}

الكتاب كسلاح ودواء وصديق في زمن كورونا

بوعلام رمضاني 13 أبريل 2020
هنا/الآن الكتاب كسلاح ودواء وصديق في زمن كورونا
لوحة للرسام ليوناردو دافنشي ‏(1452 - 1519)
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي نعى مؤخرا الكاتب الصحافي الكبير جان دانيال بخطاب ينم عن روح قارئ نهم، كما مرّ معنا في مقال سابق هنا، لم يتوجه للشعب الفرنسي يوم السادس عشر من شهر مارس/آذار بخطاب سياسي خالص للتحذير من خطورة تداعيات وباء كورونا فحسب، بل دعا شعبه إلى القراءة، في سياق الإعلان عن إجراءات الحجر الصحي المستمرة حتى ساعة كتابة هذا المقال. وقبل معظم الفرنسيين بكافة فئاتهم الإجتماعية وأطيافهم الأيديولوجية دعوة الرئيس، بمن فيهم الذين يتمنون أن ينهزم سياسيا في الاستحقاق الرئاسي القادم، والتقطوا نداءه كأمر في زمن حرب ترعب الناس بشكل غير مسبوق.
هنا إطلالة على خيرة ما قيل ويقال عن الكتاب، كحاجة ضرورية للإنسان السوي والمتوازن في كل الحالات، وخاصة في حال تحول العزلة إلى أمر واقع يهزم الجميع سواء كانوا حكاما جبابرة أو ديمقراطيين، محكومين ميسورين ومخمليين أو كادحين مسحوقين، كما يبين كورونا في هذه الأيام العصيبة الشبيهة بالآخرة التي لا ينفع فيها مال ولا بنون.  

جان دانيال 
















برنار بيفو سيد الكتاب
شخصيا لم أفاجأ بالسبق الذي حققه أحد أهم عشاق الكتاب في فرنسا وفي العالم، وكنت أنتظر ردة فعل العضو في الأكاديمية الفرنسية، والصحافي الشهير الذي كان يقرأ ويكتب ليل نهار مدة عشرين عاما لإعداد برنامجه الشهير "أبوستروف". إنه برنار بيفو الذي حاور كبار الكتاب فرنسيا وعالميا، كان أول من سعد بدعوة الرئيس الفرنسي في عز استفحال وباء كورونا، وراح يغرد كاتبا: "آه، كم كنا نتمنى أن نسمع بأن الحجر الصحي المفروض بسبب كورونا، قد دفع المواطنين إلى غزو المكتبات لضمان مؤونة روحية لمدة طويلة".

بيفو، الذي يعيش في مجتمع يستقبل الملايين من القراء سنويا بمناسبة صالون باريس للكتاب، كتب بصيغة توحي بأن أبناء وطنه قد تراجعوا في مطاردة الكتب، كما يطاردها هو المفتون والمجنون بالكتاب على مدار الساعات والأيام والأعوام والفصول. الرجل الفذ الذي حبب الناس في القراءة لعقود، يعود اليوم بقوة إلى واجهة الحدث الذي جعل منه نموذجا يحتذى به في ظرف أصبح فيه الكتاب منقذا لبشرية متأزمة روحيا ونفسيا، ومسجونة بدنيا بين جدران لا تطاق مهما ارتقت جمالية وأريحية وفخامة القصور أو الشقق التي تشيدها.
فتح بيفو بتغريدته المذكورة شهية كتاب آخرين، وتبعه الروائي دافيد فوينكوس، الذي ثمن دعوة رئيس الجمهورية الفرنسيين إلى القراءة مغردا: "في قلب خطاب رئيس الجمهورية، كانت هناك قوة خاصة لخصها قوله: عليكم بالقراءة". من جهته، صرح الروائي دانيال بيناك لقناة "فرانس أنتير" أن القراءة تنجي المسجونين والمعتقلين من الانهيار النفسي ضاربا المثل بالصحافي جان بول كوفمان، الذي أنقذ عقله على حد تعبيره بإعادة قراءة الجزء الثاني من "الحرب والسلام" للكاتب الروسي الشهير تولستوي، والقراءة نفسها أنقذت الكاتب الروسي الكبير الآخر سولجنتسين، صاحب رائعة "أرخبيل غولاغ"، من فقدان صوابه. وإذا كان الحجر الصحي في البيوت، كاعتقال جزئي ومؤقت وإجباري في الوقت نفسه، لا يقارن مبدئيا بالسجن من منطلق الحرية الكبيرة التي يتمتع بها الإنسان، فإنه يؤثر نفسيا تحت وطأة الغلق المستمر والانقطاع عن العالم الخارجي: "والأدب وحده كفيل بإخراج القارىء المحجور إلى عوالم أخرى تشعره بالسعة والانفتاح، وبالتالي تمكنه من تجاوز العزلة والانغلاق، ويضمن التواصل الإنساني عبر القراءة" كما سيتبين ذلك من خلال شخصيات تاريخية وإبداعية أخرى.

برنار بيفو يحاور الرئيس الراحل فرانسوا ميتران

















بروست: القراءة صداقة حقيقية
قبل عقود عدة، أكد كبار الإبداع أهمية القراءة، باعتبارها حاجة إنسانية أزلية وأبدية، والرئيس الفرنسي ماكرون، والكتاب الذين يدعون اليوم إلى اللجوء للقراءة في زمن الحجر الصحي، يكررون مقولات من سبقهم إلى تذوق نكهتها الخارقة والاستثنائية، وقدرتها على قتل فيروس العزلة،

وعلى كسر الحصار النفسي والعصبي على الإنسان المسجون أو المحجور. فصاحب "الأمير" مكيافيلي سبق هؤلاء الذين ذكرناهم، وأشاد بالقراءة، بقوله إنها "رياضة للعقل، كما هو التمرين العضلي للجسم، ومحفزة للمخ ومعادية للكسل". وبروست العظيم صاحب رائعة "البحث عن الزمن المفقود"، قال: "القراءة صداقة حقيقية". وأما يوجين يونسكو فقال: "كتاب جيد هو صديق جيد". مئات وآلاف الروايات العالمية وغير العالمية، تنطق حتى هذه الساعة بشخصيات بديعة ومبهرة وآسرة، ووحده الذي يريد القنوط والعزلة والإرهاق النفسي، يرفض صداقات رجال ونساء دخلوا التاريخ بتجسيدهم التواصل الإنساني المنافي لكل أنواع التباعد الاجتماعي. والطبيب "ريو" بطل رواية "الطاعون" لألبير كامو الروائي الكبير الآخر دليل على صحة ما نقول، ورواجها هذه الأيام عالميا عبرة لمن يعتبر.

وسيلة علاجية ضد الإرهاق
في هذه الأيام التي أكد فيها خبراء الأمراض النفسية والعقلية خطورة انعكاسات العزل الاجتماعي على صحة الإنسان بسبب إجراءات الحجر الصحي، يضحي الكتاب بشكله الورقي التقليدي أو الحديث الرقمي، الوسيلة الأنجع والأقوى والأدوم لمحاربة الإرهاق النفسي الذي يطال كل الناس مهما بذلوا من مجهودات وقاموا بأشغال ونشاطات مختلفة تساعد كثيرا على تمضية الوقت.

وحسب موقع " أكتوليتي" (الأحداث الأدبية)، فإن الكتاب يكتسي أهمية علاجية خاصة في الظروف العصيبة غير المسبوقة مثل ظرف وباء كورونا الذي يثير الهلع، ويفسد ويعكر المزاج، ويتسبب في التشتت الذهني وفي الأرق. واستند الموقع الشهير، في تأكيد ما راح إليه، إلى دراسة قام بها عام 2013 المحللان النفسيان دافيد كومير كيد وإيمانويال كاستانو في المعهد الجديد للبحث الاجتماعي، وخلص الاثنان إلى أن قراءة كل أنواع الكتابات الخيالية، تمكن القراء من معايشة حالات اجتماعية ونفسية غير مسبوقة، من خلال الدخول في سياقات عوالم معقدة، ومجهولة تسمح بمعانقة حقائق وجودية جديدة. الموقع الفرنسي المذكور نفسه عمق قناعته بأثر الرواية الإيجابي على القراء استنادا لدراسة أميركية أخرى أقدم من الأولى. وكشفت الدراسة، التي نشرتها جامعة بوفالو في الولايات المتحدة عام 2011، أن قراءة الكتب تسمح بالانغماس والغطس في عوالم خيالية تؤسس لعلاقات اجتماعية جديدة تتجاوز ما كان يربط القارىء اجتماعيا ونفسيا وواقعيا في كنف هدوء يريح الخاطر ولو لفترات عابرة. في المحصلة، يمكن القول إن القراءة تعوض التباعد الاجتماعي الذي تفرضه حياة العزلة المفروضة على الجميع لاتقاء شر فيروس وباء كورونا ولعدم نقله لآخرين، وعالم القراءة وحده يمكن المحجور الصحي من ربط علاقات اجتماعية وعاطفية مع كتاب وشخصيات يتحولون إلى رفقاء وإلى أصدقاء جدد يساهمون في الحد من الكبت الناتج عن ظرف قاهر يحول دون لقاء الأهل والأقارب والأحباب بلحمهم وجلدهم ودمهم.  

20 ألف كتاب للقراءة مجاناً
في اللحظة التي كنت أنهي فيها هذا المقال عملت آن إيدالغو، العمدة الاشتراكية لبلدية باريس، بمقولات بروست ومكيافيلي وبنتائج الباحثين الأميركيين، وأسعدت برنار بيفو (84 عاما) العضو في لجنة جائزة غونكور، وذلك بوضعها 20 ألف رواية رقمية في موقع البلدية بهدف تمكين الباريسيين من قراءتها مجاناً حتى غاية نهاية شهر حزيران/يونيو. وأعلنت البلدية، التي ترأسها الراحل جاك شيراك قبل أن يصبح رئيس جمهورية، عن تبنيها حرب فرنسا ضد كورونا بسلاح الكتاب، عبر بيان كتبه كريستوف جيرار، النائب المكلف بالثقافة.

وكتب المسؤول: "ستسمح الكتب التي تشكل نسبة معينة من المكتبات التابعة للبلدية لسكان باريس بالقراءة مجاناً في هذا الظرف العصيب الذي نحتاج فيه إلى الثقافة باعتبارها قوام صحة ذهنية سليمة". وحسب قناة "بي أف تي في"، فإن سكان باريس "سيتمكنون في أثناء عطلة الربيع من السفر عبر عوالم آلاف الكتب الروائية والأخرى الخاصة بالأشرطة المرسومة". وموقع بلدية باريس الرقمي، سوف لن يمكن من قراءة الكتب بمعدل 6 شهريا فحسب، بل سيسمح كذلك بتعلم السياقة وبتلقي دروس الدعم المدرسي، فضلاً عن الاستمتاع بمعارض البيت الأوروبي للتصوير والاستفادة من أرشيف مجمع الصور وحفلات أوركسترا باريس.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.