}

ماذا وراء سعي فرنسا لـ"تسوية" ذاكرة حرب الاستقلال بالجزائر؟

بوعلام رمضاني 8 أغسطس 2020
هنا/الآن ماذا وراء سعي فرنسا لـ"تسوية" ذاكرة حرب الاستقلال بالجزائر؟
ذاكرة حرب الجزائر.. ذكرى وعبر
بالرغم من استمرار الإعلام الفرنسي في تغطية وباء كورونا الخبيث والعنيد على مدار الليل والنهار في عز صيف حار، استطاع المؤرخ بنيامين ستورا أن يفتكّ اهتماما إعلاميا نوعيا، باعتباره "مرجعا محوريا" يجب العودة إليه حينما يتعلق الأمر بالتاريخ السياسي المعاصر لبلدين يشكلان هويته المزدوجة الخارجة من رحم جراح وعذابات مشتركة، كما كرر في تصريحاته الأخيرة. وتمكن ابن مدينة قسنطينة التي غادرها في سن الثانية عشرة بعد استقلال الجزائر، من نحت اسمه في خريطة الأحداث مؤخرا، إثر تكليف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في نهاية الشهر المنصرم له بمهمة تفكير حول "ذاكرة حرب الجزائر"، على حد تعبير إعلاميي فرنسا والرئيس الفرنسي والمؤرخ ستورا نفسه. ويجدر التذكير أن اختيار الرئيس الفرنسي للمؤرخ المثير للجدل فرنسيا وجزائريا على السواء، جاء ضمن سياق تاريخي يكشف عن علاقة انسجام وثقة وود بين الرئيس ماكرون والمؤرخ ستورا، وسبق لماكرون أن عينه على رأس متحف تاريخ الهجرة مباشرة بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية، الأمر الذي يؤكد أن يسارية ستورا لم تعد كما كانت من قبل.



تقاطع الرئيس والمؤرخ
كما كان منتظرا، لم يتردد الإعلام الفرنسي في تسليط الضوء على القضية التي تعكر صفو العلاقات بين البلدين المحكومين بتاريخ يقطر حبا وحقدا ونفورا وتقززا وإعجابا وتوددا في الوقت ذاته. وليست هذه هي المرة الأولى التي يسعى فيها رئيس فرنسي إلى تحقيق التصالح الحتمي بين بلدين ليس في صالحهما الاستمرار في جر واجترار خطاب وجراح وآلام الماضي الاستعماري، على حد تعبير ستورا لأكثر من قناة وصحيفة ومجلة في المدة الأخيرة. ستورا الذي لم يرد على طلب محاورته بسرعة كما جرت العادة قبل اليوم، أكد في حديث لقناة "بي أف أم" الأكثر مشاهدة في فرنسا يوم الفاتح من الشهر الجاري، أن قبوله مهمة الرئيس الفرنسي: "يندرج في مسعى يتقاطع مع مثيله عند الرئيس المتطلع إلى تهدئة خواطر ونفوس ضحايا آثار الحرب من الطرفين بغية بناء مستقبل أكثر عقلانية وبراغماتية يخدم مصلحة البلدين المرتبطين بقضايا كثيرة ومعقدة وخطيرة لم تعد تتحمل تأخرا إضافيا". المصالح المشتركة التي عبر عنها ستورا بإشارته إلى مكانة الجزائر في المتوسط استراتيجيا وجيوسياسيا دون أن يسهب في ذلك، حقيقة تشكل في تقديرنا نقصا منهجيا عند معالجة القضية بسبب غياب أسئلة من شأنها أن ترفع اللثام عن "خلفية ما وراء التصالح باسم آثار ذاكرة الحرب". ومن وجهة نظر تحليلية، لا يمكن للمتمعن في فحوى الاتصال الهاتفي الذي تم بين الرئيس الجزائري ومثيله الفرنسي يوم التاسع من الشهر الماضي، إلا أن يربط بينه وبين اعتبار المصالحة المطلوبة بين البلدين خيارا لا بديل عنه تحت وطأة تحديات آنية ومستعجلة تمثل هما سياسيا واقتصاديا وأمنيا مشتركا. وفي ضوء هذا المنطلق، يمكن أن نقرأ إشارة ستورا في كل تصريحاته الصحافية إلى تجاوز التأخر الكبير الذي سجلته المصالحة الجزائرية الفرنسية، بالتركيز فقط على حتمية تجاوز ماضي آلام الحرب دون الربط بينها كذريعة، وبين تحديات جيوسياسية وجودية تعني أمن فرنسا والجزائر. الكلام الذي لم ينطق به ستورا من باب تفادي الحديث عن زحف اليمين المتطرف المستغل لكل الفرص والسياقات الممكنة بما فيها سياق كورونا كمعارض شرس، يحيلنا حتما على الخطر الداهم الذي يشكله اليمين المتطرف في حال تغير الخريطة السياسية الفرنسية قبل عامين من الاستحقاقات الرئاسية القادمة. استنادا للتضمين السميولوجي المبطن الذي لم يتوقف عنده المؤرخ المتخصص في الجزائر، يمكن الاستنتاج أن التأخر في تسوية تاريخ الماضي الاستعماري يخدم اليمين المتطرف الذي يراهن على خطاب عالمي عام وفرنسي خاص يدور حول خطر الهجرة وما يسمى بالإرهاب الإسلامي واستمرار الأزمة الاقتصادية الفرنسية وكفر الشعب بالتوجهات اليسارية واليمينية التي فشلت في تحقيق طموحاته خلال العقود الأخيرة.


تحذير مجلة "قيم حالية"

بنيامين ستورا 


















مجلة "فالور أكتويال" (قيم حالية) المدافعة عن توجه اليمين المتطرف دون تمثيلها رسميا، استبقت التكتيك الفرنسي الجزائري في عددها الأخير، ونبهت أنصار توجهها إلى عزم الرئيسين ماكرون وتبون على طي صفحة الماضي الأليم الذي يشكل عقبة في وجه علاقات سياسية واقتصادية إيجابية ومفيدة للطرفين، واعتمدت المجلة الفرنسية المذكورة على حديث الرئيس الجزائري لصحيفة "لوبنيون" (الرأي) يوم الثالث عشر من الشهر الماضي، وهو الحديث الذي أكد فيه: "أن العلاقات بين الجزائر وفرنسا أساسية ولا يمكن تجاهلها، وأن اتصاله بنظيره الفرنسي الشهر الماضي يؤكد تقاربا وشيكا  يمس المستوى الحميمي والمعقد نتيجة التاريخ الاستعماري والهجرة". وقبل طعنها في المبادرة الفرنسية الجزائرية بنشرها ردود أفعال قراء معجبين بخطها الافتتاحي، وقفت المجلة عند إعجاب الرئيس الجزائري بالمؤرخ ستورا الذي وصفه "بالصادق والمتمتع بمصداقية مهنية وعلمية كبيرة بحكم معرفته العميقة بتاريخ الجزائر"، كما ربطت بين إعجاب الرئيس الجزائري بالمؤرخ ستورا وبين دعوته الرئيس الفرنسي إلى ما وصفه: "بالذهاب بعيدا في الاعتراف بجرائمها البشعة التي ارتكبت في حق الجزائريين"، بإشارتها إلى  الحديث الذي أكد فيه ستورا  لموقع "ميديا بار" في نهاية العام الماضي على ضرورة فتح صفحة تصالح غير مسبوق بين الجزائر وفرنسا، تكون المجلة التي تسوق لأطروحات إسلاموفوبية لا تمل من الترويج لها بشكل منتظم وممنهج قد حذرت من "التواطؤ" المفترض بين الرئيس ماكرون والمؤرخ الذي سيمثل فرنسا في اللجنة المختلطة التي سيترأسها من الجانب الجزائري المؤرخ عبد المجيد شيخي، المدير العام للمركز الوطني للأرشيف.. المجلة المذكورة نفسها ضغطت على طريقتها معبرة عن رفض مبدئي تحسبا لاعتذار فرنسي طالب به الرئيس الجزائري الشهر الماضي في حديث أدلى به لقناة "فرانس 24"، وهو الاعتذار الذي لا يرفق بتعويض مادي حتما. وحتى تؤكد المجلة عداءها للمسعى الفرنسي وتكشف عن سمها وحقدها حيال كل ما هو جزائري، نشرت تعاليق لبعض معجبيها، ومن بينها ذلك الذي جاء فيه "أن المؤرخ ستورا سيخدم اللجنة التي تعكس توجه جبهة التحرير، وستورا عميل ويستحق نفس مصير مايو" (هنري مايو مناضل شيوعي أعدمه الجيش الفرنسي عام 1956 بسبب انحيازه للثورة الجزائرية).                                              


بلغيث: ستورا مؤرخ بلاط

المؤرخ محمد الأمين بلغيث 


















قبل أن تهاجم المجلة الفرنسية ستورا، هاجمه الكاتب جان سيفييا، صاحب كتاب "الوجوه الخفية لحرب الجزائر"، في صحيفة "لوفيغارو"، يوم السابع والعشرين من الشهر الماضي مؤكدا أن مقاربة ستورا لحرب الجزائر منحازة للجزائر بعدم اعتباره كفاح جبهة التحرير إرهابا وتغاضيه عن الاعتداءات التي راح ضحيتها العشرات من الأوروبيين أو الأقدام السود في وهران خلال صيف 1962. يومان بعد ذلك، رد ستورا على سيفييا في الصحيفة الفرنسية اليمينية نفسها مفندا كلامه، بقوله إنه خصص فصلا كاملا لأحداث وهران في كتابه "الغرغرينا والنسيان" الذي أصدره عام 1991، وعمل مستشارا علميا في صفوف طاقم فيلم "أقدام سود الجزائر" الذي بثته القناة الفرنسية الثانية عام 2017، كما كتب عن يهود الجزائر في كتابه "المنافي الثلاثة أو المفاتيح المستعادة" الصادر عام 2014، فضلا عن تناوله مجزرة ملوزة التي أعدمت خلالها جبهة التحرير في مايو/ أيار من عام 1957 قرويين تابعين لأنصار المناضل مصالي الحاج، ويجدر الذكر أن ستورا نال شهادة الدكتوراه عام 1978 بأطروحة حول مصالي الحاج تحت إشراف المؤرخ الكبير الراحل شارل روبير أجرون، وترأس يومها لجنة التحكيم المفكر والمستشرق الشهير جاك بيرك المولود في الجزائر هو الآخر.
ستورا الذي كتب عن تجاوزات جزائرية ـ لا يصفها بالإرهابية في أحاديثه الصحافية، لكنها لا تمت بصلة للكفاح الثوري في تصوره دون مقارنتها بالوحشية الفرنسية التي ينكرها سيفييا ودعاة الجزائر الفرنسية ـ لم ينل تزكية المؤرخ الجزائري محمد الأمين بلغيث، الذي يكتب باللغة العربية، رغم أنه يعد خائنا في نظر الآلاف من الفرنسيين الذين رفضوا استقلال الجزائر. وقال بلغيث في حديث هاتفي: "الجزائر متخوفة من مبادرة الرئيس الفرنسي الذي زكى ستورا المقبول عند السلطتين الفرنسية والجزائرية رغم أنه يعتبر عند أغلبية مؤرخي فرنسا مؤرخ بلاط". و"ستورا الذي يتصدر مشهد ذاكرة الحرب مثير للجدل والخلاف عند أهل الاختصاص مثله، وأنا منهم"- أضاف الدكتور بلغيث مستطردا: "إنه متميز علميا، لكنه ليس في مستوى راحلين مثل جيلبير مينييه وغيره، كما أن التاريخ لا يمكن كتابته بطريقة مشتركة كما قال المناضل الكبير الراحل أحمد مهساس لأنه لا مصالحة مع الجلاد ومدمر وطن وحضارة، وربما جاءت مبادرة الرئيس الفرنسي لإرضاء طرف لا أكثر ولا أقل ". وأنهى بلغيث رده رافضا المصالحة مبدئيا وإجرائيا بقوله: "بيننا وبين الفرنسيين عشرة ملايين من الشهداء (وليس مليون ونصف مليون في حين يقول الكاتب جان سيفييا 250 ألف قتيل من الطرفين)، فلا يمكن أن نرضى بتقليب أو تمزيق صفحات مؤلمة بين شعب مسالم ودولة جاءت إلى أرضنا الطاهرة في حملة شرسة وغير جديدة". وفي تقدير بلغيث: "لن تحدث المصالحة بعد رحيل جيل نوفمبر وبروز جيل جديد يقبل التعايش مع فرنسا كما قال وزير الخارجية السابق برنار كوشنير تكريسا لفكرة برزت في الأربعينيات، والروح الاستعمارية الفرنسية لا زالت قائمة حتى في صفوف الديمقراطيين الذين يعتقدون أن الاستعمار جاء برسالة حضارية إلى الجزائر".

المؤرخ أحمد رواجعية 




















المؤرخ أحمد رواجعية، الذي يكتب باللغة الفرنسية ومدير مخبر الدراسة التاريخية والسوسيولوجية والتغيرات الاجتماعية والاقتصادية، اختلف مع مثيله المؤرخ المعرب في أسلوب الرد الذي كان أقل خطابية سياسية، ولكنهما التقيا في نقطة الرفض لمبادرة ولدت ميتة تحت وطأة تناقضاتها وخدمتها لطرف واحد.
وقال البروفيسور رواجعية: "تعكس المهمة التي أوكلت لمؤرخ فرنسي وآخر جزائري إرادة جزائرية فرنسية لمسح ماضي بعض الخلافات السياسية العالقة ولو مؤقتا ومن بينها مسألة الذاكرة الحساسة، غير أن هذا الاهتمام ينطوي على تناقضات ونقاط غموض ثقيلة وغير قابلة للعلاج". وفي صيغة تساؤل منهجي، أردف رواجعية قائلا: "كيف يمكن المصالحة بين ذاكرة الجلاد والضحية (نفس طرح المؤرخ بلغيث)، وكيف يمكن للمؤرخين المعينين (إشارة إلى مؤرخي البلاط من الجهتين) العمل وهل سيرى وسيقرأ كل واحد منهما مقاربة ذاكرتين متساويتين من منظور ما عاشه وتكبده وأحس به المستعمرون والمستعمرون (بكسر الراء وبفتحها في الحالة الثانية)؟". وأنهى رواجعية كلامه مشككا في جدوى المسعى الفرنسي الجزائري بقوله: "إنه أحادي التوجه في الجوهر، ويغفل عدم تساوي الآثار الناجمة عن حرب استعمارية، ويخفي خلافات سياسية بين البلدين اللذين لن يتمكنا من وضع حد نهائي لخلافات جوهرية ومبدئية متعلقة بالذاكرة، والتي يمكن أن تولد مجددا من رحم رمادها في حال بروز اي احتقان سياسي". أخيرا وليس آخرا، أكد رواجعية أن المسعى المقدم في حلته القائمة يعكس تنازلا جزائريا مبطنا: "يقضي على مطلب الاعتذار والتوبة، ويفتح الطريق أمام فقدان الذاكرة".

 

# ذاكرة حرب الاستقلال.. جدل بين الجزائر وفرنسا|التلفزيون العربي: 
 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.