}

الكواكبي وبن الشيخ: العلمانية و"الإرهاب الإسلامي" بمنظور فرنسي (مناظرة-2/2)

بوعلام رمضاني 27 نوفمبر 2020
هنا/الآن الكواكبي وبن الشيخ: العلمانية و"الإرهاب الإسلامي" بمنظور فرنسي (مناظرة-2/2)
سلام الكواكبي ـ غالب بن الشيخ
بعد أن وقف الكاتبان سلام الكواكبي وغالب بن الشيخ في حلقة أمس عند تصريحات سياسية وفكرية خطيرة مررتها قنوات إعلامية خاصة على خلفية تداعيات مقتل الأستاذ الفرنسي والاعتداء على كنيسة في مدينة نيس، ووضعهما هذه الردود في نطاقها الإيديولوجي المشحون بوجدانية غارقة في مستنقع الاتهامات والأحكام الجزافية البعيدة عن المقاربات الفكرية العقلانية، وتوضيحهما تشابك عناصر ظاهرة التطرف الإسلامي، يستمران في هذه الحلقة الثانية والأخيرة في تحليل وتفكيك خلفيات وآفاق مواقف أخرى متعلقة بتطرف ديني وآخر إيديولوجي، وهي الحقيقة التي  تتغذى بشطط وبتشكيك الطرفين في بعضهما البعض بنسب متفاوتة يختلف حولهما بطريقة أو بأخرى كما حدث مع ضيفينا الكريمين. تعمق الأمر، ونحن ننهي هذه المناظرة، عشية "التهديد اللطيف" على حد تعبير الكواكبي الذي وجهه رئيس الجمهورية إيمانويل ماكرون لمسؤولي الديانة الإسلامية الأسبوع الماضي بغرض الاتفاق حول ميثاق قيم الجمهورية ولتأسيس مجلس وطني للائمة. وتسرع رئيس الجمهورية في نظر ضيفينا لمواجهة التطرف الإسلامي بإجراءات قانونية في وقت قياسي دون النظر للظاهرة بعين فاحصة ومتعمقة لظاهرة لا تعالج قانونيا وأمنيا فحسب بل أيضا سوسيولوجيا وسيكولوجيا وسياسيا وفكريا كما اتفق على تأكيد ذلك الأستاذان الكواكبي وبن الشيخ رغم إلحاح كل واحد منهما على جوانب معينة من منظور تخصصين يتكاملان ويفترقان في الوقت نفسه، كما أضحى ذلك جليا في الاختلافات التي تميز أصحاب كل نقاش فكري جاد وصادق بالضرورة.


علينا ألا نقع في فخ التصنيفات السريعة

امراة تحمل صورة المدرّس صامويل باتي خلال تظاهرة في ليل (أ ف ب).







 

(*) هل تعتقدان أن جديدا ما طرأ في واقع الإرهاب المنسوب لإسلاميين فقط من منظور التفسير الإرهاب والطاغي عالميا وليس فرنسيا فقط في ضوء اغتيال أستاذ التاريخ، أم أن ما حدث باسم مبرر الرسومات الكاريكاتيرية التي أظهرها الأستاذ الذي اغتيل هي امتداد لتطرف إسلامي قديم عام ومؤكد وشامل ومكتمل الأركان سكت عليه من ينعتون باليساريين الإسلاميين من طرف المثقفين الإعلاميين الذين تعج بهم بلاتوهات التلفزيون بوجه خاص، وأنت من اليساريين الإسلاميين  Islamo gauchistes حتما كما أعتقد اذا استندت إلى ما يمكن استنتاجه من وزير التربية الذي اصطاد في حقل اليمين المتطرف كما مر معنا في الحلقة الأولى؟
ـ سلام الكواكبي: أرجو أن لا نقع في فخ التصنيفات السريعة. أنا أعتبر نفسي مفكرا حرا مؤمنًا بالعدالة الاجتماعية وبالتعايش وبلغة العقل والمنطق وبعيدا عن أي تعصب أو تطرف أو انغلاق. من ذكرت بأنهم يمارسون الاتهامات ذات اليمين وذات الشمال، هم يتعيّشون من هذا الخطاب، وإريك زيمور لن يتوقف عن ذلك التخويف من المسلم وليس لديه ما يعمله غير ذلك، والشيء نفسه ينطبق على آلان فينكلكلوخت وليس لديه ما يضيفه دون تنميط المسلمين والأجانب، وغيرهم وسواهم. العمل الإجرامي رهيب ورمزيته تحفر في العمق مع أن تاريخ فرنسا لم يكن غريبا عن سياسة قطع الرؤوس، ولكن المجتمع الفرنسي طوى هذه الصفحة منذ عقود. قطع رأس مدرس كان يتحدث لطلابه عن حرية التعبير هو رسالة قاسية للمؤسسة التربوية التي جُلّ العاملين فيها من التقدميين المنفتحين على الآخر. المدرسون في فرنسا يعانون كثيرا من تهميش مطالبهم ويعانون أكثر من القوانين "الإصلاحية" الليبرالية التي تبشرهم بها حكومة ماكرون. وبالتالي، فقد قفز المجتمع السياسي على هذه "الفرصة" وأبدى تضامنه الكامل مع المعلمين مبعدا الاهتمام عن معاناتهم المستمرة منذ عقود. فرواتبهم هي الأقل في أوروبا الغربية، وإمكانياتهم التقنية كذلك، ومدارس الضواحي المهمشة تعاني من نقص الإمكانات، وكلها عوامل تناساها وزير التربية بعد الفاجعة، ولم يجد ما يهرف به إلا أن يوجه أصابع الاتهام إلى مثقفين يرفضون التنميط والإقصاء، ويحاولون فهم المشاكل التي يعاني منها جزء هام من المجتمع المحلي. 

 

(*) قبل أن أعطيك الكلمة  أستاذ بن الشيخ، أود أن  أضيف أنه خلافا للأستاذ سلام أنت واقع بين نارين إحداهما أقوى وأحرق ـ إن صح التعبير ـ بحكم استياء الطرف الإسلامي الرسمي بوجه عام والجزائري بوجه خاص (مسجد باريس مثلا) من موقفك الناقد بشراسة لأداء هذه المؤسسة، فضلا عن عدم رضى عدد كبير من المهاجرين المسلمين على مغالاتك الغارقة في أكاديمية نخبوية ومتقدمة  تحتمي بها للتغطية على الاعتبارات السياسية والإيديولوجية العامة التي تقف وراء ما يسمونه بمحاربة الإسلام واستفحال الإسلاموفوبيا بشكل مقصود ومبرمج، ومؤخرا مثلا لم يمر استقبال الرئيس الفرنسي لكم مرور الكرام قبل استقبال ممثلين عن المجلس الفرنسي لمسلمي فرنسا المنقسم على نفسه بحكم عدم تطابق مواقف ومقاربات مسؤولين جزائريين ومغاربة وأتراك وأفارقة حيال ما يسمى "بإسلام فرنسا". ما رأيك، وهل تشعر اليوم بأزمة نفسية ووجودية غير مسبوقة لا تحسد عليها؟
ـ نعم وحتى أشخص الأمر أقول إننا فعلا اليوم بين نارين من الجهتين كما أشرت إلى ذلك، وكما قلت بحكم معرفتك لواقع الإسلام والمسلمين في فرنسا فأنا فعلا في موقع لا يحسد عليه أحد. الأكاديمية التي يتحدثون عنها بالصيغة التي جاءت في سؤالك، هي الأكاديمية المطلوبة في سياق فكري بامتياز، وليست الترهات والخزعبلات الضيقة التي تغطي على تاريخ الإسلام الحضاري النير والمنفتح هي التي يمكن أن تخرج المسلمين من التحديات الخطيرة التي يواجهونها على أكثر من صعيد داخليا وخارجيا. أكاديميتي المفرطة التي تعد عيبا في نظر المسطحين فكريا، وحدها التي تكشف عن التراث  الديني الإنساني لإسلام الأصمعي والتوحيدي ومسكويه والأدبيات والأخلاقيات الفكرية المشرعة والمنفتحة على توجهات وحساسيات الأنسنة التنويرية التي طمست وأخرجت من الذاكرة الإسلامية، وأنا لا ألتفت لهؤلاء الذين يقزمون الإسلام ويعملون على تشويهه وأمضي مقتنعا بسلامة قناعاتي بإرادة لا تلين، ورغم كل ما نناله من قدح وتطاول من ممثلي النارين إسلاميا وفرنسيا، أمضي عازما أكثر من أي وقت مضى على أداء مهمتي كمثقف مسؤول يحمل شعار بيت المتنبي: "على قدر أهل العزم تأتي العزائم  وعلى قدر أهل الكرام تأتي المكارم... وتكبر في عين الصغير صغارها، وتصغر في عين العظيم العظائم". من جهة أخرى، أنت محق أيضا حينما تشير إلى تعرضي لحجم أكبر من اللهيب مقارنة بالأستاذ سلام بسبب نشاطي في مؤسسة عمومية تصب في صلب الصراع الملموس وغير النظري الخالص من وجهة نظر فكرية وأكاديمية كما هو الحال حينما يتعلق الأمر بالأستاذ سلام، ناهيك عن خلافي مع جهات تدعي تمثيل الإسلام مغاربيا وجزائريا وفرنسيا في الوقت نفسه، وخلافا لما يتصوره البعض فأنا لا أتقاضى أجرا على رئاستي مؤسسة "إسلام فرنسا"، وأعمل بحرية واستقلالية، ويمكنني الاستقالة في أي وقت أو ظرف، وهدفي من نشاطي المواكب لعملي الأكاديمي هو استعادة كرامتنا التي أساء إليها مسؤولون لا يفقهون في أمور الدنيا والدين.

 

(*) أستسمحك أستاذ سلام قبل أن أعود إليك أن اسأل الأستاذ غالب من جديد: ما ردك على الذين يقولون إن مقاربتك للتطرف الإسلامي تعاني من خلل تجسده أكاديمية فكرية لافتة لكن طاغية، ويلح صاحبها على إسلام مستنير يتماشى مع تحديات العصر وعلى التحجر الديني التقليدي لكن على حساب الخلفيات الإيديولوجية الإستعمارية التي تتناقض بدورها مع مفهوم الأنوار وحقوق الإنسان داخل وخارج فرنسا (وأعني أساسا هنا حقوق الشعب الفلسطيني)، وتؤكد حقيقة خطاب متطرف مصبوغ حضاريا وثقافيا وسياسيا بروح الهيمنة والسيطرة والظلم؟
ـ ببساطة شديدة أقول إنني أتحدى من يدعي ذلك اللهم إلا إذا كان أصم أكثر من الأصم. لقد توقفت عند كل أنواع الحقائق الاستعمارية التي راح ضحيتها العالم العربي والإسلامي تاريخيا وعلى رأسه الشعب الفلسطيني (وعد بلفور ومعاهدات سايكس بيكو بوجه خاص) ومعاهدات أخرى، وكنت دائما أندد بذلك في محاضراتي وكتبي ومقالاتي وتسجيلاتي المرئية والمصورة، وكل ذلك موثق ولا يمكن الطعن في سلامته. فرنسيا، لم أتردد في التنديد بفرنسا الاستعمارية التي أدارت ظهرها لتاريخ المقاومة والقيم الجمهورية والحضارية في تناقض موصوف مع حقوق الإنسان ومع العلمانية التي لم نطبق حينما كانت الجزائر ترزح تحت نير الاستعمار الفرنسي، ومع كيفية تسييرها الشأن الديني لأغراض سياسوية غير جديدة.  اليوم خطاب أكثر من جهة فرنسية سواء تعلق الأمر بالسياسيين أو المثقفين يصب في صلب الماضي الاستعماري مع المسلمين وغير المسلمين الأمر الذي يؤكد أن قضية التطرف ليست دينية فقط ولا تقتصر على دين معين كما يراد لذلك، وتصريح وزير التربية تصريح سياسوي خاطئ وغير عقلاني عند ربطه التطرف الإسلامي بخصوم فكريين أو سياسيين معارضين  كما هو حال تصريحات من يدعي تمثيل الإسلام ظلما وبهتانا كما أسلفت الذكر، ولا يتردد في تبرير الجرائم المرتكبة باسم الإسلام، وباتهام وتشويه كل من يعارض تصوره ومقاربته لقضايا أعمق من ظاهرها الديني العام.

 غالب بن الشيخ  
















(*) أستاذ سلام..
ـ مبدئيا، لا غبار على كلام الأستاذ بن الشيخ، وأضيف وأؤكد فقط على أهمية التوقف عند العلاقة الخاصة لفرنسا مع الإسلام كما أسلفت من خلال تاريخها الاستعماري وإدارتها المركزية للمسألة الدينية في المستعمرات. كما تلعب مدرسة استشراقية تقليدية دورها في هذا التوجه. ورغم الخطاب الإعلامي المتعفن عبر قنوات خاصة معينة والذي يمرر خطاب الكراهية والتسميم على أيدي أشباه مثقفين وابتعاد باحثين مرموقين عن العلمية ليدخلوا في جوقة التخويف والترهيب من الضواحي وسكانها، يجب التنويه بكثير من الأعمال الجادة علميا والمنصفة لمسألة المسلمين في فرنسا ومشاكل الضواحي الاقتصادية وسواها. يضاف إلى ذلك أن فرنسا عرفت أكبر عدد من العمليات الإرهابية التي نفذها متطرفون إسلاميون في الغرب ولهذا آثاره على المجتمع وعلى السياسات العامة.

 

(*) أستاذ غالب ما تعليقك فكريا وليس سياسيا بالضرورة أنت الذي استقبلك رئيس الجمهورية إيمانويل ماكرون مؤخرا في اصطياد مسؤولين تابعين ومعارضين له في حقل اليمين المتطرف من منطلق ضيق وخطير يذكرنا بالمكارثية الأميركية التي طاردت ولاحقت الشيوعيين. إنه الأمر الذي يسىء للديمقراطية التي تتباهى بها فرنسا لمواجهة إرهاب غير الديمقراطيين والمرتكب باسم الإسلام، وأعني اتهام أنصار من يسمون "باليساريين الإسلامويين" بتزكية التطرف الإسلامي وحتى بالتواطؤ؟
ـ إنني أدين دون تردد كل أنواع الإنزلاقات او الإنحرافات الخطيرة التي من شأنها أن تؤدي إلى انتصار اليمين المحافظ أو المتطرف على خلفية الصراع السياسوي، وليس من المعقول أن نبتعد عن العقلانية في مقاربة ظاهرة معقدة ومتشابكة تاريخيا وفكريا، ونطلبها من المتهمين بالتطرف دينيا، وأن يسقط البعض في نفس المطب الخطير على النحو الذي يزيد في تأجيج الوضع الذي لم يعد يتحمل أدنى شطط بالنظر إلى ما وصل إليه من انسداد ينذر بعواقب وخيمة على الصعيد الاجتماعي، وهنا أندد بالقنوات التلفزيونية الخاصة وعلى رأسها "سي نيوز" و"بي إفم" اللتين تتاجران بذلك من خلال المراهنة على التطرف المهدد لتماسك المجتمع الفرنسي وعلى التصريحات المتسرعة والمتشنجة كما شاهدنا وسمعنا على لسان وزيرين يحتلان موقعين حاسمين.

(*) هل أستفزك حينما أفترض أن الأمر يعد ظلامية إيديولوجية تكرسها قنوات تفضل استقبال الإمام حسان شلغومي الذي يتحدث فرنسية بائسة باستمرار للدفاع عن العلمانية بغير فكر، وعند استضافتك لا تتردد في تحريف مجرى الحديث نحو الإثارة متجنبة الفكر الذي يفصل بينك وبين الإمام المذكور كما يفصل الله بين السماء والأرض؟
ـ لا أزيد على ما جاء في سؤالك، وأؤكد أنه يمكن فعلا التحدث عن ظلامية إيديولوجية في مجتمع يدعي تمثيل الأنوار، والمجتمعات التي لا تواجه المد الشوفيني والهوياتي المتنامي في فرنسا خلال الأعوام الأخيرة كما مر معنا تاريخيا يمكن أن تشهد انفجارا اجتماعيا، ووحدها مواجهة فكرية وعقلانية وأخلاقية متزنة ورصينة تحول دون ذلك.

 

(*) تعليقك أستاذ سلام.
ـ أعمق كلام الأستاذ بن الشيخ مؤكدا أن التصريحات التي أشار إليها تكاد تكون مخيفة فعلا، ومن الأفضل الامتناع لفترة عن متابعة الإعلام وخصوصًا المرئي الفرنسي، وبالمقابل، الخطر الحقيقي الذي يواجه فرنسا هو زيادة الفجوة في المجتمع. لوبين وحزبها خطيران على كل ما قامت عليه الجمهورية الفرنسية من مبادئ. أما ميلانشون، فلا يمكن مقارنته وحزبه بالتجمع الوطني اليميني لأصحابه من آل لوبين. ميلانشون أقرب إلى الشعبوية المحببة لدى بعض الفرنسيين، لكنه أيضا غريب الأطوار ومهيمن قياديا على حزبه الذي يضم كوادر شابة قادرة على إنعاش اليسار الفرنسي المتداعي. سبق أن تعرضت فرنسا لخطر انتصار لوبين في الانتخابات ليس بسبب شعبيتها بل لعدم اقتراع الآخرين كما يقترع أعضاء حزبها. لكن فرنسا انتفضت ووقفت غالبية الناس في وجه وصولها وأدلوا بأصواتهم جميعا لجاك شيراك والذي حصد حينها ما يقارب 80 بالمئة من الأصوات وهو رقم خيالي في العرف الانتخابي الفرنسي.

 

بن الشيخ: لم أتردد في التنديد بفرنسا الاستعمارية التي أدارت ظهرها لتاريخ المقاومة والقيم الجمهورية والحضارية في تناقض موصوف مع حقوق الإنسان ومع العلمانية التي لم نطبق حينما كانت الجزائر ترزح تحت نير الاستعمار الفرنسي




الانقسامات الجوهرية
(*) إلى أي أحد يمكن اعتبار انقسام الفرنسيين غير المعلن إعلاميا (يتحدث الإعلام عن وحدة في المطلق وخاصة التلفزيون)، نجاحا لخصوم فرنسا ممن تصفهم بالمتطرفين الإسلاميين الذين يعتقدون أنهم بصدد ترهيبها كما أرهبت مواطنيها بإسلام زاحف قد يمكن مواطنا مسلما من الوصول إلى رئاسة الجمهورية مثلما كتب ميشيل ويلبيك في رواية "خضوع"، ناهيك عن دعمها لأنظمة عربية وأفريقية تقمع الإسلاميين وكل معارض غير إسلامي كما تعرفون.
ـ بن الشيخ: إنها وحدة كاذبة والتقسيم أصبح مقصودا اللهم إلا إذا سلمنا جدلا بفرضية وحدة يطلب أصحابها من الشريحة الفرنسية داخل المجتمع الفرنسي الإنسلاخ عن قيمها التي لا تتناقض تماما مع العيش في كنف الجمهورية كما يزعم الكثيرون من معتنقي الأدلجة المنتظمة لأن الحرية والمساواة والإخاء هي أيضا من التعاليم السمحاء لدينهم.

 سلام الكواكبي 
















(*) تقصد الإيديولوجية الديماغوجية.
ـ تماما.
ـ سلام الكواكبي: لا أعتقد بأن هناك انقساما بين الفرنسيين يرتبط بالأزمة الحالية، وإن أردنا التطرق إلى الانقسامات المجتمعية فأنا أحبذ ربطها بانقسامات جوهرية قائمة على عوامل اقتصادية وتوجهات سياسية أكثر من كونها متعلقة بحدث بذاته. هذا لا يعني بأن التعامل مع الأزمة الحالية ليس مختلفًا عليه من جهة لأخرى وليس موضوع انقسام، ولكنني لا أعتبره انقسامًا عامًا يشمل المجتمع بأكمله. أما مواقف بعض الرسميين التي أعقبت الأحداث فلا يمكنني أن اعتبرها أيضا "حربًا ضد من يخالف موقف السلطة" فنحن نتحدث عن دولة ديمقراطية وليس عن دولة عالمثالثية، وموقف بعض الوزراء كوزير التربية أو وزير الداخلية جوبه بأنهار من الانتقادات ومن الإدانات. هي مواقف سياسوية لا تتوافق حتى مع ما أوضحه الرئيس ماكرون في حديثه الأخير لقناة "الجزيرة". الهوة واسعة بين "وعي" الرئيس، وأنا لست هنا لأطلق أحكام قيمة، وأعتبره وعيًا محمودًا، من جهة، وبين لا مسؤولية بعض مسؤوليه في مغازلة الخطاب اليميني المتطرف السائد. الترهيب من "زحف" الإسلام الذي يحلو للمتطرفين اليمينيين التعبير عنه دائما، يحلو أيضا للمتطرفين الإسلاميين توظيفه كما نرى في بعض منابر المساجد العربية وفي وسائل التواصل الاجتماعي. حزب التحرير مثلا نظم تظاهرة في رام الله الفلسطينية بإذن من الجيش الإسرائيلي ليدعو إلى "فتح باريس". هذه ظاهرة ربما ثانوية، لكنها يا للأسف تهيمن على وعي البسطاء. أما دعم الحكومة الفرنسية لديكتاتوريات عربية وأفريقية، فأعتقد بأن الأمر يحتاج لتوسع كبير في شرح ماهياته ولكنني بعجالة أقول بأنه يدخل ضمن المدرسة الاستشراقية التقليدية التي تهيمن على صناع القرار أو أغلبهم وتعتقد، بالتزاوج مع واقعية هوبير فيدرين السياسية، بأن الاستقرار ومنع الهجرة ومكافحة الإرهاب تعتمد كلها على قيادات حازمة. أما موضوع حقوق الانسان والديمقراطية، فيبدو أن لديهم قناعة تعززها بعض كتابات جيل كيبيل وتلامذته، بأنها غير مؤهلة لها، وربما لأمد طويل.


(*) هل من إضافة أو توضيح أستاذ بن الشيخ؟
ـ شخصيا أعتقد أن الكفة تميل نحو انقسام تمثله أغلبية هوياتية متطرفة تمثلها مارين لوبان وابنة أختها ماريون التي تنافسها بشراسة على النحو الذي أصبح يشكل رأيا عاما مؤثرا على مستوى النخب المتصارعة سياسويا أو على المستوى الاجتماعي العام. التاريخ سوف لن يحفظ القادة الذين يراهنون على مصالح سياسوية شخصية كما نرى ذلك اليوم، بل يحفظ الذين ينقذون المجتمع من السقوط في الهاوية متحدين الرأي العام الواقع تحت تأثير ديماغوجي ودوغمائي في الوقت نفسه.

 

(*) وهذا يعيدنا مجددا إلى حديثي عن خطر الهجوم على يساريي اليسار أو اليسار المتطرف الذي يزكي التطرف الإسلاموي أو يبرره كما مر معنا، بدل التنديد بالتيار الذي وظف الهجرة تاريخيا كمرادف للخطر الإسلامي، وهنا أعتقد أنك متفق من حيث المبدأ والجوهر مع الأستاذ سلام. نستمر في تعميق وتشريح مختلف مظاهر وخلفيات ومواقف وأبعاد القضايا المطروحة وآفاق مستقبلها بطرحي سؤال: كيف تريان إمكانية تجاوز فرنسا "لحرب" فرضها عليها الإسلاميون كما يقال إعلاميا وسياسيا هذه الأيام وأكثر من أي وقت مضى؟
ـ الكواكبي: لا أحبذ اعتماد تسمية الحرب ولكن هناك أزمة فعلية لا يمكن لخطاب حاد ولتصرفات غير مدروسة ولردود فعل كلامية قاسية أن تجد لها حلا. العودة إلى لغة العقل وإلى الغوص في ملفات عدة تتشعب بين الأمني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، ولكنها أيضا تعيد النظر في سياسات خارجية لطالما أدت من خلال تحالفات معلنة أو غير معلنة مع حكام مستبدين، إلى تعزيز حظوظ التطرف الديني الذي يمكن له أن يجنح إلى الإرهاب باستقطاب مجموعات محبطة وفاقدة للأمل بتحسين ظروف حياتها. فردود الفعل غير المسؤولة التي يزخر بها الاعلام الفرنسي حاليا تريح المتطرفين، بل وتفرحهم، لأنهم على ثقة بأنها ستزيد من "شعبيتهم" لدى بعض الفئات الضعيفة نفسيًا وتكوينيًا. تجاوز ما تسميه "بالحرب" يتم عبر المدرسة والمجتمع المدني والمشاركة وليس الإدماج القسري. إن الاندماج الذي تتحدث عنه كل الألسن في فرنسا لا يمكن أن يتم بفرض صيغة ما على طرف معين بل بالتشاركية وبعيدا عن أية إهانة. أعتقد أن للمدرسة الجمهورية دورا كبيرا كما ذكرت ولكن ليس بالصيغة التي يوجهها إليها الوزير الحالي الذي يُنمّط الباحثين والبحث العلمي متأثرًا بلغة اليمين المتطرف. لقد أهملوا التعليم، وخصوصا في المناطق الفقيرة، زمنًا طويلًا ولربما يدفع المجتمع ثمن ضعف المؤسسة التعليمية النسبي وانتشار دور للمؤسسات التعتيمية.

بن الشيخ: نحن نقترب شيئا فشيئا من الحرب التي يريدها من يراهنون على نار سيكولوجية الدهماء أو الغاشي كما نقول في الجزائر باللغة الدارجة، أي شحن النفوس بروح شعبوية تؤجج العواطف وتقتل المسافات العقلية الواجبة حيال قضايا تقتضي التبصر والحكمة وتجاوز قشور الأزمة ومقاربة لبها وجوهرها، وتكمن مفارقة الجهات المتطرفة إيديولوجيا والتي تلعب بمشاعر البسطاء فكريا من عامة الناس في تأجيجها نار الحرب متحدثة في الوقت ذاته عن حرب تشن ضدها، وبهذه الطريقة تشحن الخواطر ويدفع بها نحو التصرفات الطائشة والمتهورة والتعابير غير المسؤولة ذات العواقب الوخيمة على السلم الاجتماعي والكلام مبدأ الحرب كما هو معروف.

 

(*) ما هي قراءتكما لحديث الرئيس الفرنسي لـ"الجزيرة" بعد خطابه أثناء حفل تأبين الأستاذ صمويل باتي، والذي يبدو أن (تعديلا في شكل تدارك) قد ميز تصريحاته قبل رفض ثلاثة قساوسة الإساءة المتعمدة لمشاعر المسلمين باسم حرية التعبير، وبروز توجه إعلامي ينم عن تغيير تكتيكي في الخطاب السياسي الفرنسي العام.
ـ الكواكبي: في جوابي هنا سأمارس دور محامي الشيطان عن قناعة، فعلى الرغم من انتقادي الشديد لتصريحات سبقت ولمواقف الساسة الفرنسيين وللسياسات العامة الفرنسية التي تعالج هذا الملف، إلا أنني أنظر إلى مقابلة الجزيرة بشكل مختلف نسبيا. لا أعتقد أبدا بأن ماكرون تراجع فيها عن مضمون خطابه ولكنه سعى لتوضيح ما تم تشويهه عمدًا من قبل بعض وسائل الإعلام. فخطابه في السوربون أثناء التأبين لم يشر أبدا إلى الرسوم المسيئة. إن ترجمة الخطاب بشكل يدفع إلى فهمه وكأنه تأكيد على الالتزام بدعم ونشر الرسوم المسيئة هو أيضا رغبة من طرف مقابل في تأجيج اشتعال الفتنة. لقد صاغ مداخلته بعناية وبحنكة بحيث أوضح للطرف المقابل بديهية ربما حاولت الرؤوس الحامية تجاهلها وهي بأنه ليس لرئيس السلطة التنفيذية في بلد ديمقراطي أن يسمح أو أن يمنع صحيفة من نشر ما تريد، بل هو القضاء والقوانين المرعية من تعالج وتؤطر هذا الملف. وحقيقة، فإن بعض المسلمين، ونتيجة حياتهم السياسية المقيدة ونتيجة خضوع مجملهم لأنظمة شمولية أو ديكتاتورية، يعتقدون بأن الحاكم هو الذي يمنع أو الذي يسمح كما هو الحال في بلدانهم.

بن الشيخ: بغض النظر عن مدى الوصف الذي يمكن أن يعطى لحديث الرئيس لقناة "الجزيرة"، أعتقد أن اللبس الذي أضحى خطأ نتج عند حديثه يوم الثاني من أكتوبر/ تشرين الأول في ضاحية "لي مورو" عن أزمة الإسلام في المطلق. فمن جهة لا يمكن قول ذلك لأن الإسلام كدين طقوس ومعتقد وروحانيات يعرف إقبالا كبيرا من غير المسلمين، وفي المقابل يمكن اعتبار الإسلام في أزمة من منطلق الوضع المزري العام الذي يعيشه المسلمون من شمال نيجيريا مرورا بجزيرة جولو وصولا إلى القرن الأفريقي. الخطأ الثاني كان نتيجة قوله أثناء تأبين الأستاذ باتي "لن نتنازل عن الرسومات الكاريكاتيرية" الأمر الذي فسر بأنه مع الإساءة للرسول الكريم وكان عليه الإشارة إلى ذلك بالحديث عن التقليد الفرنسي القديم الذي يسمح بنقد الأديان والازدراء بها.

 

سلام الكواكبي: أسلوب المهل والتهديد المبطن لم يؤد إلى أية نتيجة في الملف اللبناني، بل على العكس، فشلت المبادرة الفرنسية بعد انفجار بيروت في بداية آب/ أغسطس الماضي. يبدو أن الأسلوب ذاته يتكرر مع مسلمي فرنسا.



(*) ولهذا تحدثت عن تدارك في حديثه لـ"الجزيرة"...
ـ بن الشيخ: نعم هذا صحيح، ومهما يكن من أمر، أعتقد أنه كان من الأفضل لو تحدث لقنوات عربية أخرى.

 

"تهديد" ماكرون

(*) أخيرا ما تعليقكما على "التهديد" الذي وجهه الرئيس الفرنسي لمسؤولي المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية بعد استقبالهم الأربعاء الماضي بهدف ضرب الحصار دون هوادة على المتطرفين الإسلاميين. فالرئيس أمهلهم 15 يوما للموافقة على تأسيس مجلس وطني للأئمة وقبول ميثاق قيم الجمهورية بغرض العمل مستقبلا باعتمادات رسمية لن يحصل عليها إلا من وقع على شروط ممارسة الإمامة وفق المقاربة العلمانية الفرنسية للممارسة الدينية. المقاربة الجديدة وغير المسبوقة تتضمن عددا من البنود القانونية التي تفرض عقوبات على الخارج عنها، وهي البنود التي تضع حدا لتدخل البلدان العربية والإسلامية في تسيير الشأن الإسلامي بفرنسا حسب ماكرون ولنشاط أئمة قدامى لا تتوفر فيهم الشروط التي يفرضها المنهج العلماني الفرنسي؟
ـ الكواكبي: أسلوب المهل والتهديد المبطن لم يؤد إلى أية نتيجة في الملف اللبناني، بل على العكس، فشلت المبادرة الفرنسية بعد انفجار بيروت في بداية آب/ أغسطس الماضي. يبدو أن الأسلوب ذاته يتكرر مع مسلمي فرنسا. من المفروض أن العاقل لا يلدغ من جحره مرتين، وعلى رئيس الدولة أن يبتعد عن السياسة الاستعراضية قصيرة الأمد، وأن يسعى إلى بناء سياسات عامة تهدف إلى تجاوز الأزمة عبر التشاركية والاستماع للمختلفين في الرأي وعدم استخدام التهديد مهما كان لطيفا. ويبدو للأسف أنه اختار طريقة مختلفة. وفي العودة إلى المطلوب من ممثلي المسلمين الفرنسيين، فقد كان جواب إمام مدينة بوردو (طارق عوبرو)، وهو أحد عقلاء الإسلام الرسمي الفرنسي، قاطعا في رفضه هذا الاقتراح، وسيشكل هذا الموقف بداية شرخ بحيث لن يبقى في صف الخطاب الرسمي إلا أشخاص يطيب للمؤسسة أن تعتمدهم كممثلين للمسلمين هم على مستوى ضحل من المعرفة وحتى من القدرة على التعبير اللغوي الصحيح مما سيزيد من شعور المسلمين بالتنميط وبالإقصاء، وبالتالي سيعزز من التطرف والتقوقع. وهذا تأكيد جديد على أن الرابح من هذه السياسات هم الإرهابيون الذين نجحوا في تعميق الشرخ المجتمعي وتطرف السياسات الرسمية وتكريس الشعور بالتمييز لدى مجموعة من المنتمين للدين الإسلامي في فرنسا.
- بن الشيخ: أتفق مبدئيا بوجه عام مع الأستاذ سلام لأن على الدولة عدم التدخل في الشأن الديني وفق قانون عام 1905 العلماني، كما أنه من غير المقبول مبدئيا أيضا أن تتوجه السلطات العمومية بلهجة الافتراس للمسؤولين عن الديانة الإسلامية لتأسيس في ظرف قصير جدا مجلس وطني للأئمة. أضيف كعارف متخصص ومواكب لكل التطورات المستجدة ولماضي نفس المسؤولين المسلمين المعنيين أو من سبقهم، أنهم لم يفعلوا شيئا منذ ثلاثة عقود. الأخطر من ذلك، يتمثل في مناورة بعضهم بروح فاسدة ومصلحية نفعية وشخصية للحيلولة دون بروز هيئة مكونة من أعضاء ومسؤولين يتمتعون بالجدية والكفاءة والنزاهة والصدق. يمكن هذه المرة في ضوء تداعيات الهجمات الإرهابية الأخيرة التي زادت في هشاشة المجتمع الفرنسي على الصعيدين الصحي والاجتماعي العام تمكين الدولة من القيام بدور فعال وحقيقي يدفع المسؤولين المسلمين إلى الارتفاع لمستوى الرهانات الصعبة الراهنة، وانتهاز فرصة السياق الخطير غير المسبوق للمبادرة لمسار فعال وعملي.

(انتهى)

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.