}

طال مقام السفر فمتى تنزل شارة النهاية؟

صقر أبو فخر صقر أبو فخر 5 سبتمبر 2024
يوميات طال مقام السفر فمتى تنزل شارة النهاية؟
(حسن جوني)

 

I

تُنسب إلى الشاعر السوري القديم أرابيوس عبارة جعلها نقشًا على قبره يقول فيها: "أيها المارُّ من هنا، كما أنتَ الآن كنتُ أنا، وكما أنا الآن ستكون أنتَ. فتمتع بالحياة لأنك فانٍ". ويرى بعض المؤرخين أن تلك العبارة ليست لأرابيوس (العربي)، بل للشاعر السوري ميلياغروس (هلنستي الثقافة). وكل ما فعله أرابيوس هو أنه عمد إلى حفر هذا النص على صخرة من بازلت حوران، وجعلها شاهدة قبره في بلدة أم قيس (غدارا القديمة) الواقعة اليوم عند مثلث الحدود السورية – الفلسطينية – الأردنية.

هل يمكن التمتع بالحياة حقًا؟ كثير من الأدباء صاغوا روايات عن هذه المسألة. وصنع سينمائيون أفلامًا تدور على أشخاص قيل لهم إنكم ستموتون بعد سنة، أو بعد ستة شهور مثلًا، وهاكم خمسين مليون دولار لتنفقوها كلها في ما تبقّى لكم من العمر، وتتمتعوا بها قبيل الموت. فماذا فعل هؤلاء؟ لا شيء. فالموت أفسد الحياة لأنه "يجري في النفس جريان الشمس في النهار. فما غبطة حيّ إلى الممات يصيرُ؟" على حد قول الشاعر المسيحي الجاهلي عُدي بن زيد العبادي.

حيّرتْ مشكلة الموت عقل الإنسان وأذهلتْ خياله ومشاعره منذ أن بزغ الوعي الانساني. والجنس البشري هو الجنس الوحيد من المخلوقات الحيّة الذي يعرف أنه سيموت. لذلك يتملكه الخوف من الفناء، ويود لو يعرف ماذا يوجد بعد الموت. ومن حرقة هذا التأمل في الغيب وأسراره ومجاهيله وُلدت الأسطورة ثم الفلسفة ثم الدين. وحده الأخطبوط لا يعرف الخوف من الموت بتاتًا، ولا حتى الخوف إطلاقًا، لأنه لا يمتلكُ دماغًا وأعصابًا. وقد حلّ أبيقور، فيلسوف اللذة، هذه المعضلة بمعادلة فلسفية بسيطة فقال: "الموتُ، وهو أعظم الشرور، لا يعني شيئًا لنا. فما دمنا موجودين فهو غير موجود. وعندما يحلّ علينا الموت نكون غير موجودين". فهو، والحال هذه، وجود عَرَضي لا يؤثر في الوجود الجوهري، إذ إنه للأوائل غير موجود، وللأواخر لن يكونوا أحياء حين يأتي إليهم. أما سبينوزا فكان يردد: " ليس من الحكمة التفكير في الموت، بل الحكمة هي التفكير في الحياة". وقد دُهشت، أيما دهشة، عندما اكتشفتُ ريادة الدهريين العرب ومقولاتهم عن "الطبع المحيي والدهر المفني"، أي أن الطبيعة هي الخالقة، والدهر هو الفاني. وكل كائن مصيره الفناء خلا هذا الكون، وكل تكوين لا يخلق كونه وكينونته يزول ويفنى. وغرابة الكائن تكمن في إدراكه أنه سائر إلى محطة النهاية، لذلك تشغلُه تلك اللحظة، وتغمره بالخوف والإذعان كأنه ينتظر مصيره المرسوم سلفًا وهو صاغر. فحياة الفرد مثل سباق الخيل؛ جميع المشاهدين ينتظرون النهاية فيما الخيول تجري لاهثة، واللاعبون تخفق قلوبهم وتكاد تقفز من صدورهم. وعمرُ الإنسان مجرد شوط قصير جدًا في سلسلة زمنية عابثة، أو مثل مسلسل درامي: جميعنا يعرف خاتمته، لكننا، على الرغم من ذلك، ننتظرها بخوف وهلع.

كان سبينوزا يردد: " ليس من الحكمة التفكير في الموت، بل الحكمة هي التفكير في الحياة" (Samuel Hiszenberg, 1907)


في سباق الخيل يخسر الجميع إلا واحد. ولهذا ابتعدتُ عن السباقات كي لا أخسر الأمل، مع أنني كنت أخسر دائمًا في الحياة اليومية. وعلمتُ أن الحياة، في نهاية المطاف، ليست إلا رحلة في الزمن نتعلم في أثنائها الخسارة تلو الخسارة، ومع ذلك نواصل الحياة برغبة متدفقة.

لقد أنجزتُ طوال سنين متعاقبة أمورًا كثيرة، لكنني لم أغنم شيئًا البتة، إذ عشتُ في الجانب المظلم من قمر الحياة، وأدركتُ منذ بداياتي أنني وُلدتُ خاسرًا، وبرهنتْ أيامي اللاحقة أنني لم أربحْ شيئًا البتة. وفي هذا السديم الموحش يُمسي الكائن البشري مثل معزاة ذاهلة التي ما إن ترى الذئب يترصدها ويقترب منها ليعقرها حتى تلوي عنقها مستسلمة، وتتقدم منه بهدوء بدلًا من أن تهرب.

والإنسان، يا للمفارقة، يولد باكيًا والجميع من حوله يتضاحكون بسرور وغبطة. ثم يمضي الكائن إلى نهايته متثاقلًا مهزومًا هزيلًا عاجزًا والجميع من حوله واجمون. إنها الدورة الأبدية التي ما برحت منذ تكوين الكائنات تعاود الدوران بلا غاية أو هدف أو غرض. والدورة غير الدائرة؛ الدائرة دوران من دون تقدم كالفصول الأربعة. أما الدورة فهي كدوائر الحلزون التي تعني التقدم والتشابه مع الماضي في آن. الطبيعة دوران دائري، فيما الإنسان دوران حلزوني. وعلى هذا المنوال فإن الموت هو الحقيقة الأزلية الساطعة، فكيف لا نفكر فيه خلافًا لما نصحنا به أبيقور وسبينوزا؟ إنه الدائرة نفسها؛ فالبداية هي النهاية، والحياة يليها الموت، والرحلة معراج دائم بلا جدوى. وهؤلاء البشر المتناهون في صغرهم وفي صغائرهم يبدون مضحكين في زهوهم الذي لا يُردّ، وفي تجبرهم الذي لا يُحدّ، وفي خيلائهم التي لا تُصدّ، علمًا أن الواحد منهم مثل واحدة الذرّ التي تتحرك في جميع الاتجاهات في هذا العماء الفسيح غير المتناهي. والمعروف أننا نعيش في مجرّة درب التبانة milky way، وأقرب مجرّة إلينا تدعى أندروميدا التي تبعد عنا مليونان ونصف المليون سنة ضوئية، أي أن ما نراه اليوم في التلسكوب (المقراب) هو ما جرى واقعيًا قبل مليونين ونصف المليون سنة. ويبلغ عدد نجوم مجرتنا مائة مليار نجم، وعدد المجرات في الكون مائة مليار مجرّة، أي أن هناك عشرة آلاف مليار مليار نجم عدا الكواكب التي تدور حول النجوم. أَليس الكائن البشري مثل الذرّ حقًا؟ أي كصغار النمل الذي يخرج من بيوضها العجيبة فيما قوائمه لا تكف عن الحركة إلا حين تصبح خطاه ثقيلة وعصاه صقيلة بعدما أعياه التعب وانحل منه العَصَب. وفي أي حال، هناك مَن تساءل: إذا كانت غاية الله خلق الجنس البشري فلماذا لم يكتفِ بالكرة الأرضية وحدها وخلق مائة مليار مجرة؟ هذا يعني أن جميع تلك المجرات، بما فيها من نجوم وكواكب، لا لزوم لها. ويلوح لي أن ما صممه الله بدقة من مجرات ونجوم وكواكب، ها هو يتصادم ويحترق ويفنى. وكل ما أراده للبشر كالوئام والسلام والمعرفة والعدل والخير والحق والجمال لم يتحقق إطلاقًا، بل إن ما تحقق هو كل ما خالف رغبة الله ومشيئته وإرادته.



ii


عشتُ معظم مراحل حياتي مرتعبًا كراكب الأسد، وصرفتُ عمري حذرًا ووجلًا كراقص على الحبال. وكثيرًا ما شعرتُ بأنني مثل يوسف ملقى في بئر ولا أحد يسمع استغاثتي وأنيني. وكم صرختُ من أعماقي مثل يوحنا، لكن صوتي كان كتومًا كأنين الذئاب المنهكة. وكنتُ أنفرُ إلى الوديان كظبي وَعْري خائف. وأمضيتُ شوطًا طويلًا من أيامي كأنني مقيم فوق سفح بركان خامد، فأصحو في معظم الليالي فَزِعًا من أن تغمرني الحمم الذائبة، ويُغرقني ذاك البركان بصبيبه الناري المنصهر.

هي ذي حياتي تتصرّم وأنا ذاهل عنها؛ متسربل بالقلق والاضطراب بعدما أنهكتني صروف الدهر الذي أمضيتُ فصوله وشهوره خائفًا باحثًا عن سكينة تُهدّئ وجيف قلبي، وتقي جسدي الارتعاش والرجفة. وكنتُ في غمار ذلك الهلع الوجودي كضائع في متاهة دغلية، أو كعصفور ضعيف يحاول الاختباء بين الأشواك كي يُفلتَ من بندقية صياد أرعن، أو مثل غزال وحيد استفرد به قطيع من الذئاب. وفي معمعان ذلك الألم الغامر تطورتْ لدي، بالتدريج، عناصر دفاعية معقّدة، وآليات نفسية تتضمن مقادير من القسوة على الذات، ومن المطاوعة في مواجهة عسف المجتمع. وفي هذا الوجود الراعب اخترعتُ حكايات لا تطابق وقائع أيامي في بعض مساراتها. واعتقدتُ أن ذلك ربما يُسيّج روحي أحيانًا، ويجعلني مثل زهرة صبّار هشة تحميها إبرها الشوكية القاسية. هكذا حاولتُ أن أصنع لنفسي أشواكًا تحميني من طراد الدبابير، غير أن تنمية القسوة لم تحمني قط، بل أورثتني آلامًا في أحشائي لا تنثني عني إلا لتعود ثانية. أما السماحة في وجهي فلم تحمني بدورها، واكتشفتُ بعد زمن طويل أن أي شخص نباتي لا يمكنه أن يمنع ثورًا من نطحِه، ولا كلبًا من عضّه، وحتى التاج لا يقي الملك الصداع. وكم وددت أن أكون مثل ثمرة جوز الهند: شديدة البياض من الداخل وشديدة الاسمرار من الخارج. لكن القشرة السمراء لم تستطع أن تحميَ اللبّ الأبيض، ولا أن تحفظ ماءه السكري، لذلك تصرفتُ بحسب الحكمة المكتسبَة: إن كنتَ سندانًا فاصبر؛ فصرت أَصْبَرُ على العناء من الوتد لاعتقادي أن الألم لن يدوم، لكن الجروح لن تندمل. ومع ذلك، بل جراء ذلك، تعلّمتُ المشي منفردًا كي أُنصتَ إلى لهاثي وحدي. وكثيرًا ما تخيلتُ أنني أمشي على الماء، حيث لا أحد يمكنه أن يمشي على الماء. واحد فقط فعلها هو المسيح بحسب الحكاية الإنجيلية المعروفة. أما ما يستطيعه الإنسان فهو تعلم السباحة كي لا يبقى مستلقيًا عند حافة الماء، خائفًا من الغرق في الأعماق. ولا بد في هذه الحال من أن يتعلم السباحة، غطسًا وطفوًا. أما أنا فلم يعلمني السباحة أحد، ولم أتقنها، وطوال عمري كنت أسبحُ وأنا خائف من الغرق.

أقرب مجرّة إلينا تدعى أندروميدا التي تبعد عنا مليونان ونصف المليون سنة ضوئية، أي أن ما نراه اليوم في التلسكوب هو ما جرى واقعيًا قبل مليونين ونصف المليون سنة (Getty)


لم أنعم بالطمأنينة في أي يوم، ولم تنطبع علامات الأمان على قسمات وجهي قط. كنتُ وَجِلًا في معظم سنيّ عمري. وحين خِلتُ أنني تعشّقتُ امرأة ما، أو انسابت مشاعري نحو أُنثى أغرمتُ بها هنا، أو سيدة هناك، اكتشفتُ أن ذلك العشق لن يتمكن من إعادة الالتحام إلى ذاتي المعطوبة والمحطمة. وكانت روح الغريب المهاجر تغمرني في كل خطوة وعند أي مفترق، الأمر الذي تركني أواجه مصيري أعزلَ، ومجردًا من أي وسيلة للاحتماء أو للدفاع. والسلاح الوحيد الذي امتلكتُه كان سلاحًا غير ظاهر؛ إنه تحدي شروط البقاء المضنية بصمت، والانغماس في لهيب الحياة اليومية الصاخبة في الوقت نفسه، لعل المعاندة تُعينني على تبديد اضطرابي. وداويتُ ذلك الاضطراب بالأصابع والأنامل، أي بالقلم، حتى أُصبتُ بالإدمان، وعُدتُ لا أجد لذّة في الراحة أو الاسترخاء، وافتقدتُ كل رونق يمكن أن يغمر الأشياء ويضفي عليها ألوانه، ونزعتُ السحر عن عالمي. سأعترف ها هنا أنني، في هذا الهجران الطويل، ما كتبتُ إلا بيدين راجفتين، وشجاعتي كانت قناعًا لاضطرابي.

III

لم أشعر يومًا، حتى في طفولتي الأولى أو في فتوتي المبكرة، بأنني في مكاني. لا الوطن وطني ولا الناس أعمامي وأخوالي؛ لا بيتَ نملكه، ولا عائلة أحتمي بها، ولا عِزوة أعتمد عليها، أو طائفة أعتضد بها. كنتُ غريبًا في محيط يخشى الغرباء وينفر منهم. لم أنجذبْ إلى أي زعيم البتة، وكنتُ أرى كل زعيم مثل الطائر، كلما ارتفع صَغُر.

لا بلادَ تشدّني إليها، وبلادي أنفرُ منها. وفي إحدى المرات سمعت الحلّاق يقول لوالدي الذي كان يُمسك بيدي: "الغريب يجب أن يكون أديبًا". وعلمتُ آنذاك أنني غريب. وسرعان ما ارتفعت الجُدُر بيني وبين الذين اعتقدتُ أنني منهم. هؤلاء لا يربطك بهم غير المجاورة. هنا وُلدنا، وهنا نشأنا، وهنا صار لنا أتراب نلعب وإياهم، ونتكلم لهجتهم وندخل إلى بيوتهم ونذوق طعامهم. في هذه المدارس تعلّمنا، وفي ذلك البحر سبحنا، وبين أحراج الصنوبر وكروم العنب وحقول الزيتون والوديان والسواقي كبرنا، وكنا نعلم أن أجدادي تحدروا من هذه الأماكن، ولنا في هذه الربوع أقارب. ومع ذلك لم نكن منهم. وما كان يقضّ مضجعي أنني لست من هنا ولستُ من هناك، فلم أنتمِ يومًا إلى هذا المكان بل كنتُ أعيش فيه فحسب.

كنتُ غريبًا منفيًا منشطر الهوية، وكنتُ أريد وطنًا أنتمي إليه، وجماعة لأحسّ بالانتماء إليها. وكثيرًا ما شعرتُ في لحظات الأسى كأنني يهودي في حي نازي. وفي مواجهة هذا العياء أغرتني حكمة فارغة تقول: "الإنسان حيث يوجد لا حيث يولد، وحيث يثبُت لا حيث ينبت". لكنني ما استطعت يومًا أن أثبتَ في المكان، فكنتُ أمرّ بالأماكن مثل راكب القطار؛ أحدّق فيها، وأرى المنازل وهي تتراكض بسرعة إلى الوراء ثم تختفي، فلا تستقر عينيّ على أي مشهد دائم.

IV


عاش والدي يتيمًا، وكنتُ ألمحُ كيف عبث اليُتم بقلبه منذ طفولته، وكيف كان يعوّض ذلك الأنين بالحنان الذي غمر به أولاده. وحين قادتني مصائري إلى الرحيل عن المنزل اكتشفتُ أنني صرتُ يتيمًا مثله، مع أن لي والد ووالدة وأخوة وأخوات. وها هي حواسي لا تنفك تتذكر يده حين تُمسك بيدي، ويده اليسرى حين تطوق عنقي في كل لقاء. لم يصافحني يومًا، بل كان يغمرني ويتشمم عنقي، فهو يعرف أنني ما جئت إليه إلا كي أغادر مجددًا.

حين أفلتتني يد والدي مرّة في زحام سوق النورية القديم في وسط بيروت، أصابني الهلع، واعتقدتُ أنني تُهتُ عن والدي، وسأضيع ويختطفني الغجَر، ولن أراه ثانية. ومنذ تلك الحادثة وأنا أنتظر يدًا تُمسك بيدي فلا أُفلتها قط. وقد مضت بي بُرحاء الزمان ولم تُمسك بيدي أي يد على الإطلاق، كأنني عشتُ بلا أب أرافقه واستمد الحماية منه. وكانت الذكريات بيننا قليلة ومتباعدة مع أنه بلغ الخامسة والتسعين، ولم أتمكن من أن أمسك يده المتغضّنة في لحظاته الأخيرة.

عِشتُ بلا أمّ أيضًا؛ بعيدًا عنها منذ أن أصبحتُ فتى. لم أجد يدًا تدثّرني قبل إغفاءاتي، ولا يدًا توقظني حين يشقشق الصبح. وفي رحلة الزمان هذه عذّبتُ والدي كثيرًا، وعذّبت والدتي أكثر، لكنهما ما كانا يعلمان كم عذّبتني جروح الحياة التي لم تندمل، وكم أناخ الوجود بثقله عليّ منذ أن وعيتُ وجودي في هذا العالم. هكذا بقيتُ وحدي لا أحد يشدّ على يدي، ولم أعثر على امرأة لأسند روحي بساعديها، أو أعتصم بزنديها.

حين أفلتتني يد والدي مرّة في زحام سوق النورية القديم في وسط بيروت، أصابني الهلع، واعتقدتُ أنني تُهتُ عن والدي، وسأضيع ويختطفني الغجَر، ومنذ تلك الحادثة وأنا أنتظر يدًا تُمسك بيدي فلا أُفلتها قط...


V

أفنيتُ أيامي في هذه الدنيا كأنني ملقى في عربة تجرّها خيول جامحة فوق طريق حصوية محفّرة. هذه الصورة عشتها بحواسي لا بخيالي، بل بجميع جوارحي حين غبتُ، في إحدى المرات، عن الوعي. كانت العربة تجري بي بسرعة فائقة، وأنا أتقلقل فيها كأنني على فراش من الشوك، وضلوعي تؤلمني بشدة، وجسدي يرتفع ثم يصطدم بالأرض الخشبية للعربة. وكنتُ أصرخ سائلًا التوقف، والخيول لا تتوقف عن الجري. وخِلتُ الأمر كالجحيم لا نهاية له. وفجأة انتهى كل شيء. صحوتُ ذاهلًا، ورحتُ أتفرّس بمن حولي. كان كابوسًا. لكن ضلوعي ما زالت تؤلمني، وعلمتُ أنني غبت عن الوعي دقيقتين فقط. غير أن الدقيقتين كانتا دهرًا من الألم.

غبتُ عن الوعي ثلاث مرات كما أذكر. ربما أكثر، لكنني لا أتذكر تمامًا. مرة في سنوات الدراسة الثانوية. ولما صحوت وجدتُ زملائي يرشّون الماء على وجهي، وسمعتهم يقولون: "غوطن"، أي غاب عن الوعي. والسبب هو أنني دخّنت في ذلك الصباح الأغبر عدة لفافات من التبغ من دون أن أتناول وجبة الإفطار. أقول "وجبة" تجاوزًا، إنما هي لقيمات، فلا وجود لوجبة إفطار في الصباحات العجولة، بل مجرد "عروس" باللبنة أو بدبس البندورة أو بالزيت والزعتر في الطفولة، أو سندويش فلافل فقير المحتوى في مرحلة الفتوة. والمرة الثانية التي غبتُ فيها عن الوعي كانت لدى طبيب يفحصني. والمرة الثالثة في الطائرة المتجهة من بيروت إلى الكويت؛ فقد كنتُ شديد الإرهاق، ولم أنم ليلة السفر. وأخبرتني المضيفة في أثناء نقلي إلى سيارة الإسعاف التي كانت تنتظرني في أرض المطار، أنها اعتقدتْ أنني متُّ، فقد غارت عيناي وابتلعتُ نصف لساني.

كثيرًا ما تخيلتُ أنني في نعش، وقلائل من الناس يشيّعونني، فيما أنا أرقب المشهد كله. وكم تخيّلتُ انهماكي في اليوم التالي في قراءة الصحف لأعرف مَن كتب رثاء لي، وما كتبوا. ثم أتلصّص على المعزّين الذين اتخذوا هيئة الحزن وهم يتقدّمون من أرملتي بالتعزية؛ أرملتي التي لن يطول اتّشاحها بالسواد، وستخلع الوشاح الأسود بسرعة.

لم يكن إعراضي عن متع الحياة زهدًا واختيارًا، بل عجزًا وإرغامًا. فجميع الثمار كانت عصيّة عليّ، وكنت لا أنفكّ باحثًا عن قطاف المستحيل، وأدمنت رسم الكلمات الملوّنة بالخطوط السود. وفي خضم تلك المشقة وذلك الشقاء روّضت أفراسي، وتناثرت أوهامي كغبار الطلع، وظل نشيجي مكتومًا مثل صوت يوحنا قبيل قطع رأسه. فالكمد ظل رفيقي في معظم أشواط العمر، وغمرتني الوحشة دائمًا، وتسربلتُ بالعزلة حتى وأنا بين جموع الناس. وكثيرًا ما أحسستُ بأنني مثل علبة تنكية صدئة قذفتها أمواج البحر إلى شاطئ مهجور. وكم نفرتُ كالتائه في الليالي إلى أمكنة مبهجة. غير أن البهجة، حتى في تلك الأماكن، كانت تنفر مني وتنصرف عني. وعلى هذا المنوال تناثرت تويجاتي وبتلاتي وأنا في طراد مع الريح، وكنتُ دائمًا مطرودًا من حدائق البهجة. أما في الأماكن الخاوية فكنتُ أسمع ندائي وحدي كأنه ابتهال الغريب في الموانئ البعيدة، أو مثل بحار تمزّقت أشرعته، وتحطمت مراكبه، ولفظته المياه إلى الأرصفة الباردة.

كانت تفصيلات حياتي كلها عبارة عن سلسلة من خرائب الروح وانهدام الجسد. وحيّرتني البشرية، وحِرتُ في كوني واحدًا من البشر؛ هؤلاء الذين يمتدحون الذئب وهو خطر عليهم، ويحتقرون الكلب وهو حارسهم. أَلم يتعلم البشر كيف أن الطيور تأكل النمل وعندما تموت يأكلها النمل؟ وفي هذا الميدان من التأمل آمنت بأن الروح عمياء والعقل أخرس، وأن الجنون وحده يخفف من ظلمة الوجود، والانتحار وحده هو الذي يستطيع أن يخلّص الفرد من لعنة الاستغاثة. وقد أضناني التفكير في عناصر الحياة المتخالفة والمتعاكسة، ونصحتُ ذاتي بزيارة طبيب نفساني مع أنني أدركتُ، منذ أن قرأتُ سيغموند فرويد، أن المحلل النفسي ما هو إلا رجل يحدثك عن أمور تعرفها جيدًا، لكن بكلمات لا تستطيع أن تفهمها تمامًا. وقد استوحشتُ طريقي هذا، لا لأن السالكين قلائل بل لأنني ما تيقنتُ مرة هل أنا على حق أم مائل عن الحق. اليقين الأوحد الذي سربلني بشرره هو أن الإنسان يأتي إلى هذه الدنيا مجرّدًا من أي شيء، ثم يفني عمره وهو يكافح للاستحواذ على كل شيء، ثم يترك كل ما استحوذ عليه من الأشياء ويذهب إلى ضجعته من دون أي شيء.

VI

حيّرني الوجود والعدم وحِرتُ في الليس والأيس. وشُغفت في مرحلة مبكرة بالمسيح وبأسطورته الملهِمة عن الموت والانبعاث. ومع ذلك ما زال الوجود سرًا محكمًا. وكنت أكرّر دائمًا، لتبرير عجزي، أن الحقيقة انكشاف لا اكتشاف. لكنني لم أكتشف شيئًا، ولم تنكشف عليّ أي حقيقة أو حتى حكمة واحدة، ولم يعثر أحد على مفتاح هذا السر المغلق أو يفك مغاليقه. وفي حرقة التفتيش عن ذلك السر تساءلتُ: حبذا لو أن الله بيّن لنا السبب الذي جعله يُقدم على ابتداع هذا العالم بالصورة التي صنعه بها؟ وهل كان من الأفضل والأجدى لو أنه فسّر لنا لماذا أرسل إلى هذا العالم أنبياء وأوصياء وأولياء وقعت بهم الفرقة والتناحر، وانقسم الناس معهم أشياعًا وأحزابًا، وعاثوا بالخلائق احترابًا؟ لقد كان ذلك في تاريخ البشرية، وما زال، مصدر تعاسة لا توصف ووحشية لا تُحتمل. وهنا في هذا الحقل التأملي ظل معظم الحكام والشيوخ والرجال المقدّسين صامتين. حبّذا لو أن الإنسان فعل مثلهم، فهذا خير من تسويغ العنف والشرور استنادًا إلى النصوص التي تزعم أنها تعرف مقاصد الله. ومهما يكن الأمر، فإن الشر ليس نقيضًا لوجود الخير، لأن وجود الشر في البشر دافع إلى التفتيش عما يخلص البشر من الشر.

viii

لا نجاة من هلع العيش في هذا العالم. وها هي جُدُر المدائن قد تصدعت، وباخت لافتاتها وشاخصاتها ويافطاتها، واسودّت ستائر المنازل، وتجرّدت المقاهي والملاهي من ألوانها الزاهية، واهتلكت شوارعها، وتهتكت معالم التمدن، وتخلخلت العمارات الجميلة، وعمّ القبح الشرفات كلها. لقد شاخت المدينة وصارت حياتنا فيها إدمانًا، وأمسينا لا نفعل شيئًا غير عدّ أيامنا الباقية، والسخرية من العابرين، والتهكم على الأحلام الجديدة، واختراع الحكايات الهذيانية عن عالم جميل كان لنا؛ عالم وهمي نسجته مخيلتنا تعويضًا عن عالم مفقود.

هوذا المنفى ينتهب سنوات حياتي التي صرفتها وأنا أبحث عن يقين. وتخيّلت مرة أن في الإمكان ترميم ذاتي الممزقة بالعودة إلى المكان الأول المتخيّل. وكان ذلك خبالًا؛ فالكائن المنفي لا يعود إلى مكانه الأول إلا ليُدفن فيه. وتلك العودة تعني أمرًا واحدًا هو نهاية الكائن وانتظار الرحيل الأبدي. لكنني حتى لو عدتُ إلى مكاني الأول المتخيل، فلن أجد حضنًا يحضنني، أو صدرًا يضمني، أو يدًا حانية تمسح التعب عن وجهي، بل حفرة.

هي ذي روح المهاجر تُخبرني، ربما للمرة الألف، أنني عابر في بيداء هذا العالم، ولا شيء غير الهباء. ولعلني ورثت من والدي النزوع إلى الشقاء. ومثل الطيور المهاجرة أعدتُ رحلة والدي في دروب المنفى وتعب الأيام والإقرار بعبث الوجود؛ ومن المؤكد أن أبنائي سيعيدون رحلة الطيور المهاجرة، لكنهم لن يستقروا في مكان إلا ليهاجروا منه إلى مكان جديد؛ فالطير يمضي ولا يترك أثرًا وراءه. وها أنا اليوم قد سئمتُ إيقاع الزمن وما زلتُ أتأمل وأتفكر، وأجول وأتدبر، وأسير وأتعثر. فمتى تنزل شارة النهاية؟

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.