}

مثقفو الشاشات والتضليل الإعلامي في محرقة غزة (2ـ2)

بوعلام رمضاني 20 نوفمبر 2023
تغطيات مثقفو الشاشات والتضليل الإعلامي في محرقة غزة (2ـ2)
مظاهرة في باريس ضد الحرب على غزة(18/ 11/ 2023/الأناضول)

دومينيك دوفيلبان غير المعروف عربيًا كمثقف وكاتب وشاعر، والذي اشتهر منذ أن هزّ الأمم المتحدة كوزير للخارجية الفرنسية بخطابه المدّوي ضد الاحتلال الأميركي للعراق، يُعدّ من القلائل الذين يغّردون خارج سرب مثقفي الشاشة الفرنسيّة المجتهدة بكل السبل لتكريس تضليل حوّلها إلى صندوق للدعاية الغبية والعبثية. دوفيلبان تحدث لحظة شروعي في كتابة هذه السطور لإذاعة "فرانس أنفو" العمومية، عن ما يرفضه صقور التضليل الفكري، مثله مثل جان لوك ميلنشون، زعيم يسار اليسار، والمثقف الكبير الآخر المتهم بمعاداة السامية. كما كان متوقعًا، تظاهر كل مثقفي الشاشات وراء أبرز وأشهر السياسيين الفرنسيين القدامى والمخضرمين والصاعدين بحضور الرئيسين السابقين نيكولا ساركوزي، وفرنسوا هولاند، تنديدًا بخطر انتشار معاداة السامية، وليس ضد حرق غزة وإبادة سكانها باسم محاربة الإرهاب. وبعد عودته مباشرة من أوكرانيا بفيلم "أوكرانيا في القلب"، انضم برنار هنري ليفي غير السينمائي إلى طائفة مثقفي شاشات التضليل مزّكيًا خطاب ب. نتنياهو الذي يختلف معه سياسيًا في قضايا عدة، على حد تعبيره. والكاتب اليساري مارك هالتر، الذي تخصص في كتابة تاريخ اليهود، تأسف لغياب الرئيس إيمانويال ماكرون عن مظاهرة مناهضة معاداة السامية.

دومينيك دوفيلبان المثقف ووزير الخارجية الأسبق أحد الرافضين لحملة التضليل الإعلامي في حرب إسرائيل على غزة (9/ 7/ 2020/ Getty)


المثقف في حلة سياسية جان لوك ميلنشون، والذي لم تستضفه القنوات التلفزيونية والإذاعية والصحف والمجلات التي تشن ضده حربًا شرسة، يُغتال إعلاميًا بسبب رفضه تضليل معظم المثقفين والسياسيين المؤيدين لإسرائيل، كما لو أنها الضحية وحدها، رغم اختلافاتهم الداخلية الصارخة. ميلنشون مناهض لدعاية مفادها أن إسرائيل الظالمة تاريخيًا في فلسطين المحتلة، كما يعتقد، هي التي أضحت مظلومة بمجرد تعرضها لهجوم حماس الذي شبّهه مثقفو التضليل بالمذابح التي ارتكبها النازيون خلال الحرب العالمية الثانية ضد اليهود. والرئيس الاشتراكي السابق فرنسوا هولاند الذي صرّح أن الرئيس الأميركي بايدن هو أحسن الرؤساء الأميركيين، دخل بدوره جوقة مثقفي التضليل، وراح يعزف على إيقاعاتهم بقوله للصحافية أبولينير مليرب التي فشلت في مراوغة ومحاصرة دوفيلبان: "ميلنشون يعادي السامية باسم معاداة الصهيونية". هذه التهمة اللصيقة سياسيًا وتاريخيًا باليمين المتطرف المسيحي، أصبحت تنسب أكثر منذ السابع أكتوبر/ تشرين الأول للإسلاميين والمسلمين من دون التفرقة بينهم عند مثقفي التضليل بعد أن أصبح التفوه "بالله أكبر" دليل إرهاب ومعاداة للسامية، وهو التفوه الذي ترك السلطة الفرنسية تمنع في بداية الأمر المظاهرات المؤيدة للشعب الفلسطيني، في خلط متعمد مع حركة حماس. التهمة المذكورة أضحت باطلة في فيلم "يلا يا غزة"، الذي تحدث فيه مثقفون يهود ومسيحيون ومسلمون عن الصهيونية كصنيعة أيديولوجية، يتاجر أصحابها بضحايا الهولوكوست. دوفيلبان، الذي تنبه بحسه الديبلوماسي لفخ صحافية ماهرة في الاستنطاق، أكد أن الحل العسكري الانتقامي الذي ينتهجه نتنياهو لن يضمن أمن إسرائيل، وأن القوة غير المتكافئة التي يروح ضحيتها الآلاف من المدنيين الأبرياء والعزل، لن تحل الصراع التاريخي بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ووحده الحل السياسي الذي يضمن حقوق الفلسطينيين غير منقوصة بما فيها حقهم في القدس الشرقية، كفيل بوضع حد لمأساة حقيقية. دوفيلبان الذي يوظّف كشجرة يتيمة يراد بها التغطية على غابة مثقفي التضليل الإعلامي غير مؤثر دعائيًا، إذا استندنا إلى حجم التضليل الذي يمارسه مثقفو الشاشات عبر كل وسائل الإعلام من دون استثناء، ويفعلون ذلك في شكل مكارثية ناعمة تشن في فرنسا ضد كل من تسول له نفسه تعريف الإرهاب بالشكل الذي ينطبق على إسرائيل، وليس فقط على حركة حماس، وحتى ضد الذي يتجرأ على المقارنة بين إرهابهما على أقل تقدير.

جان لوك ميلنشون زعيم يسار اليسار، والمثقف المتهم بمعاداة السامية (10/ 9/ 2022/ فرانس برس)





مثقفو التضليل لم يفلحوا في إخفاء انحيازهم لإسرائيل إلا في حالات نادرة لا تكاد تذكر، وتمكينهم من تبادل المجاملة والإطراء والدعم أصبح أمرًا مقرفًا يحيلنا على إعلام الأنظمة الشمولية المنسجمة مع أحادية فكرية وسياسية تسمح لرجال أمنيين يلبسون بذلات أنيقة بتوجيه ومراقبة مسؤولي النشرات الإخبارية والحصص الثقافية والفنية والرياضية. شاشات التضليل أصبحت تستضيف هذه الأيام كل من يبرع في تشويه الحقائق، حتى وإن كان من غير المثقفين المعروفين، وكثر هم الضيوف الذين أصبحوا مشهورين كنجوم الموضة والسينما وكرة القدم والتنس. ظهورهم الدوري والمنتظم بوتيرة مفرطة، وتنقلهم من هذه الشاشة لتلك بسهولة لافتة، يتمان لتكرار واجترار خطاب يصب في مصلحة إسرائيل صاحبة "الجيش الأخلاقي" كما يقولون في عز تزايد حرق غزة، ودفن ساكنيها المدنيين تحت ركام بيوتهم باسم محاربة إرهاب واحد أوحد. الحرية التي يتحدثون بها في وطن الأنوار الفكرية والإنسانية والحقوقية بكل أريحية، هي حرية جان مسيحة، القبطي الأصل الذي ولد في القاهرة عام 1970 باسم حسام بطرس، والضيف الدائم في قناة "سي نيوز". هذا الضيف الدائم، أو مسمار الملياردير بولوري، يتجاوز بحدة خطابه الشعبوي إريك زمور، الذي كان من أحد أعوانه إثر هجره تيار اليمين المتطرف التقليدي، وذلك بربطه كل مشاكل فرنسا بالمهاجرين المسلمين "الذين تربوا على معاداة اليهود"، كما قال عمر يوسف سليمان السوري أيضًا. أصبح عمر يوسف بدوره نجمًا تلفزيونيًا ذاع صيته بسرعة مثل عرب الخدمة الأقدم منه بعقود، ورغم تحدثه لغة فرنسية بلكنة عربية لافتة. ولكن مسيحة يعد الأصلح والأنجع اليوم للتأثير على العقول الضعيفة فكريًا، واستضافته بشكل منتظم أمر يؤكد أنه صاحب مهمة يربط صاحبها بين معاداة السامية والمسلمين، ويفرغ اليمين المتطرف من مسيحيته التاريخية المعادية لليهود اعتمادًا على صور نجمة داود المثبتة على عشرات الجدران في مدن عدة، واستنادًا لأخبار الاعتداء على يهود من دون صور وأدلة دامغة، ولتنظير وتلفيق وبهتان مثقفي الشاشات. هذا الضيف الذي يعمل موظفًا ساميًا في وزارة الدفاع حسب تعريف "ويكيبيديا"، يعد أهم ضيف، وأقوى تأثيرًا على الرأي العام مقارنة بالمثقفين التقليديين، وخاصة إذا كانوا من الهادئين الغارقين في التنظير النخبوي المخادع، ومسيحة وحده يضمن كرنفال فرجة تدخل البهجة في نفوس ملايين من الفرنسيين والغربيين الذين أصبحوا مقتنعين بأن إسرائيل الديمقراطية والمتحضّرة تحارب الكافرين بها من الفلسطينيين والعرب والمسلمين المتخلفين والغرباء عن الديمقراطية حسب زعمهم. مسيحة الذي غطى على مثقفي التضليل باعتباره "آلة كلام وتهريج"، يمنع الضيف الناقد لإسرائيل كاستعمار استيطاني من التحدث بحرية، ويشوش عليه ويقاطعه بدعم من صحافي اسمه مورانديني، وهو الصحافي الذي حاصر الناشط السياسي أمين صحة العربي البشرة، بالتعاون مع مسيحة، في مشهد يرقى إلى مفهومي الاستنطاق والترهيب. وباسكال برو، الصحافي الذي يضمن أكبر نسب المشاهدة لقناة "سي نيوز"، الذي ربط بين المهاجرين العرب وبق الفراش في برنامجه الصباحي "ساعة المهنيين"، لم يعد مهنيًا بتحوله إلى قاضي تحقيق يحكم على من يشاء، ويبرىء من يشاء بحرية مطلقة. تنتهي هذه الحرية، عندما تطغى تدخلات الضيوف المؤيدين له على الأقلية التي تجد صعوبة كبيرة في التعبير عن مواقفها المناقضة لمواقفه التي يسعد بها، ويهلل لها مثقفو التضليل.

ليفي مؤيد نتنياهو

برنار هنري ليفي أعلن تأييده غير المشروط لبنيامين نتنياهو وإسرائيل في حربها على غزة (6/ 2/ 2023/Getty)


من الأمثلة الناطقة بتواطؤ المثقفين يمينًا ويسارًا مع الطرح الإسرائيلي للحرب التي تشن ضد غزة، روح المحاباة التي ميزّت مناظرة مزيفة جمعت اليساري والأحمر الشيوعي القديم وبطل انتفاضة عام 1968 الطلابية دانيال كوهين بنديت، أو داني ـ كما يناديه أقرباؤه ـ والفليسوف اليميني الأزرق لوك فيري، وزير التربية الوطنية السابق. خلافًا لما كنا ننتظر من مواجهة فكرية حقيقية تجمع مثقفين متضاربين أيديولوجيًا، أضحى اللقاء نموذجًا صارخًا للتضليل الممنهج في حلة كلها إطراء حميمي متبادل. الاثنان تجاوزا السياق التاريخي للظلم الإسرائيلي الذي أدى إلى اغتصاب الأراضي الفلسطينية، واتفقا ككل مثقفي الشاشات على وصف السابع من أكتوبر/ تشرين الأول بالمجزرة التي لم تحدث منذ المحرقة النازية. اتفق الاثنان على حل الدولتين لوضع حد للصراع الإسرائيلي الفلسطيني من دون الإشارة إلى المسؤولية الإسرائيلية في تعطيل السلام، وعلى تراجع معاداة السامية في صفوف التيارات المسيحية إلا في بولونيا حسب داني، ولم يشر أحدهما إلى اليمين المتطرف الذي غيرّ لهجته حيال معاداة السامية لأغراض انتخابية. الأغراض السياسوية لصيقة فقط في نظر المثقفين بزعيم يسار اليسار ميلنشون الذي صعقهما برفضه وصف حماس بالإرهابية، وبمراهنته على أصوات الفرنسيين المسلمين في الانتخابات الرئاسية. في الأخير ـ وحتى يبديا نوعًا من التعقل مقارنة بمعظم مثقفي الشاشات ـ اتفق الاثنان على عدم اتهام ميلنشون بمعاداة السامية، وافترقا في جو من الرضى العام المتبادل بتوجيه من الصحافي داريوس روشبان، الذي طرح أسئلة تعكس موقفه المنحاز لحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها.




الصحافي نفسه، استقبل لاحقًا برنار هنري ليفي بعد عودته من أوكرانيا بفيلم تسجيلي تحت عنوان "أوكرانيا في القلب". الفيلسوف الذي تحول إلى سينمائي خارج تقاليد السير الفنية المتعارف عليها، أنسى الفرنسيين محرقة غزة، ولبى نداء الرئيس زيلنسكي وقال: "أوكرانيا تحارب من أجل الدفاع عن حضارتنا". ليفي لم يتحدث في الجزء الثاني من الحوار عن فلسطين حبًا فيها، وليذّكر المشاهدين بما يحدث في غزة من تقتيل ممنهج، ولكن لتأييد استمرار نتنياهو في حربه ضد "إرهابيي حماس"، وليس "ضد المدنيين الذين رفضوا في البداية النزوح نحو الجنوب رغم أن إسرائيل قامت بالإجراءات اللازمة لتسهيل تنقلهم"، على حد تعبيره. ليفي الفرنسي، أيد نتنياهو بعد أن شاهد خطابه مباشرة وهو في استديو قناة "أل سي إي" اليمينية التوجه ضد إيمانويال ماكرون، رئيس بلده.
غيوم موريس، الفكاهي الذي نجا من الطرد قبل أن يتلقى إنذارًا من إدارة قناة "فرانس أنتير" الإذاعية اليسارية بسبب مقارنته نتنياهو بهتلر، وجد نفسه معزولًا إعلاميًا مثله مثل ميلنشون. ونجم كرة القدم كريم بن زيما نجا من العزل الإعلامي الذي يقرره مثقفو الشاشات بحكم شهرته العالمية، وإقامته في بلد عربي. والكاتبة الأنثربولوجية فلورنس برجو بلاكلير، صاحبة كتاب "الإخوانية وشبكاتها"، أفردت له وقفة بعد تعبيره عن تأييده لنضال الشعب الفلسطيني. وفي نظرها، "ليس هناك ما يثبت أنه إسلامي، لكنه يمّرر أيديولوجية الإخوان المسلمين في أوروبا كمؤثر افتراضي كبير"!

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.