}

رحيل عبد العالي رزاقي: تَنفّسَ الجزائر والتسامح والتعايش

بوعلام رمضاني 25 مارس 2023
هنا/الآن رحيل عبد العالي رزاقي: تَنفّسَ الجزائر والتسامح والتعايش
عبد العالي رزاقي (1949 ـ 2023)
أمام المصاب الجلل غير العادي، تسقط كل الخلافات كما تسقط دموع الأصدقاء والأعداء والزملاء والطلبة الذين تخرجوا على يديه، ويشمل البكاء ربما حتى من استنطقوه في مكان قال عنه باكيًا: "كنت أتمنى أن أموت بدل دخوله". أبكي بدوري في هذه اللحظة مثل رفيق دربي الكاتب الكبير سعد بوعقبة الذي لم يظفر باستجابة الله، وبقي حيًا يذرف الدموع على صديقه مباشرة على قناة "المغاربية"، في مشهد مؤثر أبكى أيضًا الصحافي جمال الدين طالب. انهمرت مجددًا من دون شك الآلاف من الدموع، كما ينهمر المطر الغزير في شتاء حقيقي، ساعة خروج جثمان الزميل الفقيد عبد العالي رزاقي من بيته يوم الثلاثاء الماضي عشية شهر رمضان المبارك. أتصور أنها كانت جنازة مهيبة، وغير مسبوقة، لم تسعها مقبرة سيدي فرج الساحلية التي اكتشفت عظمة رجل صنع الحدث بقلمه وبإبداعه، وبشخصيته التراجيدية والروائية، وبمواقفه التي اختلف حولها كثيرون، ويشيد بها اليوم اليساريون والشيوعيون والعلمانيون والإسلاميون والوطنيون والبعثيون من المثقفين والإعلاميين والأدباء المعربين والفرانكفونيين، وغيرهم من الملل الفكرية الأخرى.
لقد استبقت بهذا الكلام الأستاذ أحمد عظيمي، الذي كتب الكلام نفسه تقريبًا بعد حضوره جنازة الفقيد عبد العالي رزاقي. ولأنه كان من الحاضرين، أضاف يقول: "حتى بعض الذين كانوا مع العصابة السياسية السابقة كانوا في المقبرة".

مثقف عضوي
قبل الحديث عن مساره المهني والإبداعي، يجدر لفت انتباه القراء في البداية إلى خصوصية شخصية رجل صنع الفرادة السيكولوجية والفنية والأدبية على امتداد عقود، من دون غيره من رفقاء دربه. الراحل عبد العالي رزاقي، الذي ملأ الشاشات والصحف والمجلات والمنابر الجزائرية والعربية، كان من الطبيعي أن يتوقف قلبه في سن الرابعة والسبعين، بعد حياة خارقة كلها مواقف وتصريحات وأحاديث ومقالات وتحقيقات وقصائد وكتب وتدريس ولقاءات شخصية وحميمية مع محبيه الكثر، ومع منافقيه الكثر أيضًا. كان الراحل، وأنا مسؤول عما أقول، شخصية غير عادية على الصعيدين الأخلاقي والإنساني والسيكولوجي، وحتى المسرحي، لمن يعرف كيف يرسم شخصيات الناس غير العاديين. الراحل كان يضحك بسبب ومن دون سبب، الأمر الذي قد يقرأه بعضهم بشكل سطحي، بعيدًا عن كل قراءة إنسانية راقية، وكان الأول الذي ينحني من بعيد على بعد ثلاثة أمتار أو أكثر ليمد يده بصدق لكي يصافح الآخر ببشاشة منقطعة النظير. كان الراحل عفويًا وصريحًا وشفافًا في إبداء الرأي، وصاحب حديث مباشر قوامه لغة ثالثة دعا إليها توفيق الحكيم لمخاطبة عامة وخاصة الناس، وأنا شخصيًا كانت لي تجربة معه كضيف تلفزيوني من باريس، إضافة إلى تجربة أخرى تركت صوته يصدح في هاتفي بعد قبوله كمثقف دعوتي للحديث عن الحراك الشعبي. الراحل كان مؤدبًا ومتواضعًا رغم إلمامه الواسع بالأوضاع السياسية والفكرية والأدبية، واستثنائيًا في اتخاذه مواقف مثقف عضوي يفرض الإحترام حتى وإن تفوه بأي شيء كما يقول الفرنسيون حينما يردون على أحد تفوه بكلام بدا لهم تفاهة لفظية. لو كان الراحل تافهًا وسطحيًا وكسولًا ومدعيًا وانتهازيًا وصامتًا ومحايدًا كما هو حال كثر، لما تم تكريمه كمثقف عضوي، ولما انفجرت وسائل التواصل الاجتماعي في الجزائر، وعلى رأسها فيسبوك، كما سنرى عبر شهادات أحدثت الإجماع حول شخصيته المتفردة، وقلّ نظيرها في تاريخ رحيل أمثاله من حملة القلم في جزائر العقود الأخيرة.




الراحل عبد العالي كان عالي السقف مهنيًا وأدبيًا وإنسانيًا وسلوكيًا ووجدانيًا، وكان يتنفس الجزائر والتسامح والتعايش واللطف وقبول الرأي الآخر المخالف، وكان أقرب إلى الشخصية الروائية النادرة، وحتى إلى اللوحة التشكيلية التي تجمع بين طياتها تيارات الواقعية والسريالية والانطباعية والتعبيرية والعبثية والسيزيفية، وخير ما يمكن أن يكرم به الراحل يصب في هذا المجرى، ويتجاوز بكثير ما كتب عنه إثر إعلان الخبر عن وفاته. كان يعمل الراحل بسرعة تفوق قطار "تي جي في" الفرنسي الشهير. إنها السرعة التي تركته يهمل مظهره، مثل ما كان الراحل الطاهر وطار، وأنا شخصيًا، كنت أظهر أرستقراطيًا مخمليًا إلى جانبه، كما حدث وأنا أحاوره في ساحة البريد المركزي، وتحديدًا في المقهى الشعبي الذي كان يجلس فيه الراحل الآخر بشير حمادي. اختلفنا، أو اتفقنا، مع الراحل، من منطلق طروحاته وأفكاره وتوجهه وعلاقته بمعارضة سياسية لنظام اعتقله في نهاية المطاف، لا يمكن لأحد في تقديري الشخصي أن يقفز فوق حقيقة وجود ميزّه من دون كل الآخرين. وجود قضاه يتنقل وينشط ويكتب، ويحاضر ويحّلل ويسافر ويتألم ضاحكًا بشكل مفرط. وجود خارق دفعه إلى التضحية بحياة شخصية عادية، وهي التضحية التي كانت صادقة وساطعة سطوع الشمس في وضح النهار، ولو هاجر الراحل إلى أي بلد عربي لعاش حياة مخملية يحسد عليها. كان مثقفًا عضويًا بكامل المواصفات الغرامشية (نسبة إلى غرامشي صاحب النظرية الشهيرة)، ومن يريد أن يعرف مراحل تاريخ الجزائر السياسي والثقافي والأدبي الحديث، وما عرفته من انتصارات ونكسات، ومن معلومات لا تقدر بثمن، ما عليه إلا الإطلاع على تاريخ رجل يصنع الحدث لحظة كتابة هذه السطور شعبيًا ونخبويًا.

نماذج من تكريم جامع
كان تكريم البروفيسور والإعلامي والناقد المسرحي الشهير أحمد شنيقي واحدًا من التكريمات التي عجّ بها فيسبوك بشكل غير مسبوق، ولأنه عرف الراحل مثلي، كتب شنيقي ما سبق أن ذكرته سالفًا: "رزاقي مثقف كبير، وشخصية كبيرة جمعت بين الضحك والغضب، وسارق نار مثل بروميثيوس". شنيقي الذي عرف الراحل عام 1970، أعجب بالمبدع والقارئ النهم، وبصاحب كتب "الكتابة في درجة الصفر"، و"أطفال بورسعيد يهاجرون إلى أول ماي"، و"هموم مواطن اسمه عبد العال" الذي تم منعه، و"الحسن بن صبّاح". بذكائه الحاد، لم يفوت شنيقي الفرصة لتكريم المبدع الآخر مخلوف عامر وهو حي يرزق.



من طالبات الأستاذ الإعلامي رزاقي، فتيحة بوروينة، التي أصبحت إحدى أيقونات الصحافة الجزائرية، رغم محاصرتها وتهميشها. كتبت فتيحة التي صنعت الفارق في صحيفة "المساء"، ولاحقًا في "الشروق": "ترحموا عليه... فإنه من الوجوه الناصعة لمهنة الصحافة. حزينة لرحيله... أستاذي وأستاذ آلاف الصحافيين. قليلون ساروا على منهجه ونهجه، وما بدلوا تبديلًا، وكثيرون انحرفوا، وحولوا الصحافة إلى مستنقع يعافه النظفاء". فيصل شريف طالب آخر أحب مهنته الحالية بفضل أستاذه الراحل رزاقي. قال شريف لـ"ضفة ثالثة": "لقد بقي وفيًا للمهنة، وهو يرافق الكتابة الفكرية والأدبية والشعر، وظلّ حرًا طليقًا لا يمكن الإمساك به والتأثير على مواقفه. لم يهادن السلطة ولا المجتمع، وظلّ ينتقد ما كان يراه سلبيًا. موقفه الإيجابي من الحراك في ضوء التحولات التي عرفها، جعلت منه قطبًا من الأقطاب القليلة لأهم منعرج سياسي عرفته الجزائر منذ الاستقلال".
الكاتب والإعلامي عبد الرزاق بوكبة كتب يقول: "لم يكن الراحل من المثقفين الأنانيين والجبناء والانتهازيين والمتكبرين. كان من النوع الذي يملك عيوبًا لا تضر سواه، وأفكارًا ومواقف قد نختلف معها، لكنك لا تستطيع أن تدرجها في خانة التفاهة، أو الخيانة. لقد ساهم فعلًا في إنقاذ شرف الكاتب والإعلامي والجامعي وابن الشهيد".
الروائي بشير مفتي اكتفى بتكريم الراحل من منظور أدبي وإعلامي خالص بقوله: "لا أحد ينكر مسار هذا الكاتب والصحافي الذي كان يراسل مجلة الجيل، ومن رموز جيل السبعينيات الأدبي من خلال مجلة آمال قبل أن تأخذه الجامعة والصحافة والسياسة إلى عالمها الصاخب، وتشغل جهده ووقته".




الروائي والناشر رفيق طايبي عزّز ما قيل عن الراحل بقوله: "هو أستاذ الآلاف من الطلبة، وكتب الشعر مبكرًا باقتدار ومعرفة رفيعة. في رحيله، درس في الثبات على الرؤية السياسية والحضارية والحرص على الموقف. غادرنا متطهرًا من أي تنكر لقناعاته المبكرة ونقيًا من كل الشبهات. دخل الغياب في اليوم العالمي للشعر، وهو المكتظ به، والممارس له خارج النص وداخله".
لأن المقام لا يسمح بذكر أسماء كل من نعى الراحل المتفرد، نضيف شهادات من اختاروا كلمات مختصرة وقوية كلها إيحاء وتعبيرية: "يموت الأصدقاء فجأة، وتنكسر الأغصان خلسة في الطريق. البلاد موحشة يا عبد العالي، ونايات المحبة حزينة لا تغني" (الإعلامي والأديب محمد دحو). "في الطريق إلى جنازة أستاذ الأجيال الإعلامية" (الإعلامي والشاعر إبراهيم قارعلي). "عبد العالي زراقي... المثقف الصدامي" (محمد العيد لعلاونة). "في اليوم العالمي للشعر، تودع الجزائر واحدًا من أيقوناتها، الصديق الرائع عبد العالي رزاقي" (الشاعر سليمان جوادي). "عاش مناضلًا، ومات مناضلًا، همه الوحيد الجزائر ورفاهية الجزائريين، هو من ألزمني بقراءة الشعر العربي" (الكاتب والإعلامي عزيز مواتس).
الشاعر مصطفى الغماري المتواري عن الأنظار لم يرد على سؤالنا، مثله مثل آخرين، وكتب شعرًا في صفحته الفيسبوكية عن الراحل عبد العالي رزاقي جاء فيه: "إلى الله ورحمته الواسعة عبد العالي رزاقي؛ ناحت مطوقة باب الطاق... أن قد مضى بقلابه رزاقي، أن كان قد سبق السباق بجده... وبجده وبشعره الدفاق... أن راح يضرب ليله بنهاره... والليل مضروب على الآفاق... عظمت رزيته وعاد لربه... والله ذو توب وذو إشفاق".

بين الإعلام والأدب والسياسة والنضال
إطلالة قصية العمر ومختصرة كافية لتأكيد هوية ومسار الراحل الذي علّم فنيات التحرير لطلبة أصبحوا صحافيين مرموقين، وألف الكتب السياسية والدواوين الشعرية، وشارك في مئات المناظرات واللقاءات الصحافية والندوات والتظاهرات الأدبية داخل وخارج الوطن، ناهيك عن حضوره الفعال في اتحاد الكتاب الجزائريين، وفي مرافق ومناسبات ثقافية وأدبية كثيرة أخرى. الفقيد الذي توفي عن عمر يناهز الرابعة والسبعين إثر عملية جراحية في قلبه، ووري التراب يوم الأربعاء في حضور نخبوي وشعبي منقطع النظير، من مواليد عام 1949 بمدينة عزابة التابعة لولاية (محافظة) سكيكدة الواقعة شرق الجزائر. والراحل الذي طغى على حضوره الطابع الإعلامي والسياسي بعد مسيرة إبداعية شعرية في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، كما مرّ معنا، ارتبط في أذهان محبيه الكثر بالجامعة الجزائرية التي سمحت له بتكوين جيل من الصحافيين والصحافيات. حصل على شهادتي الليسانس والماجستير في علوم الإعلام والاتصال، وترأس الجمعية الجزائرية لأدب الطفل، وكان عضو اتحاد الكتاب الجزائريين منذ عام 1974. بعد شهرة أدبية وإعلامية، كقلم سيال يجيد صاحبه كل أصناف الكتابة الصحافية، وخاصة التحقيقات والتغطيات التي زود بها عددًا من المنابر العربية، عاد الراحل ليعطي لهويته ما زاد من رقعة حضوره المتميز. في المرحلة الثانية، دخل الفقيد البيوت الشعبية بعد أن تألق نخبويًا في ساحة الكلمة الشعرية والأدبية بوجه عام. تم ذلك، بعد اعتناقه معارضة سياسية زادت من خصوصية حضوره، وقوة شخصيته، كما أجمع معظم من عرفوه ممن شاطروه توجهه ومواقفه، أو اختلفوا مع مقارباته للوضع السياسي الجزائري، وللحراك الشعبي الذي حولّه إلى نجم تلفزيوني تتهافت عليه القنوات الجزائرية والعربية قبل أن يؤلف كتابًا عنه. كاتب هذه السطور كان له حظ محاورته قبل عامين في إطار مشروع كتاب لم يتم بسبب تردد مثقفين وإعلاميين وسياسيين كثر على الجهر بمواقفهم من الحراك الشعبي خلافًا للراحل. مشروع كتاب سيتم بشكل آخر تحت عنوان "المثقفون والحراك"، وهو الكتاب الذي سأهديه لروح من أطلب منه أن يعذرني رغم أن سبب عدم نشري الكتاب في شكله الأول خارج عن نطاق مسؤوليتي.

شيء مما قاله عن الحراك الشعبي
في هذه اللحظة التاريخية التراجيدية (الخميس، في أول رمضان... الساعة الواحدة و12 دقيقة)، يطل عليكم أعزائي القراء صوت الراحل عبد العالي رزاقي قائلًا في قالب مختصر يفرضه المقام الصحافي: "كانت المخابرات وسط الحراك، لإحداث صدام بين الشباب وبالتالي تحريف مجراه، وكنت قد تحدثت عن الحجارة التي وجدت على أرصفة الشوارع. الحراك كان هبّة شعبية لم تستوعبها المؤسسة العسكرية ولا المثقفون، ووجد النظام نفسه في ورطة حينما رأى الشعب ينزل للشارع متحررًا بشكل غير مسبوق. لم يكن الحراك تلقائيًا لأن لا مكان للتلقائية في السياسة. لقد لعب الشعب من خلال أغاني شباب ملاعب كرة القدم دورًا حاسمًا في زرع الإحساس بالذل والهوان بشكل غير مسبوق، ووجدت المؤسسة العسكرية نفسها مجبرة على الاعتراف بهذه الحقيقة، فتركت الحراك يعبر عن حريته قبل أن تحاول إلباسه بالإسلاميين. المخابرات اكتشفت بسرعة أمر "الماك" (الحركة البربرية الداعية للانفصال، والتي يديرها فرحات مهني) في قلب البريد المركزي، والشيء نفسه حدث مع أنصار "الفيس" (الجبهة الإسلامية للإنقاذ). الحراك أصبح ظاهرة اجتماعية تجاوز الأفراد النخبويين، بعد أن أصبحت العائلات تنزل للشارع بكافة فئاتها المحافظة وغير المحافظة، وبلغ الأمر أن حدث تصاهر بين بعضها".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.