}

سمعتَ الانفجار؟ لقد اغتالوا "المتنبي"!

عبد الزهرة زكي 7 مارس 2018
هنا/الآن سمعتَ الانفجار؟ لقد اغتالوا "المتنبي"!
شارع المتنبي يبدأ من هنا

كان ينبغي توقّع حصول تفجير في شارع المتنبي وسط بغداد. ما الذي بقي في المدينة بمنأى عن تفجيرات القاعدة حتى لا ينبغي التفكير بإمكانية حلول لحظة سوداء في هذا الشارع الذي ظل رئة الثقافة والحياة المدنية في عاصمة لا تريد أن تموت؟

إنها سنوات كان المرءُ منّا لا يأمن فيها على نفسه حتى وإن كان في منزله.. ساعات الاطمئنان الممكنة كانت ما بين الثانية عشرة ليلاً والخامسة فجراً، حيث يحلّ منع التجوال التام. حينها فقط يمكن للمرء أن يطمئن إلى أنه ما زال متاحاً له أن يحيا ليوم آخر لا يدري ما الذي يمكن أن يحصل فيه.

لا أحسب أن أحداً من رواد شارع المتنبي ومن العاملين، فيه لم يكن يؤرقه احتمال حدوث التفجير.. لكن ما معنى مثل هذا الظنّ والتحسب؟ ما العمل؟ ما قيمة هذا الهاجس سوى ما يخلّفه في النفس من تأزّم؟ لا بد من أن تستمرَّ الحياة، لا بد من العمل. بعضُ الاحتياطات الشخصية لابدّ منها، إنها الوسيلة التي ربما كانت الوحيدة لتفادي ما يمكن تفاديه من مصائر مختلفة ومتوقَّعة، ويكون معها الموت متوقعاً في كلِّ حين.

لم أُفاجأ بالهاتف الذي جاءني، بمثل هذا اليوم من عام 2007، وكنت أواصل عملي مديرا لتحرير صحيفة "المدى"، كان صوتَ صديقٍ لم يقوَ على كتم انفعاله وهو يجهش بالقول:

ــ سمعتَ الانفجار؟ كان في شارع المتنبي، لقد اغتال السفلة (المتنبي)؟

قبل الهاتف بدقائق كنت، وجميع مَن في الجريدة، قد سمعنا صوتَ انفجارٍ يبدو بعيداً، لكنّ الصوت كان من الشدّة بحيث هزَّ المبنى ومناضد عملنا. انفضضنا عن أعمالنا، وتجمعنا قرب جهاز التلفزيون، كانت عواجل الفضائيات قد سبقت الصديق المتصل في نقل خبر بارد عن استهداف شارع المتنبي، فما كان إلا الوجوم الصامت، في قاعة تحرير الجريدة، سيّداً في تلك الدقائق وذاك الموقف.

مع مطلع التسعينيات، سنوات حرب الكويت والحصار، استعاد شارع المتنبي حياة أخرى له.

كانت أعرق مكتبات بغداد في هذا الشارع طيلة عقود ما قبل التسعينيات. لكن بعضها أوجد له فروعا أخرى في الباب الشرقي وساحة التحرير إلى جنب مكتبات حديثة النشأة وذلك حين تحوّلت سوق الكتب، ومعها مركز الحياة البغدادية، إلى هناك، في الباب الشرقي وساحة التحرير وشارع السعدون، بينما الليل لـ (أبي نواس) القريب، إنه شارع السهر والمقاهي والحانات. لقد استحال (السعدون) إلى شارع للثقافة خلال العقد السبعيني؛ سينمات كبيرة وحديثة، ومكتبات، ثم استحدثت قاعة الرواق، وفي القريب من المكان كانت قاعة كولبنكيان للفن الحديث، وليس بعيدا عنه كان مسرح الفن الحديث ومقر صغير لفرقة مسرح اليوم وفرقة المسرح الشعبي. وقريبا من المكان كان المركزان الثقافيان السوفيتي والفرنسي.

كلّ هذا انفرط في التسعينيات، فكانت العودة إلى (المتنبي) التي ساعدت عليها عودة أخرى لحياة مقاهي الثقافة والمثقفين في شارع الرشيد قرب ساحة الميدان ومنطقة الحيدرخانة وحتى في شارع المتنبي نفسه.

لم يكتفِ الشارع بمكتباته الكبرى العريقة، فقد نشأت تجارة كتب مستحدثة، وكانت تجارة رصيف؛ الرصيف صار سوقا تعرض وتباع فيها أكبر المكتبات الشخصية لكتّاب وأدباء وأكاديميين وقرّاء عراقيين، ممن دفع بهم الحصارُ واليأس والجوعُ، وحيناً الرغبة بالهجرة، إلى التخلي عن مكتبات جُمعت خلال سنوات حيواتهم. هكذا صارت كتب المكتبات الشخصية رئة أخرى للثقافة، وهكذا وجدت كتبُ تلك المكتبات الشخصية دورةً أخرى من الحياة مع قرّاء جدد وعلى رفوف مكتبات أخرى. لم يكن مفاجئاً أن تصادف ما بين الكتب القديمة على الرصيف كتاباً يحمل إهداءً من أعظم شعراء العراق إلى واحد من أعظم كتّابه. لقد بدأت الصحافةُ حينها تتندّر بأسى على هذه الطريقة التي لا تضع حرمة للإهداءات من قبل المهدى إليهم، لكن بعد سنوات صارت الظاهرة مألوفة، الجوع كافر. لم يعد هذا الحال مما يثير فضول الصحافة، ولا يشكل شيئاً في اهتمام الناس. بعض الصحفيين والكتّاب، ومعهم بعض آخر من أفضل القراء، كانوا هم باعة الكتب إلى جيل جديد من القرّاء، جيل يتنامى في رحم هذا الشارع الذي لم يعد يتسع لتنامي رواده.

لكن الشارع لم يقف عند هذا الحد، لم تكفه المكتبات الشخصية والكتب القديمة.

عدم إمكانية الحصول على الكتب، الصادرة حديثاً خارج العراق، وعدم إمكانية شرائها أساساً، كانت مشكلة كبيرة، لكن الحياة تبتكر حيلها. مدينة مثل بغداد لا يمكن أن تموت ولا أن تقف عند زمن قرائي جامد. هكذا وجد استنساخُ الكتب الصادرة حديثاً في عواصم العرب الثقافية، وغير الثقافية، الأخرى طريقَه إلى شارع المتنبي كوسيلة للعيش وللقراءة ولإشباع أعظم نوازع الفضول، الفضول القرائي.

حين عدتُ من زيارةٍ ثقافية لدمشق عام 1999، وكانت الزيارة الأولى والأخيرة، كان معي ما لا يقل عن أربع مئة كتاب من إصدارات وزارة الثقافة السورية واتحاد الكتاب، ومعها كامل إصدارات مركز الإنماء لصاحبه الكاتب الراحل نادر السباعي. كانت الكتب هدايا شخصية من تلك المؤسسات لأديبٍ عائد إلى بغداد المحاصرة، وكانت وحدها كلَّ ما جاء به من دمشق الجميلة.

معظم هذه الكتب وجدت طريقها للاستنساخ من خلال مكتبة الصديق الشاعر أحمد الشيخ، ومن خلالها إلى سوق المتنبي. بينما ذهب بعضها الآخر، مما لا يشكل اهتماماً شخصياً لي، إلى مكتبات جامعية ليستفيدَ منها طلبةُ الدراسات العليا في المجالات الإنسانية.

مثلي فعل كثيرون ما فعلتُه. لم يعد الكتاب ملكاً شخصياً قابلاً للاحتكار الأناني؛ للشارع، وللقرّاء العامين، حقٌّ فيه.

لم أكن في التسعينيات، ولا في هذه السنوات، من الزوار المواظبين على تواجد دائم في شارع المتنبي. يصادف خلال هذه السنوات أن أكون هناك مرة في الشهرين أو الثلاثة لموعدٍ مع صديق أو لحاجتي إلى كتاب أو كتب محددة، فيما كانت تمضي أشهر طويلة في التسعينيات لا أمرّ خلالها في الشارع. ربما هو تطبّع أتفادى بموجبه الأماكن المكتظة، لكن حقيقةً لا أتذكر أني خلال التسعينيات كلها كنت اشتريت إلا كتاباً واحداً فقط. كنت أكتفي بما متوفر في مكتبتي وبما كان يصلني من كتب مهداة من أصدقاء خارج البلد ومن ناشرين عرب. ساعدني عملي الصحافي الثقافي على أن تصل إليَّ الكثير من الإصدارات الحديثة، ربما لا أقرأ منها إلا باختيارات تخضع لحاجتي وأحيانا لقيمةٍ أتوقعها لكتاب أو لمؤلفه، فيما أهدي البقية لأصدقاء ومعارف هم أحوج مني إليها.

لم أذكر الكتاب الوحيد الذي اشتريته؟ نعم؛ كان الكتاب هو مجلدات (تاريخ الأمم والملوك) للطبري. لم أكن بحاجة ماسة له، لكن صديقاً كان يريد أن يهاجر وأن يتوفّر على مبلغ السفر فباع مكتبته، اشتريت من الصديق تاريخ الطبري، وبعته بعد سفر الصديق بيومين بأقل من السعر الذي اشتريته به. لقد كانت لديّ نسخة منه منذ الثمانينيات ورافقني شهوراً خلال أيام جنديّتي التي كانت تسمح بقراءة هكذا كتاب، ثمّ بعت، هذه النسخة، منتصف التسعينيات حين اشتدت الضائقة وحين احتجت إلى ثمنه.

***

في ذلك الوجوم الصامت في قاعة تحرير جريدة "المدى" عاد هاتفي بعد دقائق ليرنَّ مرة أخرى.

كان المتّصلَ صديقٌ شاعر يعمل في جريدة "الصباح". كان يستفسر عن مدى إمكانية أن نقيمَ صباح الغد جلسةً شعرية فوق رماد الكتب الشهيدة في شارع المتنبي.

وافقت مباشرة، وأكدت ضرورتها.

وجود الشارع ما بين منطقتين بغداديتين ساقطتين فعلاً تحت هيمنة الإرهاب، هما حي الفضل من جانب، وحي شارع حيفا من جانب آخر، يجب ألا يمنع مثل هذا الفعل الثقافي، إنه أقل ما يمكن أن يقوم به المثقفون لحفظ نبض الحياة.

كان ذلك تحدياً ومجازفة، لكن ما الذي بقي خارج التحديات والمجازفات في الحياة اليومية البغدادية؟

اتفقنا، وقررت أن أكتب بياناً باسم (شعراء بغداد) موجَّهاً إلى شعراء العرب والعالم، وليقرأ على رماد الحرائق وقريباً من تمثال أبي الطيب، شاعر العرب الأول. وهذا ما سأتحدث عنه بمقال آخر.

آمل، قريباً، أن يتاح لي المجال لكتابة ما حصل في يوم الجلسة الشعرية التي أقيمت على الحطام فيما كان دخان الورق والمخطوطات المحترقة يملأ أنفاسنا.

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.