}

الدخول الأدبي الفرنسي: زخم إبداعي رغم تراجع النشر

بوعلام رمضاني 11 سبتمبر 2023
تغطيات الدخول الأدبي الفرنسي: زخم إبداعي رغم تراجع النشر
ارتفاع أسعار الورق حدَّ من طباعة الكتب (فرانس برس)
في مجتمع تعد فيه القراءة حاجة حيوية في كل الأحوال، في أيام السلم والحرب والوباء وفي العافية، وفي ظل البحبوحة، أو التضخم الذي يحد من الاستهلاك المادي وغير المادي، يمكن للكتاب أن يتأثر بتحديات اجتماعية واقتصادية وتكنولوجية، لكن التأثر لا يبلغ المستوى الذي يصبح فيه الكتاب مستحيل المنال، أو يغيب كليًا في الحياة اليومية للمواطن. والدخول الأدبي الفرنسي الذي يتابعه كاتب هذه السطور منذ أكثر من ثلاثة عقود يؤكد هذه الحقيقة التي تجعل من بلد موليير حالة ثقافية فريدة من نوعها، وهي الحالة التي تستمر رغم هبوب عواصف سياق اقتصادي خانق أتى على أخضر ويابس النشر والكتاب بشكل غير مسبوق منذ بداية القرن الجاري.


تراجع تاريخي
لا أدل على صحة ذلك من إجماع كل المنابر الإعلامية الثقافية وغير الثقافية بكافة توجهاتها على تراجع تاريخي ضرب مشهد النشر والكتاب بسبب أزمة فرضت نقصًا في عدد الكتب التي يبدأ نشرها في نهاية الصيف حتى مطلع الخريف قبل موعد أعراس الجوائز الأدبية الشهيرة. الأزمة الاقتصادية تركت قناة "بي إف إم بزنس" الاقتصادية تصف الدخول الأدبي الفرنسي بالمحتشم، بسبب تناقص عدد الإصدارات مقارنة بالعام الماضي وقبله بكثير. العدد الذي ضاق مقارنة بالماضي لم يمنع نشر عشرات الروايات الجادة والملهمة إبداعيًا، ونشر 466 رواية بين منتصف أغسطس/ آب ونهاية أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، حقيقة ناطقة بتراجع كمي مقارنة بعام 2010، الذي عرف نشر 700 رواية في مثل هذا الوقت. القناة الفرنسية ذات الخلفية اللونية الزرقاء أكدت ما ذهبت إليه مجلة الكتب الأسبوعية ـ المرجع الإعلامي الأول في مجال النشر ـ أن تراجع الإصدارات التي تتقدمها الروايات قد بلغ نسبة 5 في المئة مقارنة بالعام الماضي.


غلاء الورق والورق المقوى
الصحافي الاقتصادي إريك دبويي، الذي يشتغل في المجلة المرجعية المذكورة المتخصصة في سوق الكتب والنشر بوجه عام، كان ضيف القناة المذكورة في حصة "سهرة طيبة" (الحصة تقدم بتعبير شكسبيري، أي "غود إيفنينغ")، يعيد سبب التراجع المذكور إلى عاملي ارتفاع أسعار الورق العادي، والورق المقوى، الأمر الذي فرض على الناشرين الحد من الإنتاج بسبب غلاء تكاليف الطبع. قال دبويي شارحًا تحليله: "منذ عامين، أصبحت هذه المشكلة تؤرق الناشرين بسبب التزايد المخيف في نسبة سعر الورق والورق المقوى الذي ارتفع من 30 في المئة إلى ثمانين، وهذا الارتفاع لا يسمح لهم بتداركه بسعر البيع، الأمر الذي يفسر نقص الإنتاج". الصحافي الاختصاصي أضاف يقول إنه رغم تراجع القاطرات المتمثلة في أصحاب الكتب الأكثر رواجًا وقدرة على بلوغ القمة، والتي تدفع بآخرين أقل شهرة إلى مجاراتها، يبقى واقع النشر الفرنسي يتمتع بصحة جيدة. وكتاب الجيب أنقذ الموقف (أمر يؤكد صحة الاستراتيجية التي دافع عنها الناشر كمال قرور في الجزائر كما رأينا معه في حديث نشر مؤخرًا)، وبلغت مبيعاته العام الماضي في فرنسا حسب معهد "جي إف ك" (أسس عام 1985 ويعنى بتحليل المعطيات ومعرفة حركة الأسواق والإستهلاك)، 81 مليون نسخة مقابل 78 مليونًا للكتب الكبيرة الحجم، علمًا أن كتب الجيب تجلب نسب ربح ضئيل مقارنة بالثانية. المراهنة على الكمية في بيع كتب الجيب لا تعني التضحية بالجودة، حسب سيلين مايار، صاحبة مكتبة في مدينة "أنجيه". وقالت هذه السيدة لوكالة الأنباء الفرنسية: "القراء غير الميسورين يعرفون كيف يختارون في كل الحالات مثلهم مثل الميسورين، وغير مستعدين لشراء كتاب صغير وسيء رغم رخصه. الميسورون لا يشترون كتابًا جيدًا كبير الحجم لأن إمكاناتهم تسمح بذلك، ويشترطون القيمة الأدبية والفكرية للكتاب الذي سيعرف طريقه نحو مكتباتهم الشخصية". و"لأن الإعلام المختص يروّج حتمًا لعدد قليل من الكتاب الكبار الذين أكدوا مواهبهم من قبل، لا يمكن للصاعدين إلا تأكيد نوعية جديدهم المنافس للقدامى بسرعة لتفادي السقوط في مستنقع النسيان"، أضافت تقول صاحبة المكتبة للوكالة الفرنسية.


زخم نوعي

رواية "سارة... سوزان والكاتب" للروائي إريك رينهاردت، ورواية "حرارة إنسانية" للروائي سيرج غونكور

 




تراجع عدد الإصدارات الفرنسية الذي سيمتد حتى حلول الخريف حقيقة غير تراجيدية بالمعنى الكامل لكلمة تراجيديا، وليس هناك موت رجل، كما يقول الفرنسيون. رغم الوجه الشاحب لموعد ثقافي يصنع الفرادة الإبداعية في فرنسا مقارنة بإشراقات عرفتها السنوات السابقة، النقص الكمي النسبي (466 رواية مقابل 490 العام الماضي، من بينها 321 فرنسية تشمل 74 رواية جديدة، و145 أجنبية) لا يمكن التشكيك في تقليد فرنسي متجذر في تاريخ مقاربة لا يعاد النظر فيها كمبدأ تنموي لروح وعقل المواطن ووجوده المتوازن. لا أدل على ذلك من الزخم الإبداعي النوعي الذي يفسر ببروز روائيين جدد كلهم موهبة، وروائيات صاعدات كلهن استعداد لاختراق صفوف زملاء قدامى. القدامى نسبيًا مقارنة بالجدد كثر، وتراهن عليهم القنوات التلفزيونية لرفع مستوى المشاهدة، خلافًا لصحف ومجلات متخصصة تفضل إبراز جديد الوجوه الروائية الواعدة غير المحسوبة بالضرورة على دور نشر شهيرة، مثل الرائدة غاليمار، التي أصدرت وحدها 25 رواية. ما بقي من الشيوعيين الفرنسيين في المجال الإعلامي الممثلين في صحيفة "لومانيتيه" يصرون على محاربة الرأسمالية في مجتمع يقال إنه غير رأسمالي متوحش حتمًا. هذه الصحيفة الصامدة ربطت بين عامل سيطرة دور نشر كبيرة بشكل يحول دون بروز تنوع مفيد لعامة وخاصة القراء وبين سياق تأزم عام، ووقفت كما كان منتظرًا عند سعي رجل الأعمال فانسان بولوريه على تكريس الاحتكار حتى في مجال النشر والكتاب بالتزامن مع احتكاره الإعلامي. حقيقة المتاجرة بالكتاب، تأزم إضافي في تقدير مسؤولي صحيفتي "لوموند" التي لم تعد يسارية في رأي كثيرين، و"لومانيتيه" الشيوعية الحية التي ترزق رغم كل ما يقال عن نهاية التيار الذي تمثله. الرأسمالي المؤثر سياسيًا وإعلاميًا، والقريب من اليمين المتطرف، والواقف وراء بروز إريك زمور، حسب معارضيه اليساريين، يمثل سيطرة احتكارية تنافي التنوع الواجب ضمانه في مجتمع ديمقراطي يجب أن ينفتح ثقافيًا على كافة الشرائح الاجتماعية. الرجل المخملي صاحب مؤسسة "فيفاندي" الضخمة اشترى حسب الصحيفة الشيوعية الحمراء والصحيفة الشهيرة الوردية مؤسسة هاشيت للنشر الضخمة هي الأخرى، كما اشترى الملياردير الآخر دنيال كريتنسكي التشيكي الأصل مؤسسة "إيدتيس" للنشر. ليس الورق وحده المتسبب في تراجع تاريخي لعدد الإصدارات، فالحرب الأوكرانية دخلت على الخط كعامل مواز انعكس على تضخم عام، ناهيك عن الاحتكار الزاحف ممثلًا في نشاط وأملاك أحد أغنى رجال الأعمال في فرنسا.

ساركوزي " النشاز" البارز

ساركوزي وميشال ولبيك مثيران للجدل في موسم الدخول الأدبي في فرنسا


الرئيس اليميني السابق نيكولا ساركوزي صاحب قانون "الاستعمار الإيجابي"، في الجزائر، وفي غيرها من المستعمرات (2005)، والذي يكتب مثل كل معظم الرؤساء والوزراء الفرنسيين، حشر نفسه عنوة في موسم الدخول الأدبي بتوقيعه كتابه السياسي الجديد "زمن المعارك" في مدينة بياريتز الساحلية الجنوبية الخلابة يوم الجمعة الخامس والعشرين من أغسطس. استطاع ساركوزي أن يبرز كنشاز ضامنًا وجوده الإعلامي المعتبر، ومعوضًا نسبيًا عن أفوله السياسي في عز دخول أدبي روائي بامتياز. في كتابه الثالث، بعد "شغف"، باع بقوة الجزء الثاني من كتاب تجربته في الإليزيه في عدد من المدن الفرنسية الجنوبية، بعد أن نشر جزءه الأول تحت عنوان "زمن العواصف". في كتابه، جدّدّ دعمه لجيرار درمان، وزير الداخلية والمرشح للإنتخابات الرئاسية لعام 2027، وصاحب كتاب "الإنعزالية الإسلامية... بيان من أجل العلمانية"، والمعروف بمقاربته الأمنية الصارمة نفسها في محاربة ما يسمى في الأدبيات السياسية الفرنسية بانحراف شباب فرنسي من أصول مغاربية. لا وجود هذه السنة لاسم استقطب الأضواء الإعلامية والنقدية مثل العام الماضي بفضل إبداع فرجينيه ديبونت، رغم محاولات قنوات تلفزيزيونية مثل "تي إف 1 الخاصة" إبراز إسم إميلي نوتومب المكرّسة إعلاميًا منذ سنوات عدة. هذه القناة، أفردت حيزًا لافتًا لصاحبة رواية جديدة تحمل عنوان "بسيكو بومب" اليوناني المصدر، أو "مرشد الأرواح" الصادرة عن دار "ألبا ميشيل".




وتحكي نوتومب فيها تداعيات صدمة تسببت حسب زعمها في نحافتها إثر اغتصابها في بنغلاديش في نهاية السبعينيات، حينما كانت تبلغ الثانية عشرة من عمرها. هذه الروائية البلجيكية التي تحتل مكانة إعلامية لامعة، قالت إن ميشال ولبيك لا يشكل اسمًا روائيًا فريدًا من نوعه كما يذهب إلى تأكيد ذلك كثير من الإعلاميين التلفزيونيين، فقائمة الروائيين المتميزين إبداعيًا تضم كثيرين في هذا الدخول الأدبي من بين القدامى والجدد الصاعدين على السواء. الروائية المعروفة بسرد ذاكرة حميمياتها المتنوعة قالت في حديث لمجلة "هي" النسوية: "تعرضت لكل ما لا يمكن تصوره جنسيًا وأنا في أعماق الماء. لقد اعتقدت أنني سأموت، وأمي هي التي أنقذتني بعد أن استنجدت بها صارخة".

الأميركية لورا مورات، المؤرخة والأستاذة في جامعة "أوكلا"، أعادت قراءة تحفة "بحثًا عن الزمن الضائع" في روايتها "بروست... رواية عائلية"


الروائية أضافت أن الكتابة سمحت لها بتجاوز الصدمة المرعبة، ومكّنتها من أن تنبعث من الرماد كالعنقاء، ووجدت في طريقها روائيين مكرّسين إبداعيًا، ويمكنهم الظفر بجائزة غونكور، أو إحدى الجوائز الأدبية المرموقة، حسب عدد من النقاد وأصحاب المكتبات، من بينهم إريك رينهاردت، الذي يتألق برواية "سارة... سوزان والكاتب"، التي يبرز فيها علاقة الكاتب بالقارىء (دار غاليمار)، وسورج شالندون الذي يعالج في روايته الجديدة "المسعور" قصة يتيم قاصر هرب من سجن دخله الكاتب الكبير جان جينيه (غراسيه)، وسيرج غونكور الذي عاد في روايته "حرارة إنسانية" إلى الحياة الصعبة أيام جائحة كورونا (دار ألبا ميشيل). فرنسوا بيغودو، فرض نفسه هو الآخر في الدخول الأدبي الجديد برواية "الحب"، التي تناول فيها قصة عاطفية يعيشها معظم الناس في معظم الأحيان على حد تعبيره، وهي القصة التي جمعت خادمة في قاعة رياضية، وجاك الذي تعلم مهنة البناء في ورشة والده (دار غاليمار)، وأنياس دوسارت مؤلفة رواية "قصر أصحاب الريع" ـ اسم حي يقع في الدائرة الثالثة عشرة بباريس، وعادت دوسارت إلى ذاكرتها اليهودية في علاقتها بالهولوكوست (دار نشر لوليفييه)، وكلوييه ديلوم مؤلفة رواية "المجنونة المسكينة" (دار سوي)، و"آفاق" للوران بينيه (دار غارسيه)، وباتريك دوفيل الذي غاص في روايته "سمسارة" في تاريخ الهند (دار سوي). أما لورا مورات، المؤرخة والأستاذة في جامعة "أوكلا" (جامعة كاليفورنيا، لوس أنجلوس)، فبرزت ضمن الكوكبة المذكورة، وأعادت قراءة تحفة "بحثًا عن الزمن الضائع" في روايتها "بروست... رواية عائلية" (دار روبير لافو). من جهته، ماتياس إينار برواية "العسكري الهارب" غاص بأسلوب وجيز ومكثّف في الحرب والمنفى والإلتزام والحب والتفكير في التاريخ، وماتياس الذي تمتعت بقراءة روايته ""بوصلة" في السنوات الأخيرة، نال بتحفته جائزة غونكور عام 2015 (دار أكت سود). أسماء أخرى لافتة إبداعيًا وغير واقعة تحت الأضواء الإعلامية حتمًا، تصنع الفارق هذه الأيام في باريس جنب الأسماء الروائية المذكورة. ومن بينها أنطوان ووترز، صاحب رواية "الطريق الأقصر" الحافلة بذاكرة ماضي طفولته وشبابه في قرية فرنسية، وهو الماضي الذي قال عنه: "إنه تأكيد على عدم نسيان ما كنا عليه ومن أين نأتي" (دار فاردييه)، و"الساحة الأخيرة" للإيراني الأصل نيغار جوادي، الذي تناول سردية التحاقه بوالده في المنفى (دار ستوك)، و"الكيميائيات" (دار سوي) لسارة شيش والتي كرّمت في روايتها الثالثة الرسام الشهير غويا طارحة سر اختفاء مخه إثر رحيله.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.