لكنني في حزيران/ يونيو 2024 وجدتُ نفسي مشدوهًا أمام مدينةٍ تمتد حتى الفحيص، وتحتضن دابوق، والرابية، والغاردنز، ووادي صقرة. وفي الفحيص غمرنا الشاعر ومهندس الجسور الجَسور الشاعر والروائي سمير القضاة بكرمه. وفي الطريق إلى الفحيص، كانت عيناي تتنقّلان بين هذا الحي وذاك، وبين القصور الملكية والأحراج الجميلة المتناسقة.
كانت السلط قاعدة الأردن التاريخية، أما عمان فكانت محطّة على طريق الحج الشامي. وامتدادها ما كان ليتجاوز ناعور، وصويلح، والرصيفة.




لكن عمّان اليوم مدينةٌ بجميع المواصفات. كان عدد سكّانها في سنة 1919، أي بعد مدّ سكة حديد الحجاز، نحو أربعة آلاف شخص، ومساحتها قرابة الكيلومتر المربع الواحد. واليوم يبلغ عدد سكان العاصمة نحو ثلاثة ملايين (عمّان الكبرى تبلغ خمسة ملايين تقريبًا) ومساحتها نحو ثمانية آلاف كيلومتر مربع.

II
في رحلتي الأولى إلى عمّان قبل أكثر من ربع قرن كنتُ أتشوّق لاكتشاف وادي السير وغزلانه، ووادي الشتا وخرابيش وادي اليابس، واستطلاع خمّارة إسحق السمارة (الحوراني) وخمّارة قعوار. وكان ذلك من أثر شاعر الأردن مصطفى وهبي التل (عرار). والمعروف أن عمّان لم يكن فيها حتى أربعينيات القرن المنصرم غير خمّارة قعوار التي تقدم "عَرَق ينّي" الآتي من لبنان. أما عمّان اليوم فتضج بالمقاهي والملاهي والمطاعم والحدائق وأمكنة التسوق الحديثة (المولات). وكنتُ كلما أتيت عمّان لا بد من النزول إلى قعر المدينة عند مطعم هاشم للفول والحمص والفلافل، والوقوف مليًا أمام كشك أبو علي لبيع الصحف والمجلات والكتب. وفي زيارتي هذه رحتُ أسأل عن مطعم هاشم وحلويات جبري وزلاطيمو. لكن صديقي معين الطاهر اقتادني إلى فلافل أبو جبارة مع صديق العمر معن البياري، وقال لي: قارن بين "هاشم" و"أبو جبارة". ومع ذلك، أبى معن البياري إلا أن يصطحبنا، محمود الريماوي، وعيسى الشعيبي، وأنا، إلى مطعم هاشم، حيث استعدنا أجواء الماضي والحنين إليه، وتنعّمنا بطيّب الفول والحمص والفلافل والشاي. وعلى المنوال نفسه، أصرّ معين الطاهر على الذهاب إلى "حلويات حبيبة"، لنزدرد الكنافة الخشنة والناعمة، ونقارنها بحلويات زلاطيمو مثلًا.
عمّان مدينة تغار بيروت منها اليوم، وتنثني دمشق إليها بتحنانٍ بعدما كانت الشام ملاذ الأردنيين وجامعتهم وسوقهم وقبلة سياحتهم، وبعدما كانت بيروت مقصَدهم. وفي عمّان التي أمضيت فيها سبعة أيام كأيام الخليقة (مع فارق واحد، عدم الاستراحة في اليوم السابع) قلّما رأيتُ الحجاب على وجوه النساء. وكانت عمّان في مخيّلتي بلد تيسير سبول، ومصطفى وهبي التل (عرار)، ويعقوب العودات (البدوي الملثم)، وروكس بن زائد العزيزي، الذي أماط اللثام عن سرقة مكشوفة للشاعر اللبناني إيليا أبو ماضي بعدما أغار على قصيدة للشاعر الأردني علي الرميثي، وانتهب بعض أبياتها. يقول علي الرميثي:

"يا أخوتي ما أنا فحمة ما لْها سنا
ولا إنتْ فرقد يرهب الليل مسراه
يا خوي ما احنا فحمة ما بيها سنا
ولا إنت شمس تلهب الدو بضياه"
أما إيليا أبو ماضي فيقول في قصيدة "الطين":
"يا أخي لا تمل بوجهك عني
ما أنا فحمة ولا أنت فرقد".

III
عمّان ملتقى الشعراء والأدباء والكُتّاب والصحافيين والفنانين من الضفتين، ومن سورية والعراق. وفي الذاكرة حيدر محمود، وإلياس فركوح، وعيسى الناعوري، وعدنان البخيت، ومعاوية إبراهيم، وناصر الدين الأسد، وإبراهيم السعافين، وخالد الكركي، وفايز الصُياغ، علاوة على الأصدقاء الأحدث، ومنهم فاروق وادي، وعزّ الدين المناصرة، ومحمد القيسي، ومؤنس الرزاز (رحلوا عن هذه الدنيا باكرًا، يا للأسى)، وإبراهيم نصر الله، ويوسف أبو لوز، وعمر شبانة.
لم التقِ أحدًا من هؤلاء غير إبراهيم السعافين، وعمر شبانة. لكن الأصدقاء، وما أكثرهم، برهنوا على أن قيم الكرم والنخوة والأريحية ما برحت حاضرة بقوة في الأردن. معن البياري أتى من الدوحة لنكون معًا في عمّان؛ معين الطاهر وزوجته يسار حمودة أضفيا على لقاءاتنا نكهة فلسطينية فائقة الرهافة والأناقة؛ صبحي طه الصديق القديم والدائم؛ زهير أبو شايب بلحيته التي شابت حقًا وأكسبته وقارًا؛ أحمد أبو طوق صاحب "الدار الأهلية للنشر"، والقادم من زيارة من رام الله الذي أصرّ على اصطحابنا إلى مطعم "بونيتّا" حاملًا لي معه الزعتر المقدسي؛ ماهر الكيالي صاحب المؤسّسة العربية للدراسات والنشر الذي ما تركني إلا مُرغمًا جرّاء التزاماتي المتعدّدة؛ الشاعر والروائي سمير القضاة الذي غمرني بكرمه ولطفه وثقافته الشعرية؛ مهنّد مبيضين الصديق والكاتب والمثقف المميّز والأخ العزيز الذي بات وزيرًا للاتصال الحكومي (الإعلام) اليوم، وقد كسِبَتْه الوزارة ولم تخسره الثقافة.

معبد هرقل قرب العاصمة الأردنية عمَّان 


من مفارقات أيامي في عمّان أنني "عثرتُ" أخيرًا على الأخ العزيز محمد أبو زيد (المترجم الرئيس لموسوعة غوستاف دالمان)، وزوجته الرائعة وفاء. لقد ظنّ مَن شاهدنا "نعبط بعضنا" أننا صديقان قديمان لم يلتقيا منذ دهر. والحقيقة أنها كانت المرّة الأولى التي ألتقيه مباشرة، لكننا كنّا على تواصل دائم طوال ثلاث سنوات بالهاتف من بيروت إلى رام الله، أو بالبريد الإلكتروني، أو بدائرة الزوم. وكرّسنا معًا سنواتٍ متعبة ولذيذة ومتسربلة بالقلق لإنجاز هذه الموسوعة الفريدة والمدهشة: هو بترجمتها من الألمانية وتدقيقها ومراجعتها، وأنا بالتحقيق العلمي للأَعلام والمواقع والمصطلحات والمسمّيات واللهجات المحلية. وقد سُعدتُ أيما سعادة لرؤيتي الكاتبة المميزة والقاصّة ووزيرة الثقافة السابقة بسمة النسور، التي عرّفني إليها في الدوحة معن البياري، وهو الصديق الذي من المحال أن أُشفى من صداقته. وغيوم الأيام لن تُنسيني، بلا شك، الأصدقاء سري أكرم زعيتر وزوجته الوزيرة السابقة مها الخطيب، والدكتور أنيس فوزي قاسم، ومحمد أبو ميزر (أبو حاتم)، وعالم الآثار محمد مرقطن، ولمى عصام سخنيني، وزياد بركات، وهاني حوراني، وغازي الذيبة، ومعتزّ الدجاني، وسمير أيوب، وموسى حوامدة، وعزيزة علي، والدكتور طاهر كنعان، وعصام السعدي، والزميلين اللامعين عيسى الشعيبي، ومحمود الريماوي، اللذيْن، برفقة معن البياري واقتراحه، استمتعنا بفلافل هاشم وصنائعه من الفول والحمص. أما المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (فرع عمّان) فهو ليس مجرد مبنى جميل يديره الأخ معين الطاهر، بل مكانٌ تشيع فيه روح الإلفة والمثابرة، وصار مرجعًا للباحثين وموئلًا للثقافة، ومؤسّسة لتوثيق التاريخ الفلسطيني المعاصر.

IV
الأردن واحة أمان في محيطٍ مشتعل. إنه محاطٌ بدولٍ تقلّبت أحوالها بقوة خلال اثنتي عشرة سنة فقط. العراق المفكّك على مستوى الهوية، وسورية التي خضعت، ولا زالت، لحربٍ أهليةٍ دامية، وغزّة الغارقة اليوم بدماء أبنائها وصمودهم الأسطوري في الوقت نفسه، والضفة الغربية العالقة في الأسر الإسرائيلي. ويواجه الأردن اليوم تحدّيات صعبة جدًا، مثل التحدّي الأمني الذي تجسّده القوى المتطرّفة والجماعات الإرهابية وبعض الجهات الإقليمية التي لا تتورّع عن تهريب السلاح عبر الأردن وإلى الأردن؛ والتحدّي الاجتماعي والصحي (مكافحة آفة المخدّرات مثل الكبتاغون)، والتحدّي الاقتصادي (مواجهة الركود).





العبث بأمن الأردن جريمة قومية، ومناصرة الأردن في مواجهته هذه التحدّيات وغيرها واجب قومي بلا ريب. ودعم الأردن، خصوصًا في هذه الأيام المدلهمة، يرقى إلى مصافّ المهمّات القومية السامية التي لا غاية لها غير الحفاظ على الأردن واستقراره وصموده. فالأردن القوي المنيع يستطيع أن يكون سندًا لفلسطين، أما الأردن المضطرب فلن يكون قادرًا على صوغ سياسات صلبة لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي. ولا أجازف في الاستنتاج إذا قلتُ إن على جميع الأردنيين، والعرب أيضًا، مساندة الدولة الأردنية ومؤسّساتها وأجهزتها المكلّفة حماية الأردن من العبث المحلي، وإفشال المخطّطات الإقليمية المعادية للمصالح العامة للشعب الأردني.

V
أهل عمّان لا ينامون إلا بعد أن يستمعوا إلى آخر نشرة أخبار، ويستيقظون باكرًا مع أول نشرة أخبار؛ قلوبهم معلّقة بفلسطين، وإرادتهم متحفّزة للدفاع عن استقرار بلدهم. ودائمًا ثمة خشيةٌ من أن تعمد إسرائيل، في أحوال متفجّرة، إلى طرد أعداد كبيرة من فلسطينيي الضفة الغربية إلى الأردن، حيث لا ملاذ لهم غير هذا البلد. فالأردن هو البلد العربي الوحيد الذي منح الجنسية للفلسطينيين منذ سنة 1950 ووفّر عليهم متاعب وثائق السفر. وكانت الهوية الأردنية، وهي هوية حديثة، قد عاشت على إرث الثورة العربية الكبرى التي أعلنها الشريف حسين بن علي في سنة 1916، ثم على المبادئ القومية المشتقّة من تجربة الملك فيصل الهاشمي في المملكة العربية السورية ومملكة العراق. ومع أن تلك الهوية الحديثة خضعت في بعض المراحل لثنائية "أردني ــ فلسطيني"، ولثنائيات فولكلورية مسلّية وفِكهة، مثل الكوفية بالأسود والأبيض، في مقابل الشماغ بالأحمر والأبيض، أو طبق المسخّن في مقابل المنسف، أو فريق مخيّم الوحدات في مقابل النادي الفيصلي لكرة القدم، فإن الهوية الأردنية اليوم، كما بدت لي، قد تطوّرت كثيرًا، وما عادت عبارة عن طبقات من الهويات المتراكبة والهويات الفرعية (شركس وشيشان وشوام وحوارنة وخلايلة)، أو عشائر أصلانية مثل بني صخر، وبني حسن، والحويطات، والعودات، والعدوان، والعبابيد، والمساعيد، والمحاميد، وآل الثويني (ومنهم عائلة التويني الأرثوذكسية الغسّانية)، بل صارت هوية جامعة تعلو على الهويات الموروثة وتتقدّمها، وهذا الأمر إنجاز لافت في عصرٍ يتوحد فيه العالم على مستوى التجارة والمال والتبادل العلمي، ويتمزّق على مستوى الهويات. ليتذكّر جميع العرب ويتنبهوا أن وحدة الأردن أرضًا وشعبًا ودولة ومؤسسات، فضلًا عن استقراره ومناعته وعزّته، إنما هي، من دون شك، مكسبٌ للعرب، وللأمن القومي العربي. ومَن يتواطأ على غير ذلك بأي ذرائع، أو حجج، فإنما يسهم في تحطيم آخر معاقل الاستقرار في المشرق العربي، وهو ما لا يمكن السكوت عنه إطلاقًا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.