}

جدوى الشعر في زمن الفجائع.. شهادات ورؤى (2)

أوس يعقوب 13 فبراير 2020
هنا/الآن جدوى الشعر في زمن الفجائع.. شهادات ورؤى (2)
عمل فني لـ التشكيلية اللبنانية هوغيت الخوري كالان
في ظلِّ ما نعيشه اليوم من فجائع أصابت أوطاننا بعد أنْ واجه الطغاة شعوبهم المنتفضة بآلة القتل والترويع والبطش يوم غصت الشوارع الثائرة بالأحرار والحرائر في غير بلدٍ عربيّ، مطالبين حكامهم -الذين أسقطوا معادلة الشعب والحكم العادل- بالحرّيّة والكرامة والعدالة، يصبح السؤال ضرورياً وملحاً عن جدوى الشعر في راهننا العربيّ، وعن مكانة ودور الشاعر، الذي كان قديماً شرارة كل ثورة، خاصّة الآن ونحن نشهد مع الموجة الثانية من ثورات الربيع العربيّ، تحوّلات كبرى في مشهدنا العربيّ سياسيّاً واجتماعيّاً وثقافيّاً.

نفتح ملفاً خاصاً مع عدد من الشعراء والشاعرات من مشرق عالمنا العربيّ ومغربه، وممن اختاروا المنافي البعيدة أوطاناً مؤقتة لهم، سائلين إياهم: "ما جدوى الشعر في زمن الفجائع الذي نعيشه اليوم؟".
هنا الجزء الثاني:

من اليمين : سرحان، بن صالح، الفقيه، سلمان، وسالم مهدي 

















خالد بن صالح (الجزائر): الشعر روحٌ كُبرى تسكنُ الألم الإنساني منذ النَّفس الأول
حيرةُ السُّؤال لا تثنيني عن التمسّك برأيٍ سابقٍ قلتُه في لحظةٍ يأسٍ، أرى أنّها تتمدَّدُ وتقفز بين التواريخِ لُتثبتَ أنّها الأبقى، في زمن الفجائع مُتعدِّدةِ الأوجه. قلتُ، أو كما أعتقد أنّ قوَّة الشعر في هشاشتهِ، وهو لا يحتاجُ إلى مُبرِّر وجود. جدواه في ذاتِه، لا ينتظرُ أحداً ليقرأ، أو آخر ليندهشَ، وهكذا من توابعِ الكتابة، كأصلٍ يتجذَّرُ ويعلُو. أنْ أكتبَ وفقط، هذا هاجسي، أمَّا البقيةُ فلا تتعلَّق إلا بمدى جودةِ ما أكتبُ، وماذا أكتب؟ وهنا السُّؤال يُصبحُ محاكاة جريئة لكلِّ وجعٍ وألمٍ يلامسُنا، لكلِّ حلمٍ كدنا نلمسهُ وتحطَّم، لكلِّ هواءٍ نقيٍّ أردنا أنْ نضمَّهُ لأنفاسنا وتلوَّث، فماذا نكتب؟ نكتب جوعنا للحرِّية، وخيبتنا في كلِّ منعطف، نكتبُ ما نعيشه، بشرطِ التعرية، وفضحِ كلِّ مستور باللُّغة، لغةٍ مشحونةٍ بالعذابات الإنسانية التي لم يعد لَها جغرافيا، ولا زمن، تعبرُنا كسهامٍ غير مرئيةٍ، لكنَّها تُدمي، وتتركُ جراحاً لا تندمل.
الشِّعرُ ليسَ قصائد نكتُبُها، أو نصوصاً تنبعثُ في كتاب؛ هو روحٌ كُبرى، تسكنُ الألم الإنساني منذ النَّفس الأول. ولعلَّني في سنِّ الأربعينَ التي هي تجميعٌ غريبٌ لمآسٍ كثيرة وآمالٍ أقلّ، أكتبُ كجزائريٍّ عن جيلٍ كبُر وسَط الألغام، وانتهى به المطافُ، من ثورةٍ إلى أخرى، إلى الشارع؛ رهانُ الشعوب الثائرة اليوم والمساحة الإبداعيّة الأكثر حيويةٍ في التاريخ، لمَن انتمى إلى الهامش وانتصر لكلِّ فعلٍ ثائر ضدّ المكرَّس والسائد المستبد.

الشعرُ صراطٌ غير مستقيم، يعبرُ الظلمات، لا ليُضيء عتمتها فحسب، بل ليُقلقها، الشعر قلقٌ وجوديٌّ لا تهمّه الجدران الصمّاء ولا الأبواب المغلقة ولا الحواجز، هو تضحيةٌ مسبقة، لمن لا يساوِم على حرّية الإنسان وكرامته، كشاعرٍ أكتبُ عن الخراب الإنساني، كما عن ضفيرة حبيبتي، تلك التي قصَّها الأهلُ بحجّة الفتنة، وفي الحالتيْن، أنا أنتصرُ لمن لا صوتَ له، للمكتومةِ آهتُه، ولأقولَ موقفي؟ نعم الكتابةُ موقفٌ، ولا يهمُّ أنْ لا تكون للشعر جدوى، فالشيفرات التي نتركُها في كتاباتٍ أرَّقتنا، ستُفكُّ في زمنٍ آخر، وستجدُ طريقها إلى ذواتٍ قادمة، وربمّا، بعيداً عن الطّموحِ والخيبة، تمنحُ النازل إلى الشارع المشتعلِ الآن جرعةَ أملٍ في التغيير، فتتحوَّلُ الكلماتُ النائمة في صفحة ديوانٍ، إلى أغنياتٍ وشعاراتٍ تصرخ في وجه العالم، بعد أنْ كانت قد ذابتْ في دم روحٍ ثائرة.

 

رولا سرحان (فلسطين): الشعر تأسيسٌ للواقعِ كما يكون حاضراً ومستقبلاً
إنّ سؤالكم يُحاكي سؤال ما جدوى الرسم في زمن الفجائع، أو ما جدوى الموسيقى في زمن الدمار؟ إنّه سؤال طاردٌ، بمعنى طاردٌ للشعرِ من مدينةِ الفجائع، تماماً مثلما طرد أفلاطون الشعراء من مدينتهِ الفاضلة. إذاً، هو سؤال وجودي علاقاتي، يتعلق بوجود الأشياء وأيهما أكثر قوَّةً على الحضور وطردِ الآخر؛ وبالتالي أيهما أكثرُ قدرةً على البقاء، الفجيعةُ أم الشعرُ؟
نحنُ هنا أمامَ إحالةٍ إلى تعريف الشعرِ والحقيقةِ، وعلاقةِ الاثنين ببعضهما، وهو سؤال ظلَّ محلّ جدلٍ ونقاشٍ، منذ أرسطو وأفلاطون، إلى عصر الرومانسية الأوروبية وصولاً إلى يومنا هذا، هل على الشاعرِ أنْ يُحاكي الواقع، أم يخلقَ من الخيالِ واقعاً، وكيف علينا أنْ نتعامل مع الحقيقة، هل كانكشاف أم كيقين، خاصةً في عالمٍ مختل المعايير، من صفاتِهِ فسادُ القياس، وبروز عالم افتراضي يوازي عالم الواقع، حيث لا محددات واضحة لتعريف ماهية الأفعال أو الأشياء، فالإرهاب يوازي المقاومة، والعملية الانتحاريةُ قد تُعرَّف بأنّها استشهادية أو العكس، والتدين يعرف تطرفاً والجنون صار المعقولَ، كما أنّ مفهوم التأثير أصبح محصوراً في شاشات الهاتف المتنقل، حيث الشعرُ يقرأ هناك، والثورةُ تندلعُ من هناك، وتقديرُ بدايات ونهايات الأمور يأتي من هناك.
وينسحبُ التعريفُ المفتوحُ هذا، على تعريف الشعر، الذي آثر بؤس التكنولوجيا في ماهيته، فأصبح الشعرُ يُشبهُ كلَّ شيء إلّا الشعر، أفقه مفتوح حدَّ أنْ ضاعت ماهيته وشكله وروحه وأنطولوجيته. والأفق هنا ليس مثل ذلك الأفق، الذي ترى المدارس الحداثية فيه مساحةً مفتوحةً للخلقِ والتمرد على القوانين والتأسيس لقوانين أخرى؛ بل هو أفق يخلق الشاعر الافتراضي اللامنتمي الذي يقيسُ حجم إنجازه الشعري بحجم شارات الإعجاب والمشاركة والتعليق عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فيكتفي الشاعر الافتراضي بجمهوره الافتراضي وبمنجزه الافتراضي، وتبقى الفجيعةُ على الأرض وحيدةً.


ولكن الجانب المشرق في الأمر أنّ حالة اختفاء الشعر، وانحساره في عالم الافتراض، إنّما تعني أنّ هنالك إعادة تدويرٍ للعلاقة بين الشعر والواقع، ذلك أنّ نقطة تلاقٍ بدأت تنشأ بين عالم الافتراض وعالم الواقع، حين بدأ الأول يُحرّكُ الثاني، فيزخر الأخيرُ بالثورةِ والشعرِ والمسرحية وكلَّ الفنون، جميعها كأدواتِ تأثير وتغيير وتعبير عن الحقيقة، وتعيدُ تشكيل نمط علاقة الإنسان والشاعر بالأشياء المحيطةِ به، فمثلما أنّ الشعر أو الفلسفة أو عالم الوسائط الافتراضية هي أدوات لفهم الوجود، فإنّ الشعر تحديداً له صلةٌ بين ما هو حاصلٌ ومفترض، فكما يقول هايدغر لا يتعاملُ الشعرُ مع الواقعِ بما هو موجود، بل بما هو مفقود.
لذلك فإنّ الشعر تأسيسٌ للواقعِ كما يكون حاضراً ومستقبلاً.
وهلدرين يقول: "لكن ما يدوم يؤسّسهُ الشعراء".

 

محمد سالم مهدي (السودان): الفجيعة ترسم حدود النصّ الشعري
إنّ الحديث عن جدوى الشعر في زمن الفجائع ينقلنا مباشرة للحديث عن مدى فاعلية الشعر كأداة أدبية تعبيرية في العصر الحديث!
لقد فرض عالم اليوم على المادة الإبداعيّة أنْ تُكتب بوعي كامل ومسؤولية أخلاقية صارمة تجاه المجال العام الذي تُعرض فيه؛ وفي هذا الوضع كان على الشعر أنْ يجد موضعه بين الروايات والقصص والأفلام وغيرها من الفنون التي صار بالإمكان أنْ تؤدي دوراً وظيفياً بالكامل؛ أي أنْ تستوعب نقاش القضايا الحساسة كلّها تماماً كما يريد لها مؤلفها أو منتجها؛ وليس قضايا زمن الفجائع بخارج هذا التصنيف.

فالشعر بهذا المعنى يتحوَّل إلى أداة وظيفية في زمن الفجائع؛ أي أنّ جماليّة النصّ الشعري في هذا الزمن تستمد قيمتها ليس من التقنية والتركيب الفني فقط وإنّما أيضاً من القضية التي تناقشها ومن كونها مقاوِمة؛ فتظهر جماليّة النصّ كلّما اقترب إلى روح ذلك الهم الجماعي.. ذلك الهم القومي؛ لأنّ الفجيعة ليست أمرا فرديا وإنّما حادثة مشتركة وظاهرة عامة والسؤال هنا هل يصبح الشعر شعبوياً زمن الفجائع.. سهلاً مفهوماً مباشراً وواضحاً.
في ظني أنّ قيمة الشعر وجدواه الحقيقية تكمن في تطوير خطابه الفني لأقصى درجة ممكنة حتى يعجز صانعو الفجيعة عن السيطرة عليه.
أما من ناحية الجدوى فهنالك نظرتان؛ تقول الأولى بأنّ الشعر يفقد جدواه ودوره في زمن الفجائع، والثانية عكسها تماما. وأجدني أميل للثانية من حيث المبدأ وأختلف معها في تصورها عن دور الشعر؛ فالشعر ليس خطابا موجها لصانع الفجيعة والظرف الذي أنتجه وإنّما هو خطاب مقصده رفع الذوق الجماليّ للجمهور الذي سيواجه فيما بعد صانع الفجيعة والذي في الغالب هو الطاغية.
وأخلص إلى أنّ الفجيعة مفهوم والشعر حس.. القضية سعي لإثبات حقيقة والشعر تحليق حول الحقائق بأجنحة الأضدّاد والثنائيات.. الشعر معنى لا ينتهي بالوصول ولا يفتر عن المناداة وطرق منازل الجمال؛ بالنسبة لي الشعر صرخة أو زغرودة غنائية غاية في الجماليّة ضدّ فجائع الحياة كلّها وليس فجيعة زمن محدد.

 

مهدي سلمان (البحرين): الشعر سبيل للاحتجاج على الموت
قديماً، حين كان الموت موزعاً بين الحروب والأمراض والجهل والجوع وأسباب أخرى، رأى الإنسان الشعر، من بعيد، في أعماقه، سبيلاً للاحتجاج على الموت، لفهمه أو ترميزه، فخلق من الشعر الديانات والآلهة، ومنها خلق الفلسفة والحكمة، كانت تلك الطريقة الأولى التي اختارها الإنسان لمواجهة (فجائعية الموت) ومنها استطاع أنْ يهدئ من قلقه وتوتره إزاء المجهول الذي يمثله الموت من ناحية، وإزاء طبائع الإنسان الوحشية ورغبته في ترويضها من جهة. تكونت الأساطير من الشعر الكامن في المناجاة/ الصلوات/ الإنشاد/ الغناء، وهي في نظري شكل الشعر الأولي، لمواجهة ما في الحياة من قسوة، ليس مواجهة الراغب في صرع خصمه، إنّما مواجهة الماشي إلى خصمه بصدر مفتوح، وقناعة بالهزيمة، بل اطمئنان إليها. بعد ذلك انحرف الشعر في أزمان كثيرة، نتيجة لاستخدامه وسيلة من أجل غايات محددة، سواء على مستويات الفرد الشاعر، أو الأمة التي تحتضنه، وأيضاً بسبب افتراق الشعر عن روحه الأولى كصلاة، فصار للديانات صلواتها وأناشيدها، وللفلسفة طرقها وأساليبها، وللغناء تياراته ورؤاه، وبقي الشعر، الذي هو أصل كلّ هذا، حائراً مرات، ومستخدماً مرات، وفي فترات قليلة كان يجد نفسه في البحث عن أسئلته الأزلية، إنْ لم يجد من يشوش عليه طريقته الأولى في كونه احتجاجاً على الموت بالذات، أو في كونه محاولة يائسة لفهمه. لكننا اليوم، في عالمنا العربيّ -الذي فيه نشأ الشعر للمرة الأولى كما قد أزعم- نجد أنفسنا مرة أخرى أمام الوظيفة الأصيلة للشعر، أي الصلاة، أمام فجائعية الموت، وعبثيته في هذا الفضاء الجيوثقافي، لا بد أنْ يتجه إنسان هذه المنطقة مرة أخرى نحو الشعر ونحو الصلاة، والإنشاد، الصلاة لا لإله بعينه، إنّما الصلاة باعتبارها مناجاة شديدة العاطفية، شديدة التأمل، شديدة الصدق، وشديدة الذاتيّة، والتي من انصهارها سيتكون ما هو جديد فعلاً في الفلسفة والدين، والتي من انصهارها سيتكون البحث الأبعد فيما يخص طبائعنا كبشر، والتي من انصهارها سيخرج شعر جديد أيضاً.

ولذا فإنّه من الضرورة اليوم لا أنْ نبحث عن الشعر في الذي يقول عن نفسه إنّه كذلك، إنّما أنْ نحدق ونستشعر وجوده في مواقع أخرى، سيأتي الشعر على غير هيئته، وقد يلتبس علينا الأمر أولاً، لكننا سنعرفه، وسنقول إنّه هو، لذا فمن الضروري كذلك أنْ يبحث الشعراء الحقيقيون عن تلك الصورة منه، من هنا تأتي ضرورة الشعر اليوم، من كونه الأمل الحقيقي في صنع فلسفة جديدة، ودين جديد، وإنشاد جديد، وبالتالي إنسان جديد. يتبقى فقط أنْ أنبه إلى ضرورة التركيز، فعالمنا اليوم ليس فجائعياً فقط، إنّما هو زمن الشتات والتشتيت، الأصوات المنبعثة من كلّ مكان عبر وسائل التواصل الحديثة، لا يمكن للصلاة أنْ تتم معها، تحتاج الصلاة للهدوء والتركيز، كما تحتاج الفلسفة والتأمل، وكما يحتاج الشعر، وأظن أنّ ما يعيقنا عن غايتنا هو فوضى الأصوات اليوم، هذا دمٌ يحتاج للتأمل، هذا موتٌ يحتاج للتركيز، هذه فجيعةٌ تتطلب الصمت.

إنعام الفقيه (لبنان): في مواجهة توحش المشاعر

الشعر أداة من أدوات التعبير القائمة بذاتها ولها أزماتها المستقلة عما يدور حولها أو عما تدور هي كغيرها في فلكه فكيف هي الحال بوجود فجائع تكبر وتتعاظم ككرات الثلج كلّما تدحرجت أو تهاوت. لكن كلمة فجائع لا تنطبق على ما يحصل بل أسميها مرحلة من مراحل التغيير التي لا بد أنْ تمر بها الشعوب وهي حالياً في طور مرحلة الانزلاق إلى قاع الهاوية، والمرحلة نفسها تمر بمراحل ثانوية ستشهدها البلاد، واحدة منها مرحلة نمو الوعي الفردي ليتطور إلى تكون الوعي العام الذي يتجاوز كلّ أشكال الانقسامات بين أفراد الوطن الواحد ليتحوَّلوا إلى أنْ يعتبروا أنفسهم مواطنين شاؤوا أم أبوا بحلو هذه الأوطان ومرّها، كأن يتخلى كلّ مواطن فرد عن فكرة الهجرة وعن محاولة البحث عن وطن فردي يختاره ويقرر البدء بمرحلة الانتماء إليه، فإلى أنْ يتنبه كلّ فرد إلى أنّه منتمٍ انتماءً مسلوباً، وإلى أنْ يقدر ويثمن قيمة الانتماء في أعماق ذاته وبينه وبين نفسه وقت ذاك ستولد لديه فكرة الاستماتة من أجل الدفاع عن قيمة الانتماء إلى جذورٍ ووطنٍ وسيعي كم أنهما شرطان أساسيان لاكتمال إنسانيته وكم أنّ الوطن شرط يرتبط ليس بمكان الولادة بل يرتبط بذكريات الطفولة الأنقى الأولى التي تكوّن الذاكرة الأولى والتي كلّما ابتعدنا عنها بالذاكرة يتعاظم الحنين إليها، ويأخذ هذا الحنين عذوبة الإحساس به من استحالة استعادة تفاصيله.

أما من ليس لديهم هذا الشعور فإنّ إنسانيتهم ناقصة بالتأكيد، وإنّ طفولتهم لم تكن طبيعيةً أو صحيةً نفسياً واجتماعياً ليس بالمعنى المرضي للحالة وإنّما بمعنى توتر العلاقة مع مكان وزمان وناس العمر الأول والطفولة، وإلّا فكيف يحنُّ شخص إلى أيام الملاجئ والأقبية وذكريات التشرد كما روى لي صديق شاعر، وهو استطاع لأنّه شاعر أن يعترف بالحنين وأكثر من غيره -الشاعر-  قادر أنْ يتحمّل ويجمّل قساوة الحرمان من طفولة جميلة وسعيدة ويعينه على ذلك تمكّنه وامتلاكه موهبة القدرة على التعبير بأجمل أدوات اللغة والتعبير وهي الشعر وحتى في أيّ كلام عابر تجد متعة في الإصغاء إلى الشعراء.
ومن هنا تتضح وتتعاظم أهمية الشعر من حيث هو الأداة الأقدر على مواجهة توحش المشاعر في عقل وإرادة من يشعلون أعواد ثقاب الحروب، وهو الأقدر على كف يد سارق المؤتمن على أمانات الناس ومصائرهم وأقصد الحاكم هنا. الشعر هو الأقدر على كف يده وإيقاظ ضميره الغائب والميت في أغلب الاحيان، الشعر يخاطب الضمائر والوجدان كالموسيقى والفن والأدب وإلّا لما سُمّي المبدعون بضمائر الأمم والعلماء فكرها.
وفي حالة التردي التي تمر بها الشعوب العربيّة نحتاج إلى متخصصين في علم نفس الشعوب وشعراء ينتسبون إلى ضمائرهم ولغتهم بأمانة ويتأملون في مسؤوليتهم تجاه نصوصهم وأدبهم وأفكارهم ورؤاهم وآرائهم لأنّها مؤثرة في أفكار وتصرفات العام من حيث يقصد الشاعر أم لا يقصد، وهي حالة نضال مستدام في يوميات شعوبنا.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.