}

هل أيقظَ الطوفانُ ثقافة المقاومة من سُباتِها؟

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 21 سبتمبر 2024
إناسة هل أيقظَ الطوفانُ ثقافة المقاومة من سُباتِها؟
تعليم الأطفال في خيام النزوح تحت القصف الإسرائيلي

ونحنُ على أبوابِ عامٍ من انفجار "طوفان الأقصى" في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، يحقّ لِرعاةِ المشهدِ النقديّ الإعلاميّ المُتابع لِمآلاتهِ وأشْكال التّفاعل معه أن يطرحوا السؤال الآتي: هل أيقظَ الطوفانُ ثقافةَ المقاومةِ من سُباتِها؟
للإجابة عن هذا السؤال الكبير المحوريّ التأسيسيّ، لا بدَّ لنا من أن نُبحرَ في مفاهيم، ونغُوصَ في معانٍ، ونقلّب وجوهَ الصّراع الذي لا ينتهي بين الحقّ والباطل، بين المستعمِر (بكسرِ المِيم)، والمستعمَر (بِفتحها)، بين أصحاب الأرضِ وبينَ سرّاقِها، بين الإرادةِ والخُنوع، بين الوعي والغيْبوبة (أو الغياب إن كنّا نقصد بِالوعيِ الحضورَ المنتبهَ العَنيد)، بين الجمال وبين القبح، وأن نعاينَ المسافةَ التخّيُّليّة التخْييليّة بين الأرضِ وبين السّماء.

اسْتهلال

في بغداد الحاضرة الغائبة عن المشهد الفسطيني، تجمع كبير حول نصب الحرية تأييدًا لفسطين 


في كتابهِ "الثقافة والإمبريالية"، يقول إدوارد سعيد: "إن الأفكار المتعلّقة بالفُتوحات الماورابِحارية، في الثقافة والإمبريالية، وبالمساقَطة، وبالاسْتكشافات الجغرافية، وبالسّرديات المُخترعة، ليوضُحها أتمَّ توضيحٍ تاريخُ الصّهيونية. ويكْمن الفرقُ الرئيس بين الصّهيونية والإمبريالية الغربيّة التقليديّة (الكلاسيكيّة) على أنّه فيما غَدت الأخيرةُ ممارسةً تاريخيةً للقوّةِ شائعةً مستهجنةً ومُنهزمة، فإن الأولى (ولا سيّما امتداداتُها المعلوماتيّة والإعلاميّة الضخمة التي لا يملك الفلسطينيون والعرب الآخرون إطلاقًا، حتى الآن، إجاباتٍ وردودًا عليها)، ما تزال قائمة، وإلى جانِبها تقف بقوّةٍ المُصادقة الغربيّة والمَديح الغربيّ. وإني لأومِن إيمانًا قويًّا بأنّه لا يمكن إلا لاستخطاطيةٍ للمقاومةِ منسّقة ومتناغِمة (بدلًا من الاسْتسلام الجبان والانْطراح المتملّق الجاهل اللذيْن تمارسهُما القيادة الفلسطينية الرّاهنة) أن تُنتج سرديّةً حقيقيةً لاستنهاضِ شعبِنا من جديد واستنفارِه وتجميعِ قُواه، وبأنَ اسْتخطاطيةً جديدةً، كهذِهِ، قادرةٌ على تحقيق التقرير الذّاتي للمَصيرِ الفلسطينيّ" ("الثقافة والإمبريالية"، ترجمة كمال أبو ديب، مكتبة بغداد، صفحة 12). وبعيدًا عن المقصود بالنحتِ العجيبِ الذي تبنّاه أبو ديب في ترجمته لِهذا المقتبس من الكتاب، وأقصد الاسْتخطاطية، إلا أن ما يهمّنا هُنا هو حسْمُ سعيد لموقفهِ من المقاومة بوصفها المنتَجَ الوحيدَ لسرديّةٍ تنفع الناس وتمْكُثُ في الأرض.





يقول ابن ويليام سعيد في الصفحة نفسِها من مقدمته للكتاب: "إن تاريخَ الإمبرياليةِ لَيعلّمنا أنه ليس في وسع شيءٍ سوى فكرةٍ حقيقيةٍ لِلتحريرِ والمُساواة أن يقاومَ فكرةَ الإمبرياليةِ ويصدّها. وإنها لَمأساةٌ بحقٍّ أن جهلَنا بالتاريخِ وَبالقوّة الاستعماريةِ يبدو أنّه علّم مُهندسي (أوسلو) الفلسطينيين أن الاستسلامَ الخانعَ المتذلّل، مصحوبًا بِصرخات "النّصرِ" الكاذبة، قد يحقّق النتيجةَ ذاتَها التي تحقّقها حملةٌ حقيقيةٌ من الاستنهاضِ والاستنفارِ والمُقاومة. بلى إنها لَمأساةٌ وإهْدارٌ وَضَياع. بيدَ أن أجيالًا مقبلةً من الفلسطينيين قد تستيقظ وَتعي هذا الواقع. وإنني لآمُل أن يكون كتابي هذا مصدرَ عونٍ ومنبعَ أمل لَها". وقد كان، لِروحكَ الرحمة والسلام، وإن كان أتيحَ لك تبصّر إرهاصات بدايات تحوّل الفلسطيني نحو الانحيازِ النهائيّ لِخيارِ المقاومة، مع انطلاق "انتفاضة الأقصى" مطلع الألفية الثالثة في عام 2000، فإن "طوفان الأقصى" الذي لم يُتحْ لك هناءةَ الحياةِ في ظلالِه، كرّس هذا الخيار بشكلٍ طاغٍ إلى أن تتحرّر فلسطين، كلُّ فلسطين.
المقاومة ليست تسجيلَ نِقاط، ولا جلْبَ عدسات الكاميرات، ولا مجرّد رَفْعِ شعارات، المقاومةُ قرارٌ نهائيٌّ قطعيٌّ بائنٌ بينونةٌ كُبرى، لا رجعة فيه، غير قابل للنّقض، أو الطّعن، بتغييرِ واقعٍ؛ بشعٍ، احتلاليٍّ، إحلاليٍّ، ظلاميٍّ، ظُلميٍّ، استعماريٍّ، استبداديٍّ قائم. ليس فقط تغييرَه، بل اجْتثاثَهُ من جذورِهِ على طريق بناءِ واقعٍ جديدٍ أكثرَ عدلًا وإشراقًا وإنصافًا وجمالًا وخيرًا وبِشْرًا وبشائِر. على أن لا ينتقلَ الناس وفقَ مقاومةٍ ما من ظلم المستعمِر الغريب إلى الظلم الوطنيّ. يقول فرانز فانون حول هذه التفصيلة: "سيكون ضروريًا ضرورة مُطلقة أن يتحوّل الوعيُ القوميُّ إلى وعيٍ اجتماعيّ، لأنّ التحريرَ هو صناعةُ أرواحٍ جديدة، لا مجرّد استبدالِ شرطيٍّ أبيضَ بِآخَرَ أصلانيّ". على كل حال، قد لا يكون الوقت الآن هو وقتَ وضعِ تصوّرات ما بعد النصرِ والتحرير، على أن وعيَ الضرورةِ مطلوبٌ في كل وقتٍ وَحين.

في الغياب

طفلة بالزي الغزاوي التقليدي أمام لوحة غرافيتي ملونة تتضاد مع لون الركام الذي خلفه القصف الإسرائيلي في قطاع غزة 


في الحديث عن أسباب غيابِ (أو غيبوبةِ) الحالةِ الفلسطينية العربية المقاوِمة ردحًا من الزّمن، فإن (أوسلو)، في ِرأيي الشخصيّ، لا تتحمّل، وحدها، كاتفاقيةِ خنوعٍ رديئةٍ، توقّف نهج المقاومة. إنها ليست السبب الوحيد، بل على العكس، قد يكون اللجوءُ إليها والقبولُ اليائسُ بها، نتيجةَ أسبابٍ أُخرى، كثيرةٍ وعجيبةٍ ومتداخلةٍ؛ من بينها: الانكفاء العربي عن نصرة فلسطين والشعب الفلسطيني والقضيّة الفلسطينية؛ الضغط الدوليّ (الغربيّ الاستعماريّ على وجه الخصوص) المُنحازُ بقضّهِ وقّضيضِهِ للعدوّ الصهيونيّ، والتهافتُ العربيّ المفاجئ (في ليلةٍ ليس فيها ضوء قمر) وَالمريعُ وَالسريعُ نحو التطْبيع مع العدوّ التاريخيّ المثبّتة عداوتُهُ في آيات الكتاب، الانفتاحُ المجتمعيُّ غير المدروسِ ولا المتحوّطِ ولا الوَقورِ نحوَ مواقع التواصل الاجتماعيّ، والتعاملُ السلبيُّ مع ثورةِ المعلومات وتكْنولوجيا المعلومات، انفتاحٌ وتعامُلٌ حوّل أجيالٍ عربيةٍ إلى أنماطٍ غير حميدةٍ من التقليد الأعمى والغرائزيّةِ المَحْمومةِ والرغبةِ المسعورةِ بالتشوّفِ والتّظاهرِ وجلْبِ الانتباهِ والحصولِ على (اللايكات)، وصولًا إلى درجة (التِّرنْد) الغبيّة التي قد يشفع لها ارتباطُها، في حالاتٍ بِعينِها، بِالحصولِ على بعض المال من مُخترعي هذه الوسائل وعرّابي هذه المواقع. الأزماتُ الاقتصاديةُ المتلاحقةُ التي عانت وتُعاني منها كثيرٌ من شعوبِنا العربية، ما حوّل عشرات ملايين الناس في بلدانِنا إلى سؤالِ العيْشِ بدل سؤال النّصر. أخيرًا، وليس آخرًا، تشدُّق كثيرٍ من الطغاة العرب بِشعارات النصر والتحرير وفلسطين ذريعةً لِطغيانهم واستعبادِهم شعوبِهم، ووضعِهم اليَد على مختلفِ مقدّرات بلدانِهم وثرواتِها، لا بل وتحويلهِم تلك البلدان إلى مزارعَ لهم ولأولادهِم وأبناءِ عمومتهِم وحُماة طُغيانِهم، ما (كفّر) كثيرًا من قاصري النّظر ومصدّقي شعاراتٍ تربطُ بينَ فلسطين والمُقاومة من أجلها وبين ما هم فيه من ظلمٍ وسحْلٍ وعذابات... وتربطُ بينَ ما هم فيه من أوضاعٍ مُزرية، وظلمٍ قاهِر، وتضييقٍ خانِق، وبيْنَ الطريق إلى القدس!!
الأوضاعُ غيرُ اللائقةِ، اجتماعيًا واقتصاديًا وإنسانيًا، التي عانى منها ملايينُ أبناءِ الأمّة الواحدة ذاتِ الرسالة الخالدة، دفعَت بهم إلى حَمْلِ حقائبِ السّفر اللجوئيّ المُهاجِر نحوَ بلدان الغربِ الاستعماريّ نفسِهِ الذي أوْصلنا إلى كلِّ ما نحن فيه. هناك تبخّرت عندَ كثيرٍ منهم آخرُ بقايا الدافعيةِ الوطنيّة، والحِسّ المقاوِم، والاهتمام بقضايا الأمّة استجابةً للحديث النبويّ "من لم يهتم بِأمر المسلمين فليس منهم"، فإن شكّك أحدهُم بالحديثِ وصحّته، فَبِإمكانِهِ أن يعود إلى قولهِ ﷺ: "المؤمن للمؤمن كالبنيانِ يشدُّ بعضَه بعضًا"، وَشَبَكَ بين أصابعِه، أو قولهِ: "لا يؤمنُ أحدُكم حتى يحبّ لأخيهِ ما يحبّ لنفسِه"، أو قولِهِ ﷺ: "مَثَلُ المؤمنينَ في توادِّهم وتراحمهِم وتعاطفهِم كمثلِ الجسدِ إذا اشْتكى منهُ عضوٌ تَداعى له سائرُ الجسدِ بالسّهر والحُمّى".
زمنُ الغيبوبةِ تميّز بِأعراضٍ مخجلةٍ من بينها التَّمْسحة (لا أدري لماذا تُنسب البلادةُ وموتُ المشاعر وقَفْرُ الغيرةِ وانْعدامُ السّوادي إلى التمساح؟!). ومنها الانتصار للخلاصِ الذاتيّ على حساب المجدِ الجمعيّ؛ فانكبّت أجيالٌ فلسطينيةٌ وعربيةٌ مهزومةٌ على العِلْم ليس من باب المعرفة، بل من بابِ الحصولِ على أعلى درجاتهِ لنيلِ وظيفةٍ راقيةٍ وراتبٍ مجزٍ ومكانةٍ اجتماعيةٍ مرموقةٍ ومناصِبَ لا يُطاولها، عادةً، غيرُ المتعلّمين، الحاصلين على درجة الدكتوراة على سبيل المثال! وانكبّ غيرُهم على جمْعِ المال (بعضُهم جمعَهُ بمختلفِ الطّرقِ المشروعةِ وغيرِها) وتكديسِ الثّروات والارتفاعِ بِالبُنيان. مُكتسباتٌ ستصعّب، حتمًا، خلعَ بدلةِ الوظيفةِ، وارتداءَ (فوتيكَ) القِتالِ والنّزال على دربِ مقاومةٍ مُعفَّرةٍ بِغبارِ المَعارك، مطحونةٍ بالأرضِ، مخضَّبةٍ بِالدماء، لِعيونِ الواجب الذي، في نهايةِ المَطاف، لا منْدوحة عنهُ، أطالَ زمانُ ركونِهم إلى تلك الوظيفة، وهاتيكَ المُثبّطات، أَم قصُر.

زمنُ الطّوفان...
في زمنِ الطّوفان تغيّرت مختلفُ المعطياتُ أعلاه تدريجيًا، وَتَراكمت إرهاصاتُ الاستيقاظِ يومًا إِثْرَ يوم. الاستيقاظُ المدويّ الأوّل تحقّق صبيحةَ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر؛ على صوتِ محمد الضيف، على مشهد سيارةٍ رباعيةِ الدّفع تتجوّل في أراضينا المحتلّة، على صورةٍ لا تُنسى لثلاثةِ جنودٍ صهاينةٍ متقوْقعينَ داخلَ جلابيبِ العارِ كلّه، فيما يجرّهم شبابُ غزّة من دبابتهِم المُحترقة ويلقونَ بِهم أرضًا، وهُم الجُبْنُ في أخسِّ تَمَظْهُراتِه، والعَجْزُ في أحطِّ غرائزِه. أما مشهدُ الطائراتِ الشراعيةِ فقد رَفعنا إلى مراتبِ الأحلام وأفْلام الخيال العلميّ. توالت الأحداث، بعد ذلك، من دون أيِّ استراحةٍ بين أشواطِها جميعِها؛ فقط من هم خارج الميدان في دولِ المتابعة التلفزيونية وجُغرافياتِ التسمّر على مواقع التواصل الاجتماعيّ، مَن أُتيحَ لهم أخْذَ الأنفاسِ بدرجاتٍ متباينةٍ، وصولًا إلى العميقِ منها، الكفيلِ، أخيرًا، بالعودةِ إلى جدْوى المقاومة والكِفاح المسلّح دربًا واحدًا وحيدًا طريدًا عنيدًا أكيدًا إلى إحقاقِ الحقِّ وتغييرِ معادلاتِ الأمرِ الواقِع.
في مؤشّراتِ البندولِ صعودًا وهُبوطًا، قد يكون بعضُ من تحمّسوا للذي كان يوم انفجارِ الطوفان انكفأوا مرّة ثانية لليأسِ والقُنوط، بعد شلّال الدم الذي يوجعُ القلبَ، ولم يتوقّف منذ زُهاءِ سنةٍ ماضيةٍ، محبّذًا في جريانِهِ دماءَ الأطفالِ أولًا وثانيًا وثالثًا... الأطفال والنّساء والعُجّز من المدنيين... لكنّها النظرةُ القاصرةُ مرّةً ثانيةً وألْف؛ فهل من غير كل هذا الفِداء والتّضحيات تتحقّق الغايات؟ خصوصًا الغايات المِعْراجية الكبرى، من مثل تحرير فلسطين، أو مثل كَسْرِ أمّةٍ أسيرةٍ لقيودِها جميعِها؟
ليس على مِنوال لينين "خطوةٌ إلى الأمام... خطوتان للخلف"، أو "إلى الوراء"، في كتابه الذي يهرمسُ فيه أزمة حزب العمل الاشتراكي الديمقراطي الروسي، وانشقاقِ الحزب الذي تأسس في عام 1898، إلى شقّيْن: أغْلبية وأقلّية، بل على حقيقةِ خطوةٍ إلى الوراء مقابِلَ خطوتيْن إلى الأمام، تطوّر شكلُ التفاعلِ الجماهيريّ عربيًا/ الإنسانيّ عالميًا، مع تراكماتِ الطوفان... آ والله... وإذا بالاستيقاظِ يتحوّل إلى طاقةِ من طالَ نومُهُ أطولَ من نومِ أهل الكهف، ومن شبِعتْ مجسّاتُهُ جميعُها من خدرِ سنوات الصمت والرّضى. طاقةٌ هادرةٌ عبّرت عنها مظاهراتٌ كونيةٌ لم تنقطع على مدار عامٍ مضى. واعتصاماتٌ طلّابيةٌ عَصَفَت، أو تَكاد، بالطمأنينةِ التي رَكَنت إليها القارّةُ العَجوز، وَمعها جمهوريةُ البَلْطجةِ الأميركيّة، عقودًا طويلةً، بعدما فرضته بالقوّة القاهرةِ (ليست قاهرة المُعز) مُنذ الحرب الكونيّة الثانية.
كما تجلّت في عملياتٍ بطوليةٍ في المقدّمة منها عملية البطل الأردني الشهيد ماهر الجَازي... بتبرّعاتٍ شعبيةٍ لا تنقطع إلى الصابرينَ الصامدينَ في غزّة (لا يسعُني هنا إلا أن أوردَ بكلِّ شَجى وفخرٍ وارتعاشٍ قصّة العسكريّ الأردنيّ المُتقاعد أحمد المحاميد الذي تبيّن، بعد وفاتِهِ، رحمه الله، أنه كان تبرّع لأهلِ غزّة بقرضِ الإسكان الخاص به جميعَه وقدرهُ 15 ألف دينار أردني، أي ما يزيد على 21 ألف دولار. وهو قرضٌ يُعطى للعسكريينَ مرّة واحدة، وقد لا يحصل عليه كثيرٌ منهم إلا بعد تقاعدهِم).





سنرصدُ من دون أدنى شكٍّ عودةً محمودةً لأدبِ المقاومة... سنشاهدُ أفلامًا تنتصرُ للحقِّ ومشروعيةِ الكِفاح، وتستعيدُ فلسطينَ من بحرِها إلى نهرِها. سيصبحُ للوحاتِ الفنِّ التشكيليّ مُحتوى لا لُبسَ فيه، ولا هروبًا تجريديًا نيّئَ الدّلالات... ستهدُرُ الأعمالُ المسرحيّة بالصوتِ والصورةِ والمُعانيةِ الحميمةِ من جدارِها الرّابع، بِنداءات الخيرِ السرمديّ المنتصرِ، في كلّ مرّة، على الشرِّ المرهونِ، عادةً، للزّوال، المسْتفيد، كما هي حال الباطل، من جولةٍ لا تدوم، وعربدةٍ تستغلُّ زمنَ الغَفْلة، متناسيةً أن أحدَ أمثالِنا المتوارَثة كابرًا عن كابِر يقول: (راحت السّكرة وجاءت الفَكرة).
المقاومة حلٌّ لِمشكلة، ولا تُحَلُّ مشكلةٌ من دون الاعترافِ بوجودِها أصلًا، ويحضرني في هذا السياق ما أورده الناقد أنطوان شُلحُت في مقال له حمل عنوان "ماذا يُخفي الصمت؟"، نشره في جريدة "العربي الجديد" بتاريخ 17 آب/ أغسطس 2016، من مقولةٍ على لسان الروائي والكاتب الراحل إلياس خوري: "إن العالمَ العربيَّ لا يستطيع تأسيسَ نهضتِه من دونِ أن يعِي هزيمتَه، إذ تبدأ النهضةُ عبْر تسميةِ الهزيمةِ باسمِها. وَعلى العرب الاعترافِ بهزيمتِهم إذا أرادوا مقاومتَها، أمّا إذا أرادوا البقاءَ في مياهِ الانحطاطِ الآسِنة، فما عليهِم سوى تسميةِ الهزيمةِ انتصارًا، والذلِّ فخرًا والركوعِ وقوفًا".

كتب إلياس خوري: غزّة وَفلسطين تُضربان بشكلٍ وحشيٍّ منذ ما يُقارب العام، وهما صامِدتان لا تتزحْزحان 


على كلّ حال، خوري هو صاحبُ قلمِ مقاومةٍ فذّ، اختبرها (أي المقاومة) بالميدانِ، وغبّر سنواتِ عمرِهِ الذي امتدّ بعدد سنوات النكبة (خوري من مواليد عام 1948، وَرَحَلَ قبل أيام)، بِمفاعيلِ براكينِها فوق الأرض، حتى تخمّرت داخل وجدانياتِه. حولَ مدى إيمانِهِ بِجدوى المقاومة، تورد الشاعرة الزميلة دارين حوماني في مقالِها المنشور تحت عنوان "في رحيل الياس خوري: صَمَت بعد كسر "تروما" الفلسطيني" في ملحق "ضفة ثالثة" يوم الثلاثاء الماضي الموافق 17 أيلول/ سبتمبر 2024، اقتباسًا من مقالٍ حديثٍ له يقول فيه متسائلًا: "كيف يفقدُ الشجاعةَ من امْتزجت تجربتُه بالتّراب منذ بدايةِ المقاومة الفلسطينية؟ غزّة وَفلسطين تُضربان بشكلٍ وحشيٍّ منذ ما يُقارب العام، وهما صامِدتان لا تتزحْزحان. إنهما النموذجُ الذي أتعلّم منه كلَّ يومٍ حُبَّ الحياة". يكتب هذا المقال وهُو على فِراش الموت، فإذا بِهِ يشعّ بكلِّ هذا الأمل، وكلِّ هذا الإيمان بحتميةِ المقاومة ولا إمكانيةِ الانتقالِ منها نحوَ خياراتٍ لا جدوى من ورائِها ولا فُرص تحريرٍ وعودةٍ ومباهِج.
الصمت لا يُخفي، أخي أنطوان، إلا الخُذلان... إدارةُ الظّهر لا تعكسُ إلا الخِيانة... هذا ما بات يعرفهُ الجيل الخامس للنّكبة خيرَ معرفة... وهذا ما أسّس كتائبَ مقاومةٍ في جنين، وَنابلس، وَطولكرم، وَأريحا، وَطوباس، وكلِّ نَواحي فلسطين... مقاومةٌ تستولدُ الفِعلَ من أضلعِ المُستحيل... وَلا تنسى في انفجارِها القلوعِ اللدَّ والرّملةَ والجَليل... لا صمتَ بعد اليوم، يصدحُ الصادحونَ في المظاهراتِ، والنّدواتِ، ومختلفِ الأماكنِ والمُناسبات.

المقاومة والفِطرة
هل تنحو الفِطرةُ الإنسانيةُ، عادة، نحوَ السّلم والسّكونِ والرّضوخِ لِمعطياتِ الواقع؟ حاول النّفسانيّ النّمساوي سيغموند فرويد في كتابيْه "الحب والحرب والحضارة والموت"، و"أفكار لأزمنة الحرب والموت"، وإلى حدٍّ ما في كتبهِ الأُخرى مثل "قلق في الحضارة"، و"كتابات مختارة"، وغيرهِما، تمريرَ أفكارٍ يوتيوبيّةٍ حول إمكانيةِ معانقةِ الأعراقِ لِبعضها، وقبولِها بما يسّره الربّ لنا من خيراتِ الكوكب. يقول في مراسلةٍ بينَه وبين الفيزيائيّ الألمانيّ آلبرت آينشتاين، مُجيبًا عن سؤال لآينشتاين حول سُبُلِ الخروجِ من دوّامة الحُروب: "في حوزةِ البشريةِ ما يكفي من المال والثّروة والغِذاء، إذا قرّرنا توزيعَ ثرواتِ العالَمِ بشكلٍ سليم، بدلًا من أن نجعلَ أنفسَنا عبيدًا للعقائدِ الاقتصادية والتقليديّة الجامدة. علينا قبلَ كل شيءٍ أن لا نتوقّف عن التفْكير، وأنْ لا نسمح بعرقلةِ جهودِنا البنّاءة ضدّ إشعال حربٍ جديدة. أنا لست إنسانًا مسالمًا فحسب، بل مسالمٌ ومكافحٌ أيضًا، وأسْعى من أجل تحقيق السلام. وليس هنالك ما يُنهي الحروب إلا رفْضُ الناسِ كلّهم الانخراطَ في الخدمةِ الحربيّة". وهُو تناوَلَ، إلى ذلك، في بعضِ كتبِهِ سيكولوجيّة الحرب، داعيًا البشرية للاجتماعِ على الحُب، ولكنّه في كلِّ هذا وَذاك، يعجزُ عن إقناعِنا لأنه لم يستهلّ تنظيراتِه الحالِمة تلك بإدانةِ كلِّ التاريخِ الاستعماريِّ لقارّته أولًا، ولأنّه، عبثَ بأخلاقياتِ الأُسرةِ ثانيًا، فالمقاومةُ في تنوّعات تجلّياتها تشمل مقاومةَ الانحرافِ والقُبحِ والرّكاكةِ.

تجليّات
لِلمقاومة تجليّات لا تُعد ولا تُحصى... إنها الدفاعُ عن كلِّ ما هو نبيل وَجميل وإنسانيّ... وهيَ المحبّة في زمنِ الكراهية والتعصّب، والصّدق مع الذات ومع الآخر، وهي تعزيز ثقافة المساواة والمواطَنة ضدّ التمييز. والمقاومةُ أن نفَضحَ ثقافة التّكفير ونفْكّك تخلّفها وظلاميّتَها... أنْ نصنعَ المسرّة ونسْتردَّ إنسانيّتَنا المختطفة... أن نرفضَ الفَسادَ والإفْسادَ والغشَ والفِتَنَ الطائفيةَ والمذهبيةَ والإثْنية. هذه جميعَها، وغيرَها، عزّزها الطوفان، وأعادَ الإيمانَ بِها. الطوفان أقنع السنّيَّ أن الشيعيّ ليس عدوّه، وأن المسيحيَّ هو أخٌ للمسلم وجارُهُ وشريكُه في البحثِ عن خلاصٍ جمعيٍّ لا فرديّ، وأن الصهيونيةَ التوسعيّةَ الإحلاليةَ الفاشيّةَ هي عدوُّنا، وعدوُّ الإنسانيةِ جمْعاء.
أمّا تجليّاتها في غزّة فهي ممّا يفوقُ خيالاتِ البشر، ويصعدُ فوقَ كلِّ آلامِ الواقع؛ فَتْحُ غرفةِ صفٍ لِتدريسِ الذين لا يتوقّفون عن النّزوح داخلَ قِطاعِهم مقاومة... اختراعُ الطعام من كلِّ لا شيءٍ مقاومة... جَمْعُ صغارٍ تقطّعت بِهم السُّبُل والترْبيتُ على آلامِهم بالغِناء وبعض الضحكاتِ الطالعاتِ من اليُتمِ والفَقْدِ والحَنين مقاومة... رفْضُ الرحيل عن أرضِ كنعان مقاومة... ترويضُ الأمعاءِ مقاومة... تحويلُ الخِيامِ إلى مستشفياتٍ وصيدلياتٍ، وتخفيفِ أوجاعٍ وبلسمةِ جِراحٍ، وإجراءِ عمليّاتٍ إِنْقاذيّةٍ، مقاومة... تربيةُ الأملِ بكلِّ هذا العِنادِ مقاومة... صراخُ طفلٍ في وجه الصهيونيّ المُتواري خلفَ الحديد: "هنا... على صدورِكم، باقونَ كالجِدار... وفي حلوقِكم كقطعةِ الزُّجاج، كالصَّبار... وفي عيونِكم زوبعةٌ من نار... هُنا... على صدورِكم، باقونَ كالجِدار" مقاومة.
بقي أن أقول إن ثقافة المقاومة حقّقت اختراقاتٍ لافتةً في دراساتِ العلومِ الاجتماعيةِ والأنثروبولوجيّة، وطوّرت شعوبٌ عديدةٌ في آسيا وأفْريقيا وأميرْكا الّلاتينية مفاهيمَ وأساليبَ مقاومةٍ جديدة، وهيَ تحاول جاهدةً مواجهةَ مخرجاتِ الحرب العالمية الثانية، وفي المقدّمة منها تكريسَ أعضاءٍ دائمينَ في مجلس الأمن لم يفعلوا منذ عام 1945 إلّا رفعَ أيديهم رفضًا محميًا بـ(الفيتو) لِقرارات كانت تريد أن تنتصرَ لحقِّ شعبٍ بالوجود، أو توقفَ مذبحةً، أو تتبرّأ من جريمةِ إبادةٍ جماعيةٍ، وَتسعى إلى منعِها، أو تعاقب ديكتاتورًا، أو تمنعَ مظلمةً... هذا ما فعله المندوبُ الروسيّ رفضًا لِقراراتٍ كانت تريد أن تنتصرَ للشعبّ السوريّ... وهذا ما فعله عشرات المرّات مندوبُ العنصريةِ الأميركية حارمًا الشعبَ الفلسطينيّ الجريح، ولكن المقاوِم، من كلِّ حقوقِهِ بالحياةِ والكرامةِ والحريّة... ما أقنعَ المترددّين من أبناءِ شعبِنا... المتأرْجحينَ بين شِرْعةِ الأُمم، ومشروعيةِ السّلاح... أن المقاومةَ هي دربُهم الوحيد لانتزاعِ لَحْظَتِهم وَفَرْضِ سرديّتِهم... فما نَيْلُ المطالبِ بالتمنّي... ولكن تُؤخذ الدّنيا غِلابا.
في الجوابِ عن السّؤالِ/ العُنوان: نعم، فَعَلَ الطوفان ضاخًّا في تجليّاتِ استيقاظِ آفاقِ المقاومة دماءَ حياةٍ نديّةٍ أبيّةٍ نقيّةٍ واعدِة... تسيلُ في غزّة، فتنهضُ من أوجاعِها صنعاء... تستعيدُ دورَها بغداد... تتعرّف على نفسِها بيروت... ينجلي السّرابُ في بوادينا عن أفئدةٍ لا تريدُ أن تديرَ الظهرِ لقيمِها ومَعانيها... ولا عزاءَ للصمتِ يا أمّةَ الأنبياءِ والشّهداءِ وسُقْيا الماء.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.