}

سيلين يعود بقوة.. أبدع بـ"لغة الضواحي المعدمة"

بوعلام رمضاني 18 أكتوبر 2022
تغطيات سيلين يعود بقوة.. أبدع بـ"لغة الضواحي المعدمة"
الإعلان عن الكتاب كما نشرته دار النشر غاليمار




كثيرون هم الكتاب الذين تم نبذهم أو طمسهم وتهميشهم عبر التاريخ لسبب قد نتفق أو نختلف حوله، ورغم ذلك فشل الذين قاموا بهذا التصرف التي تستوي من خلاله المجتمعات التي يرفع فيها لواء حرية التعبير وفي الأخرى المؤجلة حتى إشعار جديد. إنها الحقيقة التي تنطبق في هذه اللحظة على الروائي  لوي فرديناند ديتوش المعروف إبداعيًا باسم لوي فرديناند سيلين (1894ـ1961) وخاصة برواية "سفر حتى حافة الليل" اللصيقة به جوهريًا على الصعيدين الفرنسي والعالمي. وثمة روايات أخرى- مثل "تفاهات المجزرة" و"مدرسة الجثث" و"موت بالدين" تقطر حقدًا ضد اليهود في نظر كثيرين خلافًا لما يعتقده الباحث هنري غودار الذي يرى أن مقاربة سيلين لليهود معقدة ومنافية للتبسيط والاختزال ـ  دفعت دوائر تقارب حرية التعبير بازدواجية لافتة إلى المطالبة بعدم تداولها وإحياء ذكرى ولادة صاحبها ونشرها بشروط تحدّ من سبل الوصول إليها برغم الإقبال الذي تجده إبداعيًا وليس أيديولوجيًا فقط. دار غاليمار التي لا تحتاج إلى مزيد من الشهرة، هي التي صنعت الحدث الثقافي يوم الثالث عشر من الشهر الجاري بنشرها رواية " لندرا" أو "لندن" الخارجة من رحم مخطوطات تناولتها "ضفة ثالثة" مباشرة بعد حصول الصحافي جان بيار تيبودو، خلال صيف عام 2021، على هذه المخطوطات التي وجدت في ظروف غامضة في بيت سيلين.

رواية "لندرا" التي يبدو أنها كتبت بعد رواية "حرب" عام 1934 بين تواريخ كتابة روايتي "سفر حتى حافة الليل" و"موت بالدين" بحسب مجلة "لوبوان"، تعالج حياة الأصقاع السفلى القاسية والمغامرات البوهيمية والعاطفية التي عاشها سيلين والذي يعتبره الروائي الجزائري رشيد بوجدرة أكثر كتّاب فرنسا موهبة وإبداعًا. تدور أحداث الرواية في العاصمة البريطانية خلال الحرب العالمية الأولى بعد أن لجأ إليها عام 1916 بحسب تعبير المجلة الفرنسية، وسيلين نفسه الذي يوصف بالمتعاون مع العدو في كل منابر الإعلام الفرنسي، هرب مجددًا بموجب المجلة المذكورة إلى ألمانيا في حزيران/يونيو 1944 عشية انهزام النازية. المجلة التي تخصص أسبوعيًا صفحة للكاتب المثير للجدل برنار هنري ليفي، وللروائي الجزائري كمال داوود المثير للإعجاب والتقزز في الوقت نفسه فرنسيًا وجزائريًا، أشارت إلى أن صدور رواية "لندرا" قد زادت من ضجة السياق الجديد لعودة اسم الروائي المنبوذ قبل أن تنطفئ شعلة حديث الكثيرين عن الوطأة الإعلامية التي تركها نشر روايته "حرب" في الربيع الماضي، الأمر الذي يعزز سرمدية تواجده حيًا أكثر من أي وقت مضى، أيديولوجيًا وإبداعيًا وتجاريًا.
تقع الرواية، المأخوذة من ما يقارب 1200 ورقة من مخطوطاته التي عثر عليها في حقيبة لم يتمكن الهارب المفترض من أخذها معه، في حوالي 576 صفحة وتعد بحسب المتخصصين في الروائي المنبوذ امتدادًا لرواية "حرب" التي نشرتها أشهر الدور الفرنسية، وتعالج الرواية القصيرة مقارنة برواية "لندرا" قصة جندي أصيب بشكل خطير خلال الحرب العالمية الأولى.



 


سيلين الذي عمل في قنصلية فرنسا بلندن عام 1915 بعد إصابته في الحرب، عاش حياة تشبه حياة الروائي الشهير كاتب ياسين استنادًا لوصف بعضهم له بالبوهيمي هو الآخر، ولو أن المقارنة تتوقف عند هذا الحد بعد اشتراك الاثنين في توظيف اللغة العامية بمهارة لافتة. حياة سيلين الخاصة توزعت بين المتع الدنيوية العامة والجنسية المباحة الخاصة والعزلة التي أنهى بها حياته حسب المراجع الفرنسية الكثيرة التي تناولت حياته وإبداعه. وتجلت هذه الحقيقة تحديدًا ـ حسب الكاتب فرنسوا جيبو، صاحب كتاب تناول السيرة الذاتية لهذا الروائي الكبيرـ  في الليالي الحمراء التي كان يقضيها في أحياء لندنية معروفة، ومن بينها حي "سوهو"، الذي كان يلتقي فيه سيلين مع صديقه جورج جيوفروا "وسط عاهرات ومنحرفين ربطوا معه علاقات إعجاب متبادل"، على حد تعبير الكاتب المذكور. غير أن هذا التركيز غير العفوي على حياة سيلين البوهيمية، لم يسمح لأحد من كبار النقاد والمتخصصين في الرواية بالطعن في الخصوصية الإبداعية لكاتب تميّز بأسلوب أقرب إلى عامية الأصقاع السفلى الشعبية. 

الناشر الفرنسي الأشهر لم يتأثر بالمآخذ النقدية لبعض الصحافيين الذين رأوا في رواية "لندرا" عملًا روائيًا ناقصًا، وخلافًا لهذا التصور رأى أن رواية "لندرا" تعتبر تمهيدًا لروايتين لندنيتين لاحقتين وهما "عصابة المضحكين (1944)" و"جسر لندن أو عصابة المضحكين 2 (1964)". الدار الفرنسية الشهيرة، انطلقت من منظور الأهمية القصوى لنشر عمل لأحد أشهر الروائيين الفرنسيين في وقت سريع اعتمادًا على مخطوطات قديمة يصعب قراءتها، ثم إن نشر سيلين يستجيب إلى حاجة تجارية تفرضها جودة وخصوصية وأصالة ما يكتب، ولا أدل على ذلك بيعها من رواية "حرب" الربيع الماضي أكثر من 163 ألف نسخة وإقبال الناس العاديين على قراءته بقوة حتى اليوم. الجامعي الفرنسي ريجيس تتامنزي الذي أشرف على الطبعة الإنكليزية، أكد الصعوبة الكبيرة التي اعترضت طريقه عند نشر رواية سيلين الجديدة التي تجد إقبالًا كبيرًا كما كان منتظرًا. وتحدّث الجامعي الفرنسي عن نجاحه في رفع التحدي بتجاوز عدم وضوح الكلمات ونقص الدقة النحوية، وتغير أسماء الشخصيات، والأصعب والأخطر من كل ذلك رفع تحدي التعامل مع المحطات القاسية الخاصة بمعاداة السامية. النتيجة في تقديره كانت إيجابية، وصدرت الرواية في حلة أنيقة ومتكاملة على كافة الصعد على حد تعبيره. لم يكن اليهود محل حقد أو هجوم، كما يؤخذ على سيلين روائيًا في فرنسا بوجه عام، ولم يتوقف في رواية "لندرا" فقط عند اليهود الذين فشلوا وعاشوا في الأحياء البائسة، ونوّه بالطبيب يوغنبيتز الذي تأثر به كطبيب هو الآخر. بهذا تعزّز الدار الفرنسية الشهيرة صحة منطقها بقول مسؤوليها: "لم نقارب سيلين من منطلق الحالة النفسية التي ميّزته قبل أزمة عام 1936 والأعوام اللاحقة". المجلة الأسبوعية المعروفة والمتخصصة في الكتب "إيبدو ليفر" كتبت تقول منوهة بالأسلوب المتفرد لسيلين: "سيلين أبدع بلغة الضواحي المعدمة التي همّشها التاج البريطاني، ورسم لوحات ناطقة بالبؤس عن حياة الأرواح المشرّدة والمنحرفة. كتب سيلين بلغة الضاحية التي خرج منها عن حياة المخنثين وعن العاهرات وتجار الجنس وما يرافقها من عنف وعن ما تخفيه العواصم الغربية الكبيرة".
وبرغم كتابته عن بؤس المشردين بلغة غير النبلاء، ستنشر دار غاليمار العام القادم الجزء الثالث من روايات المنبوذ في سلسلة لابلياد الشهيرة الخاصة بكنوز الإبداع الأدبي والحضاري الفرنسي الخارق للطبقية الاجتماعية.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.