}

التشذيب وإعادة الكتابة.. تجارب وشهادات (2)

صدام الزيدي صدام الزيدي 21 ديسمبر 2019
هنا/الآن التشذيب وإعادة الكتابة.. تجارب وشهادات (2)
لوحة للفنان التشكيلي الأميركي نيك جورجيو
لماذا يُعيد الأدباء والكتّاب النظر في أعمال ونصوص منجزة لتصدر ثانيةً إما في "طبعاتٍ منقّحة" أو في مجلات وصحف ومواقع للنشر الإلكتروني، تحت استدراك/تنويه: "كتابة ثانية"؟!. عربياً وعالمياً هناك أسماء وتجارب لافتة، اتسمت مسيراتها بالعودة إلى تشطيب شبه جذري لكتب وأعمال منجزة، كما أن البعض منهم (في غير مناسبة) تمنّى لو أنه عاد لتنقيح وغربلة كتاب ما.

عندما تُنجز دراسات وبحوث حول تجارب وإصدارات، ثم بعد حين يتغير شكل ومضمون تلك الإصدارات والنصوص بسبب أنها خضعت لكتابة ثانية، هل يفضي هذا بالضرورة إلى متغيرات جديدة في سياق القراءة والتحليل والدراسة والتقييم؟ هل البدايات هي من يفرض الأمر (بدايات تجربة ابداعية ما ليست بالطبع كمراحل لاحقة تصل فيها التجربة إلى النضج)؟ كيف أن أمر إعادة النظر في نتاج إبداعيّ مرّت عليه فترة من الزمن يكون وارداً لدى البعض وغير وارد لدى آخرين؟ كيف ينظر الأدباء والكتّاب إلى ظاهرة التشطيب وغربلة النصوص والمؤلفات من جديد أو ما عرف قديما بـ"التحكيك"؟ وما هي شهاداتهم من زاوية التجربة الشخصية حول "إعادة الكتابة"؟  
هذه الأسئلة نطرحها في هذا الملف على أدباء وكتّاب وباحثين أكاديميين. هنا الجزء الثاني منه:

 


عبد السلام الربيدي (كاتب وباحث أكاديمي/اليمن): الكاتب أو الباحث الذي يعدل ويزيد وينقح عمله بصورة أصيلة وحقيقية يحترم القراء
الكتابة، في الغالب، ليست عملية بسيطة، وإنما هي طبقات من العمل المركّب والمتلاحق والمتطور. تبدأ الكتابة بالنسخة الأولى ثم تأتي عمليات التحرير والمراجعة والتدقيق ليصل المبدع أو الباحث إلى نسخته النهائية. يطلق في التراث العربي مصطلحا "المسوَّدة والمبيضَّة" على مرحلتين من تطور النص أو الرسالة أو الكتاب: في المرحلة الأولى يسوّد النص بالحبر على الورق، وفي المرحلة الثانية تتمّ تنقيته وتحريره من الأخطاء حتى يصير أبيض، في نظر صاحبه، خاليا من الشوائب. وكلمة تحرير العربية لها صلة اشتقاقية بالحرية؛ فمن يخلِّص النص من أخطائه وشوائب المرحلة الكتابية الفيضية الأولى، فإنه يحرره ويطلقه من قيود كانت تكبل وصوله إلى المتلقي. هنالك مقولة تتلخص في أن "المسوَّدة الأولى من القلب، أما الثانية فهي من العقل"، وهي توحي بأن الكتابة تكون في بداياتها فيضا أو دفقا تلقائيا عاطفيا، ثم تأتي مراحل عقْلنتها وضبطها وتوضيحها. ومن هنا، فإن من شأن دراسة مسوّدات الكتّاب والشعراء، في حال أتيح ذلك، أن تفتح المجال لمعرفة استراتيجيات الكتابة عند هؤلاء المبدعين ومنعطفات تطور المعنى. في الشق الأول، وهو الاستراتيجيات، نتعلم من المسودات الطرق الأسلوبية والتقنية للكتابة، وفي الشق الثاني، وهو تطور المعنى، نتعلم أن المعنى الكلي لا يخلق في النص فجأة بل يتخلّق طيلة فترة التبييض والتحرير حتى يصل إلى مستقر معين فيه تثبت الحركة على الأقل في جانب منشئ النص. وأيضا قد تعلمنا العودة إلى مسوّدات الكتاب والشعراء مظاهر الرقابة الذاتية أو الغيرية التي يعيشها المبدعون والباحثون وهم يكتبون؛ فهناك المحاذير الاجتماعية والسياسية، وهنالك الدوافع النفسية الفردية للحذف أو الإثبات. ومن هنا، حرصُ بعض الكتاب على تمزيق نصوص مسوّداتهم. إن دراسة المسودات ليست ذات فائدة نصية فحسب، بل ذات فائدة اجتماعية ثقافية.

أما الطبعات المنقحة والمزيدة من الكتب، وحتى من بعض النصوص الإبداعية، فتشير إلى النقص الإنساني؛ لكنه، هنا، نقص واع وطامح للكمال. يقول الراغب الأصفهاني: "إني رأيت أنه لا يكتب أحد كتابا في يومه إلا قال في غده لو غير هذا لكان أحسن، ولو زيد هذا لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل.. إلخ" ويمتدح بورخيس دور النشر فهي، في رأيه، تنقذ الكاتب من أن يظل يعدل عمله حتى الممات دون أن يرضى. وعند العودة إلى المعنى المادي للتنقيح والتشذيب في العربية نجد أنهما مأخوذان من حقل الزراعة؛ أي إزالة الفروع والأغصان الزائدة واجتثاث الحشائش غير النافعة ورميها بعيدا عن الأشجار ذات الثمار. وهناك قصص طريفة وشيقة لكتّاب من كل العالم أفنوا سنوات من أعمارهم في تهذيب كتاباتهم وتعديلها بأنفسهم أو عن طريق الاستعانة بمحررين عندهم الكفاءة في قراءة الكتب وتحسين جودتها. وفي رأيي أن الكاتب أو الباحث الذي يعدل ويزيد وينقح عمله بصورة أصيلة وحقيقية هو كاتب يحترم القراء ويأخذ عمله على محمل الجدّ، وهو دليل على أنه يتطور في فكره ولا يستنكف عن الاعتراف بما طرأ على نسخه الأولى من نقص نتيجة نقص مصادر أو جهل بجانب من جوانب المعرفة التي يعالجها.

 

ريتا الحكيم (شاعرة/سورية): علينا أن نحترم تجاربنا الأولى
إن أي عمل أدبي نرسم له خارطة طريق قبل البدء به، إن كان عملا روائيّاً، شعريّاً، أم قصصيّاً. نضع له الأساسات المتينة وبعد ذلك تتوارد الأفكار تلقائيّاً، ندوِّنها، ونعمل على تدعيمها من خلال تجاربنا الحياتية ورؤانا لما حدث فيما مضى وكان له التأثير القوي علينا سلباً أم إيجاباً.
بعد الانتهاء من العمل، نتركه، ونعيد قراءته من جديد؛ ليبدو أمامنا كأنه عمل لا يمت لنا بصلة، أو كأننا نقرأه لأوَّل مرَّةٍ كي نستكشف الثغرات فيه إن وُجدت. والثغرات هنا غالباً ما تكون لغويَّةً. وتشذيبها ضروريُّ قبل النشر والطباعة على ألا يتأثر المضمون بأي تعديل.. ذلك لأن ما كتبناه لم يكن قراراً نعدل عنه متى شئنا وإنما لأنه كان نتاج لحظة تجلٍّ وإلهام جاءت إلينا بذراعين مفتوحتين ولم نذهب نحن إليها.. وأي تغيير في المضمون ربما يؤثر على مجمل العمل ويفقده ألقه أو يضعفه.

ما أقصده هنا يتضمن المنشورات الورقية وليست تلك التي لم تُنشَر بعدُ. علينا أن نحترم تجاربنا الأولى لتكون شاهداً على تطورنا في مجال الكتابة، إذ من خلالها يتم التقييم لما نكتبه فيما بعدُ.. من وجهة نظرنا، ومن وجهة نظر النُّقاد أو القرَّاء الذين سيستندون بالتأكيد إلى ما كتبناه سابقاً؛ ليكون التَّقييم منصفاً وعادلاً بعد تجاربنا الأولى في الكتابة.
التجارب الأولى هي المقياس الدقيق لتحديد مدى جودة المطبوعات التي تليها بعد اكتمال النضج والوعي لدى الكاتب.
وأعتقد أن عبارة "طبعة منقحة" هي شبه إدانة للعمل بأكمله، وأنا أرى أن يبقى العمل كما هو حين إصداره، ولنعمل على تحسين أدائنا في الأعمال التي تأتي بعده، على أساس أنَّنا عرفنا نقاط الضعف فيه ولا بدّ أن نستدركها فيما بعدُ، لكن بعض الكتّاب يعتبرون التجارب الأولى إساءةً  لمسيرتهم الأدبية بعد النضج، واكتساب الخبرة.
يمكن أيضاً أن يكون التَّنقيح إسقاطاً لفقراتٍ أو فصول من الرواية أو حذفاً لعناوين فرعيَّةٍ منها، وإهداءاتٍ، كما في حالة محمد شكري الذي استبدل عنوان كتابه "الشطار" بآخَر "زمن الأخطاء"، وهايدغر حين أعاد نشر كتابه "الوجود والزمان" حذف الإهداء الذي كان قد كتبه للفيلسوف هوسرل.
هناك أيضاً ظروف خارجة عن إرادة الكاتب بسبب عين الرقيب على المنشورات، خاصة إذا كان مناوئاً للسلطة السياسية التي تحذف، وتقص ما تراه ليس مناسباً، كما حدث لرواية الروسي ميخائيل بولغاكوف "المعلم ومرغاريتا" التي أعيدت صياغتها كاملة ثلاث مرَّاتٍ، قبل أن تُنشر مسلسلة في مجلة موسكو الأدبية، وقد اقتطع منها الناشر مرة أخرى عدداً من الفقرات، قبل أن تصدر في كتابٍ ورقيٍّ. في حالة هذه الرواية، كان الحذف والبتر بسبب مقص الرقيب السياسي، وعملية النقد الذاتي التي مارسها الكاتب عليها، سبباً مهمّاً لتصل إلى القراء في أبهى حلَّةٍ، وتكون علامةً فارقةً في الأدب الروسي، وقد لقيَتْ نجاحاً بعد أن تمَّ إصدارها في كتابٍ عام 1966 في الاتحاد السوفييتي وبنسخة مرّت عبر مقصّ الرقيب، وأصبح نشرها الكامل متاحاً بعد 25 عاماً من وفاة كاتبها.

أحياناً تُعاد الطباعة لأسباب فنية، كسوء الطباعة ليس إلا.. كما حدث معي حين أصدرتُ كتابي الأول، دار النشر لم تهتم بالطباعة أبداً؛ فجاء الخطُّ غير مقروءٍ لأن الطباعة عادة يُعتمد فيها نوع خط معيَّن لم تلتزم به الدار، وكان هذا أمراً مسيئاً للعمل نفسه، لدار النشر ولي أيضاً.. في هذه الحالة ربما أعيد طباعته في دار نشر أخرى فقط لإعادة النظر في الخط وليس لتغيير المضمون أو تعديله أو حتى إضافة أي شيء إليه أو حذف أي نص منه، وهذا لا أسميه "طبعة منقحة" وإنما إعادة اعتبار لي وللإصدار الذي كان باكورة أعمالي ولم أكن راضية عنه للأسباب التي ذكرتها أعلاه، وإعادة الطبع هُنا لن تؤثِّر على المضمون لأن الثغرة هُنا هي نوع الخط الذي اختارته دار النشر، ولم تطلعني عليه مُسبقاً.
مسيرة الكاتب تبدأ خجولة بعض الشيء وهذا أمر بديهيٌّ لا أحد ينكره، بعد ذلك تنضج تجربته ويتَّضح أمامه الطَّريق؛ ليكون التنقيح قبل النشر دليل نضجٍ، وتأنٍّ، ونقدٍ ذاتيٍّ.
أي تعديل مقبول قبل الطباعة وليس بعدها، وأشير هنا إلى أنَّ هذا رأيي الشخصي وليس بالضرورة أن يلقى ترحيباً من الآخرين.
أحد الاصدقاء أعلن في منشور له أنه سيغيِّر عنوان كتابه في طبعته الثانية وقد ذكر العنوان الجديد، ومن خلال ردود متابعيه في تعليقاتهم لاحظتُ أنهم متمسكون بالعنوان السابق، وهذا يدل على أن أغلب القراء أيضا لا يحبِّذون التعديل؛ فالعنوان علق بأذهانهم وارتبط بمحتوى الكتاب، علما أن هذه الخطوة لن يتأثر بها المضمون أبداً، وهذا لا أعتبره تعديلاً كاملاً بل جزئيّاً، رغم أن العنوان هو عتبة الكتاب برمَّته.
أما فيما يخص الكتب العلمية والبحثية؛ فلا ضير من إعادة طبعها بعد التنقيح لأن العلم في تطور متصاعد وهناك اكتشافات تلغي ما سبقها أو تضيف إليها.. مجال البحث العلمي متاح دائماً لإعادة الطباعة تحت مسمّى "طبعة منقَّحة"، وذلك لإغناء العلم بما يستجد من معلومات، حتى في الكتب التاريخية يتوجب إعادة طباعتها لأن الاكتشافات الأثرية لمدن وممالكَ قديمة لا تتوقف عند حدٍّ، وهذا يحتاج إلى إضافتها إلى ما سبقها من معلومات أو لتصحيح بعض المعلومات فيها.
في مجال الأبحاث التي تخصّ النقد ظهرت نظريات جديدة تضيف إلى ما قبلها الكثير الكثير أو تدحضه، وهذا يتيح لمَن كتب في هذا المجال وأوجد رؤى جديدة أن يعيد الطباعة لتصحيح نظريته السابقة، بأن يحذف منها أو يضيف عليها، إن أراد ذلك.

أعود إلى الكتب الأدبية، من شعر ورواية وقصص قصيرة والتي بعضها خضع لدراساتٍ نقديَّةٍ، وأتساءل هل رؤية الناقد نفسه ستتغيَّر فيما لو أعاد دراسته النقدية لنفس الكتاب في طبعته المنقَّحة؟ هل سينسف ما سبق أن كتبه؟ أم سيضيف؟ أرى أنها ستكون دراسةً نقديًّةً منقحةً أيضاً. إذاً بتنا الآن أمام "طبعة منقحة" و"دراسة نقدية منقحة".
نعود الآن إلى القارئ الذي سيقع في حيرةٍ من أمره.. ويتساءل: أيهما أصدِّق، ما قبل التنقيح أم ما بعده؟
أما فيما يخص الكتب المُترجمة عن لغات أخرى، وبكافة أجناسها، الأدبية منها والعلمية، الدينية والتاريخية أو الفلسفية، فالطبعات المنقَّحة منها تكون لاستدراك أخطاء وردت فيها من قِبل المترجم، ويرى أنه يجب تصحيحها من أجل الأمانة، والمصداقية في الترجمة.

 

فتحي قمري (شاعر/تونس): من المعيب أن يتبرّأ الشاعر من إرثه القديم
أعتقد أنّ المراجعة وإن كانت في جزء كبير منها متّصلة بمرحلة البدايات فإنّها في نظري عمل يستمرّ مع الشاعر ويرافقه في جميع مراحل تجربته ولكن بشكل أقلّ تأثيرا وحدّة عند المقارنة بين الكتابة الأوّليّة والصيغة النهائيّة للعمل كلّما تقدّمت التجربة واكتسب الشاعر خبرة الكتابة.
فتشذيب النصوص ومراجعتها أمر درج عليه عموم الشّعراء والعودة إلى النّص بعد الكتابة الأولى أمر ضروريّ لتجويده وتخليصه من شوائب لحظات الانفعال الذي يطغى على تلك الكتابة، ولكنّ هذه الأعمال تتوقّف بمجرّد نشر النّص وتحوّله إلى موضوع قراءة يتسلّمه القارئ بمختلف درجاته ويبدأ بممارسة دوره فيقرأ ويتحلّل ويقوّم وغير ذلك من وظائفه كركن أساسيّ في العمليّة الإبداعيّة.   
لكن في الأثناء شاعت فكرة العودة إلى أعمال إبداعيّة "قديمة" بإعادة النظر في صياغتها وكتابتها على نحو معظمه جزئيّ غير أنّه قد يصل إلى الحدّ الذي يتغيّر فيه النصّ بصورة واضحة، ولهذا التّصرّف في نظري تأثيرات بالغة لا تقف عند حدود التساؤل عن علاقة الشّاعر بكتابته وعند الشكّ في درجة إيمانه بإبداعيّة نصوصه في نسخها الأصليّة بل يدفع بنا جميعا إلى الحيرة إزاء ما حُرّر من أعمال نقديّة وبحثيّة اعتمدت هذه النصوص أسانيد لها ومراجع بحث. فإعادة الكتابة ليست مجرّد تعديل لما استقرّ من نصوص سبق نشرها ولكنّها في اعتقادي بالصورة التي ذكرت هي اعتداء وإساءة لكلّ ما اتصل بها من قراءات واستهتار بالجهود التي بذلت خلالها. فأن نكون إزاء ذات العمل في صيغتين مختلفتين إحداهما خارج السياق المتعارف عليه هو مأزق يعانيه الناقد ويمنعه من تنزيل النص في بعده التاريخيّ لتجربة الشاعر. ويحرم من قراءة النصّ ضمن سياقاته النفسية والاجتماعية وما إلى ذلك من ظروف تحفّ بالكتابة وتمثّل مداخل للقراءة والنقد.

إنّي أتساءل حقّا عن الجدوى ممّا يسمّى بالصيغة النهائيّة أو إعادة كتابة لأعمال منشورة سلفا بمنطق التعديل والتهذيب والمراجعة. وحريّ بالشّاعر أن يعالج ما يراه نقائص في أعماله عبر منجز جديد يراكم من خلاله تجربته ويعمّقها بدل البحث عن "حيل" لطمس ما يراه هو خللا أو نقائص.
أختم بالتأكيد على أنّه من المعيب أن يتبرّأ الشاعر من إرثه القديم وخصوصا مرحلة البدايات مهما بدت المعايب والعثرات وما عليه سوى أن يتريّث ويتعهّد نصوصه جيّدا قبل طباعتها ونشرها تجنّبا لأيّ مراجعة لاحقة لا معنى لها أو قيمة إلاّ إذا استثنينا أن تكون تمرينا يعبّر عن صناعته وحرفيّته لا غير.   

 


حسونة فتحي (شاعر/مصر): التشذيب إعادة تدوير لفكرة النص وفق رؤية آنيّة للشاعر وهذا أمرٌ سيّء
بمبدأ التقادم، فكل قصيدة كتبها شاعر ونشرها أو حتى ظلت حبيسة أدراجه دون أن ينشرها هي قصيدة قديمة عند الشاعر نفسه قبل المتلقي.
بداية من الضروري أن نأخذ في حسباننا أمرين مهمّين:
أولهما، أن ندرك الحدود الفاصلة بين مفهوم القصيدة ومفهوم النص الشعري، فالنص الشعري تجاوز دلالة القصيدة وشروطها وضوابطها ومقوماتها وجمالياتها إلى عوالم أكثر رحابة وانفتاحاً وشفافية وصفاءً، فإن كان فيه ما يُنقِص أحد هذه المبادئ فهو مجرد محاولة تقترب من النص وليس نصاً.
ثانيهما، أن المنتج الشعري ينقسم إلى تيارين، تيار يعتمد العقل والمعرفة (الذهنية) وتيار يعتمد الإحساس والعاطفة (الشعور)، ونصوص هذا التيار تكون وفق الإحساس بالمفردة والعبارة والموضوع والدلالة وجميع المكونات في النص الشعري.
وفق هذين الأمرين يمكننا ببساطة أن نحدد نوعية النصوص الشعرية التي قد يُخضعها كاتبها لإعادة الصياغة أو التنقيح والتشذيب، فهي إما ما يقع تحت باب "القصيدة" أو ما يقع تحت باب "النص الشعري الذهني"، أما المنتج الشعري من النصوص التي تعتمد الشعور "القلب" فقلما تحتاج إلى تنقيح أو تشذيب يمكن اختصاره في تغيير عبارة أو تغيير موقع جملة أو مقطع.
من هذا المنطلق نتيقن أن تحولات النص الشعري العربي خلال العقدين أو الثلاثة عقود الأخيرة شكّلت نقلةً نوعية ودلالية مكّنت كل من واكبها بمنتجه الشعري من الشعراء على اختلاف أجيالهم من كتابة نص خالص أو شبه خالص، لا يقبل تغييراً أو تبديلاً إلا في أضيق الحدود، وهذا يجعل تأثر ما تم إنجازه من قراءات حول تلك النصوص يكاد يكون منعدماً، إذا ما قام الشاعر بإعمال التنقيح والتشذيب على بعض قصائده وإعادة نشرها، أما ما لم يواكب تلك التحولات من منتج شعريّ فالتشذيب سيكون - على أقل تقدير- هو إعادة تدوير لفكرة النص وفق الرؤية الآنيّة للشاعر، وهذا في نظري أمرٌ سيّء، يضع الشاعرَ في منزلة لا ولن تطال ما فعله شعراء الحوليات والذين امتدت قصائدهم عبر تاريخ الأدب العربي.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.