}

حميد المطبعي يراسل جيفارا ويتمنّع على "الوباء" بالسخرية

عبد الزهرة زكي 13 فبراير 2018

قبل مباشرتي الكتابةَ في هذا المقال كنت قد شاهدت، عبر مواقع التواصل الاجتماعي وبالمصادفة، صورةً مؤلمة وقاسية بما تبعث عليه من حزن، لقد كانت صورة للأستاذ الكاتب العراقي حميد المطبعي وهو على سرير المرض بوضع يبدو فيه أقرب إلى الغارق في رقادٍ عميق، وأمنّي النفس بأن لا يكون فيه بغيبوبة.

صاحب (الكلمة)

حميد المطبعي، ومن خلال مجلته (الكلمة)، وهي أشهر إنجازاته في الثقافة العراقية، قدّم نفسه كفاعل ومحرِّض من أجل الدفع بالتجديد الشعري، وضمناً الثقافة بمناحيها المختلفة، إلى مَواطن لا تكتفي بالمتحقّق من الجهد الريادي والخمسيني الشعري في العراق. كان يمضي إلى هذه الأحلام بتصوراتٍ هي مزيج غريب من نزعاتِ يسارٍ تداخلت بتصور قومي واقترنت بسلوك أقرب إلى الليبرالي وإن لم يقصده، وكان هذا قد حصل أثناء فسحة زمنية بدت كما لو أنها خارج سياق الزمان العراقي، إنه الزمان السياسي، زمان منشغل بتنمية التقاليد وتضخيمها حتى تستحيل كابوساً مستبداً.

لقد ظهرت (الكلمة) في مطالع السبعينيات كمجلةٍ تريد أن تكون نافرة، إنها بعضٌ من روحٍ ستينية. لم تستمر بها تلك الفسحة الزمنية طويلاً؛ ففي منتصف ذلك العقد توقفت المجلة، ولم يشفع لها حتى محاولتها مسكَ العصا من منتصفها، ما بين النفور من الاندماج والتشابه وبين الاقتراب من التماثل والذوبان.. كان لا بد من أن يكون النصف الإيديولوجي الداعي للتماثل وحده الفاعلَ والباقي، يجب كسرُ النصف الآخر النافر والاستغناء عنه، هذه هي مشيئة السياسة الحاكمة. توقّفت المجلة، وتوقّف إثرَها أيُّ طموح لإخراج أية مجلة ثقافية تحلم بالزوغان على ذلك السياق، وكان سياقاً في أوج اندفاعه نحو التعاظم، إنه زمان القبض الحكومي على الثقافة كلها، وليست المجلات حصراً.

في غمرة تلك المحاولات لم يكتفِ المطبعي بجهدِه الكتابي الذي عُرف به آنذاك كشاعرٍ منحاز لقصيدة نثر، ولنزوع يساريٍّ جديد ذي هجنةٍ ليبراليةٍ حتى وهو في مساحته القومية، ساعده هذا الخليط على أن يكون قريباً من الجميع، هكذا وفّر من خلال المجلة مجالاً طيباً لجهود كثيرين سواه من ستينيي وسبعينيي العراق ممن كانوا أشدّ اندفاعاً نحو التغيير كما يقوون عليه وليس بالضرورة كما يحلمون به.

توقفت المجلة، أو أُوقفت، لست متأكداً، وظلَّ حميد المطبعي بعدها، وربما طيلة سنواته التالية، وكأنه كسيرَ الجناح؛ المطبعي لم يرد أن يطير، سواء بمفرده أو مع سرب، إلا بجناحه هو، وكانت المجلة الخاصة به هي ذلك الجناح الذي افتقد إليه. كان يريد، كما أتوقعه، أن يدير بنفسه وتصوراته مشغلاً ثقافيا للتغيير، وحين أخفق في هذا، في مواصلة إدارةِ مجلةٍ وئدت، فقد ظل يحرص على حياة تكتفي بالهوامش للنأي به عن الواجهات. لقد بقي طائراً يسعى على الأرض فيما ظلت عيناه محدِّقتين محلِّقتين إلى فضاءٍ لم يعد ممكناً بلوغه.

الوباء العام

مع تلك السنوات كانت السياسة تدفعُ بأعراضِ (وباء) إلى الظهور والانتشار، إنها أعراض مرضٍ بدأت بإرادةِ أن تطولَ كلَّ شيء. كان وباءً، وكان على رجلٍ مثل حميد الطبعي أن يتمنّع، بما يستطيعه، على تلك المباءة.

أمراض السياسة هي غير هذا المرض الجسدي الذي يعانيه الكاتبُ منذ عامين تحت أعباء شيخوخته وكما تقدمه صورته الأخيرة التي أمامي. تلك أمراضٌ ومباءةُ سياسةٍ وسلطةٍ حين تكون السلطة السياسية في أشد حالات غلوّ طغيانها وشراهتها لازدراد كل شيء.

قبل عامي مداهمةِ المرضِ جسدَ المطبعي، وقبل عقد أو عقدين أو ثلاثة، كان الكاتبُ في أوج عافية جسده، وكان يدرأ عنه ذلك (الوباء العام) بالسخرية منه ومن سواه مما يصادفه ويستحق السخرية.. وكانت السخرية وسيلةً للالتفاف على المباءة وقناعاً للتواري عن الوباء..

خلَّف ذلك (الوباء) آثارَه وندوبه على أجساد كثيرين، وثلم من كثيرين شيئاً ما. المناعاتُ، وحيلتُها، لا تُتاح للجميع، لكن حميد وجد مناعته بالسخرية. كان يريد التحصّن بها، فظلَّ في حياته يسخر، حيث الجديّة داعٍ للارتياب، مكتفياً من الكتابة بما قد يعصمه من (الوباء) من جانبٍ وبما يدرأ عنه الشبهة من جوانب أُخَر، فيما هو عملَ على التخفّف كثيراً من صورته كمحرِّض وداعيةٍ للتغيّرات الراديكالية في الآداب والفنون، كما ثبتّتها مجلته (الكلمة)، لصالح الانخراط في كتابة توثيقية تحاول أن تكون محايدة معظم الأحيان وكتابات أخرى صحفية عابرة كان بعضها ثمناً لابدّ منه لدرء الشبهات..

كانت السخرية هي المسافة ما بينه وبين ذلك (المرض الوباء)، إنها مسافةُ وهمٍ حين لا مناص إلا الوهم..

سخرية حميد المطبعي تمتزج فيها نباهة المثقف بمهارة المرء النجفي الفراتي الذي يتقن فنَّ التعبيرات المواربة وذلك كلما اضطر هذا المرء إلى أن يمتنع عن التعبير الصريح خجلاً أو خشيةً أو إمعاناً بالنقد وقسوته.

سخرية حميد كانت تعينه في الزوغان عن تلك (المباءة)، لكنه في الصورة التي شاهدته فيها كان راقداً تحت وطأة مرض آخر، هو غير ذاك الذي أراد تفاديه، هذا مرضٌ مما لا يمكن تفاديه بالسخرية، ترى هل تقوى الجديّة على دحر مرض الجسد؟

السخرية دريئة لتمرير الجديّة

 

في هذه الصورة كان المطبعي نائياً على سريره بعيداً عن زوّاره. هذه هي المرّة الأولى التي أراه فيها صامتاً تماماً.

كان حميد المطبعي دائماً ما نلقاه يتكلّم ساخراً وجاداً.

وكان على المرء المستمع إليه، بعد هذا، أن يميّز الخيطَ الواهي ما بين جدّية حميد وسخريته.

إنّه يريد أن يكون جادّاً، وكان يرى السخرية دريئةً لتمرير الجدّية التي كان يخشى أن يُعرَف بها.

لقد كان على أيِّ محاور، وهو يستمع إليه، أن يصغي إلى ما لم يقله حميد، وأن يلتقط هذا الذي لم يقله.

القولُ الساخر بطانةٌ لآخر جادٍّ غير مَقول.

كان يزورني في جريدة الجمهورية أواخر التسعينيات. كان كثيرٌ من أحاديثنا ينصرف إلى (الكلمة)، مجلته التي ما أن تُذكر حتى يمتلئ هو زهواً وفخراً بها وبعمرها القصير كعمر (كواكب الأسحار) بتعبير من شاعر عربي قديم، وكان الأكثر إمتاعاً من بين أحاديثنا هو روايته، التي يحرص على أن يرويها بسحر خاص، عن ظرف المجلة.. لقد روى لي مرة كيف أنه بظروف غامضةٍ أوصل عدداً منها إلى جيفارا، وكيف أنه تلقّى تحيةً من جيفارا عن تلك الهدية.

ربما كان (جيفارا) الذي أوصل له ذلك العدد من (الكلمة) صورةً ومثالاً للكيفية التي كان يتمنّى حميد عليها قارئ المجلة وكتّابها ومحرريها، ربما.

أحسَبُ أن الحلم المتبقي، والذي لم يتحقق كاملاً من (الكلمة)، كما يطمح إليه صاحبها، كان هو الجانبَ الأساس من مشروع المجلة التي سعت إلى تقديم نفسها كمجلة طليعية في الأدب. إنها مساحة ظلت غائبة بين دوريّات الثقافة العراقية في حينها، وبظهورها استقطبت شعراء وكتاباً مختلفين. لكن صروف السياسة لا تحتمل حتى تركَ هامشٍ مهما كان ضيقاً لتلك النزعات التي يمكن أن تعصم الأدب والثقافة من سوء استخدامهما، هكذا اندحرت (الكلمة) فجأةً مثلما ظهرت؛ إنها مثل أيِّ وعد لم يُنجَز، ودائماً كانت الحياة في العراق محضَ وعودٍ لا تتحقق ومطامح تتنازل عن عليائها فتدنو إلى مجرد الرضا بشيء بقناعةِ أن هذا الشيء مهما كان ضئيلاً يظلّ أفضل من اللا شيء العظيم.

اندحرت (الكلمة) المجلة، وبقيت (الكلمة) السخرية الحاذقة التي احتفظ بها حميد، مثلما كان قد احتفظ بها زميله وصديقه الكاتب الراحل موسى كريدي شريكه في تحرير (المجلة). كان موسى هو الآخر يتستّر بالسخرية على الجدِّ، ويعبّر بها بما لا يريد أن يؤخَذ منه على محمل الجد.

وعدٌ لم يُنجَز

لكن حميد المطبعي ظلّ يريد أن يظهر بهيئة ذلك المثال الذي كان نموذجه الستيني السبعيني هو (جيفارا)، وكان يريد ممَن يحترمهم ويثق بهم أن يروه بتلك الصورة، فيما كانت الحياة تدفع به، وبنا جميعاً، إلى التخفّف من أيّة صورةٍ وأيِّ مثال، وإلى الدفع بهما، بالصورة المتمناة والمثال المتطلَّع إليه، ومواراتهما في أعماق سحيقة يجب أن لا تُرى، فكانت السخرية والهزل كفيلَين بذلك.

لقد بقيتُ التقي بحميد باستمرار، حتى قبل بدئي العمل في جريدة الجمهورية عام 1993، فواقعاً بدأ تعارفنا بلقاء مصادفةٍ جمعتني به حين كنت في زيارة صديق بعمله الصحفي مطلع التسعينيات. ومنها، مذّاك، وفي كل مرة التقي فيها حميد المطبعي، تأخذ بالحضور أمامي صورة المثقف الستيني خارج الستينيات، في ما بعدها، إنها صورة تمتزج فيها المكابرة بالانكسار، الإرادة بالخذلان، الإقدام بالتّروي.

والستينيات، في تاريخ الثقافة العراقية، ليست مجردَ تاريخٍ مستلٍّ من الزمن؛ الستينيات كانت وعداً ونموذجَ مشروعٍ ربما انتكس قبل أن تتجسد هيئته، وربما ذهب في مجرى غير ما كان يَعدُ به.

كان كثيراً ما يقول لي كلما اكتظَّ المكان بزائرين قد لا يعرفهم: لا أريد أن أتكلم!

فلا يحار بمثل هذا الحال؛ إنه يتّخذ مجلساً له عند منضدةٍ لمحررٍ لم يأت بعد، ويبدأ يكتب.

كان يكتب ما لا يريد قوله، وكان يودع بعضَ ما يكتب عندي.

" إنها ليست للنشر، كما تعرف، وليست ليقرأها أحد". يقول قبل أن يغادر.

" يوماً ما، أنت تعرفه حتماً، تستطيع التصرّف بها". كان يؤكّد هذه الجملة دائماً، وكنت غالباً ما أكتفي بابتسامة، وقد أردّ عليه بالآية:

(يرونه بعيداً ونراه قريباً)، فتجلجل ضحكتُه، مكتفياً بها كتعليقٍ صامت ربما كان يريد به عدم التمادي بإشارات البوح.

لكن ما أكثر ما كان يبلغ باب الغرفة بالطابق الرابع في بناية الجريدة، ثم يعود إليَّ بمنتهى الجدّية ليأخذ ما أعطاني إياه، ويمزّقه بعدما يترك لي وقتاً مناسباً لقراءته. إنها تحسّبات حميد المطبعي وتحسبات أي عراقي لا يريد أن يخطئ آنذاك، في حياة غالباً ما يكون الموت فيها ثمناً لخطأ حتى وإن كان خطأ تافهاً.

يضبط حميد متى يكون جاداً، ومتى يواري جدّيته خلف السخرية والدعابة.

ينتهي الحديث، وتنتهي حياة الورقات والكتابة عليها. لم يتبق من أثرٍ لما أتلف من تلك الأوراق سوى كلامٍ ساخر وضحكاتٍ أشدّ سخرية.

لقد بقيت بضع أوراقٍ لم تنل منها تحسّبات حميد المطبعي. كان ما كتبه حميد في هذه الأوراق التي تركها عندي بخطّه الأنيق يخصّني شخصياً. إنها أوراق كتبها بجلسات مختلفة تكرّرت بأوقات غير منتظمة على مدى شهر تقريباً. كانت كتابةً عن انطباعات وتصورات وآراء نقدية عني شاعراً وعمّا صدر لي آنذاك، كان حميد يختمها بتنبؤات يرسم فيها مستقبلاً يتوقّعه أو يثق به، وما أشدّ افتتانَ حميد بدور الرائي المتنبئ.

كلما قلّبت تلك الأوراق فإنّ شيئاً ما يظل يشدّني إلى مطالعتها كما لو لم أقرأها من قبلُ، ثم لا ألبث حتى أعيدها حيث كانت. لست واثقاً للآن ما إذا قد حانت إمكانية التصرف بها كما طلب مني ذلك بخصوص الأوراق كلّها، التالفة منها والمتبقية، وكما وعدته باحترام طلبه والتقيّد به.

***

قبل أن أنتهي من كتابة هذا المقال كنت أواصل التحديقَ، حزيناً، بصورة حميد المطبعي.

إنها صورة يستسلم فيها الجسد، جسد الكاتب، للمرض، ويركن الكلام إلى الصمت، وتنهزم السخرية أمام جبروت الألم.

إنها صورة حميد وقد ركن إلى جدّيةٍ لم يخترها هذه المرة.

ليت حميد المطبعي يفيق من هذه الجديّة المأساوية التي تضعه فيها تلك الصورة المؤلمة.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.