}

أدب السجون.. نزهة قسريّة خارج الحياة

ضفة ثالثة ـ خاص 6 سبتمبر 2020
هنا/الآن أدب السجون.. نزهة قسريّة خارج الحياة
القديس رانييري يحرر الفقراء من السجن للرسام سيساسيتا (1392-1450)
كان للكتاب والمثقفين نصيب كبير من قمع الأنظمة الدكتاتورية في العالم العربي، حيثُ عانوا من التضييق على الحريات والاعتقال المباشر على مرّ السنوات، وهو ما دفع الكثير من الكتاب الذين خاضوا تلك التجربة المريرة إلى تدوينها في صيغة عمل أدبي، سواء عبر مقالاتهم، أو في كتب يوميّات، أو أعمال روائيّة وقصصيّة، وهو ما مهّد لظاهرة أدب السجون.
في ملفنا هذا نستضيف مجموعة من الكتاب من دول عربيّة، جلّهم ممن خبروا ظروف الاعتقال في الزنازين لسنوات، ونستمع إلى وجهة نظرهم حيال هذه الظاهرة التي باتتْ جليّة وبدأتْ منذ سنوات تأخذ مساحة في عالم الكتابة.
وقد طرحنا عليهم السؤال التاليكيف تنظر إلى ظاهرة أدب السجون، وهل استطاع الكاتب العربي أن يقدم هذا العالم المؤلم بالصورة الأدبية المرجوة؟
هنا الجزء الثاني:

                                                                                                                                                               (عماد الدين موسى)

 لوحة للفنان التشكيلي العراقي سيروان باران 




















العربي الرمضاني (كاتب من الجزائر): السجن في المهجر
خلال تجربتي مع الهجرة غير الشرعية قبل سنوات في الطريق من تركيا نحو أوروبا، عرفت لأول مرة في حياتي الأصفاد التي تُعيق حركة اليدين وتجعلك متهمًا، والمعنى الكئيب للسجن وهوية السجان وعقليات رفاق السجن بمختلف جنسياتهم وطبائعهم. بسبب مخالفة تتعلق بعدم حيازة أوراق إقامة، تم اقتيادي إلى سجن صغير يقع في مدينة باتراس الساحلية غرب اليونان. فظاظة رجال الشرطة التي تتطور إلى عنف وحشي لأتفه الأسباب، وتفاصيل المُعتقل الكريه كلها تركت لدي حالات من الهلع والاغتراب والضياع، كون السجن يسحب منا مَلكة الحُرية ويُقيد حركاتنا، والأسوأ من ذلك عدم معرفة كم ستمكث ومتى سيُفرج عنك. للوهلة الأولى بعد أن نُزِعت الأصفاد من يداي، وتدوين اسمي في حاسوب مكتب الشرطة، وجدت نفسي رفقة وجوه شاحبة، تتقلب بتثاقل فوق أسِرة إسمنتية وتتعرق بشدة والذباب يكسر الصمت ونور خافت يتسلل ببطء من شُباك شاهق، كل ما يظهر منه صفاء السماء، وضجيج المدينة القادم من بعيد، وضحكات تظهر ثم تختفي من الغرفة المجاورة.
اللحظات الأولى كانت جحيمية، فشلت السجائر في تبديدها، يقترب مني شاب أفغاني لطيف، يسأل بابتسامة عن هويتي وسبب قدومي، ثم يطمئنني بأن مغادرة هذا المكان القذر قدر لا مفر منه، ونحن نتحدث، فُتح باب السجن الحديدي الضخم محدثا هلعا مدويًا. نودي على أسماء عديدة، منها الشاب الأفغاني الفضولي، الذي عرّفني على نزلاء الزنزانة، أغلبهم ألبان وباكستانيون وكردي عراقي وكردي آخر تركي وجزائري، ودعني ذلك الأفغاني الودود بعد أن منحني سيجارة واكتفيت بمراقبة الحمام وهو يلتقط فتات الخبز من شباك ردهة السجن.
ليلة أولى في غرفة ضيقة كريهة جدا، رائحة الحمّام والعرق والأحذية ممزوجة بالرطوبة الخانقة وشخير النزلاء، الليل في السجن، سقف بلا نجوم، هواجس مضطربة، حرية مخنوقة، فجر بعيد، ونوم هارب. الصباحات يُدشنها حارس فظ، يفتح الباب بهمجية ينخلع لها القلب وتهتز لها أرضية وجدران الغرفة، يلقي نظرة على المساجين، ثم يوزع فطورًا صباحيًا باردًا بلا نكهة.
الاعتياد على السجن كان أكبر تحد. تمضي الليالي بطيئة وباهتة، ويذهب معها الأرق، التفكير، الاضطراب، الصمت، رهبة السجن، مع لامبالاة بالحاضر والقادم.
لحظة اعتقالي، صرحت بغير هويتي الأصلية، قدمت نفسي للشرطة باعتباري ليبيا، لدواعٍ تتعلق بتخفيف قيود الاعتقال كون ليبيا تعيش اضطرابات والجزائر دولة مستقرة. ذات صباح نودي عليّ للتأكد من هويتي عبر أخذ البصمات، كانت النتيجة أن ظهرت معلوماتي الحقيقية التي قدمتها لدى شرطة جزيرة ساموس لحظة وصولي إليها، انفعل الشرطي ودخلت معه في مناوشات حادة كادت أن تنتهي إلى عراك، ينفعلون لأننا نكذب عليهم ولكن لا يجدون حرجا في الكذب علينا حين نسألهم عن مواعيد الإفراج أو تغيير السجن. طلبوا منا التوقيع على وثائق باليونانية والإنكليزية والعربية ولم يسمح لنا بالاطلاع عليها، بالصدفة وقعت عيناي على عبارة بالعربية "مغادرة التراب اليوناني"، شعرت بارتباك شديد كون العبارة تعني الترحيل إلى بلداننا بكل تعسف ودون احترام لقوانين اللجوء الأممية والأوروبية التي تعترف بها الجمهورية الهيلينية.
غادرنا ذات صباح باكر في حافلة كئيبة مسيجة من الداخل إلى وجهة غير معلومة، كعادتهم يتجاهل أفراد الشرطة الرد على أسئلتنا حول مصيرنا والوجهات القادمة، المسافة طويلة والجو خانق داخل الحافلة المهترئة، كنت رفقة جزائري وألباني وأفغاني يتحدث اليونانية بطلاقة، أخبرنا أن الوجهة سجن ألادابون في العاصمة أثينا، سجن الأجانب الذين دخلوا إلى اليونان بطريقة غير شرعية، وهو ضخم جدا وبطوابق عديدة وقذارة تنبعث من كل مكان.

 العربي الرمضاني: عربيا هناك كتابات مهمة جدا عن السجن


















تتهاوى سطوة السجن ويصير أوسع بالعلاقات الإنسانية الدافئة بين النزلاء. في الطابق العلوي الذي نُقلنا إليه، تبدو الحياة مختلفة عن القرف السابق، نوافذ كثيرة تُطل على صخب أثينا وردهات واسعة بغرف عديدة، ومساجين كثر من جنسيات مختلفة. في الطابق المقابل توجد نسوة معتقلات، معظمهن من أوروبا الشرقية. دائمات الضجيج والدلال. حضورهن كان لوحة فرح وجمال تتجاوز العتمة والانتظار.
السجن في المهجر كان مرورا غير مبرمج على شكل آخر من الحياة والتعرف على أفراد من بلدان وجنسيات مختلفة والتقاط لحظات إنسانية عالية تجعل السجن فسحة للاكتشاف وإدراك نفاق الحكومات والتعامل الوحشي في معظم الأحيان مع أفراد غامروا بحيواتهم من أجل حاضر أفضل غير الذي تركوه في أوطانهم.
تجربتي في السجن، مدرجة ضمن كتابي عن الهجرة غير الشرعية "أناشيد الملح- سيرة حراك" الصادر سنة 2019 عند دار المتوسط - إيطاليا. رأيت أنه من الواجب الإنساني والإبداعي تدوين كل تلك المشاهد بتفاصيلها ولحظاتها واضطرابها ونقلها إلى القراء والباحثين، كون الكتابة عن الهجرة غير الشرعية من داخل الظاهرة أساسا قليلة جدا إن لم نقل إنها نادرة. الكتابة عن حياة المُهاجر في السجن محاولة لتعرية وفضح التجاوزات الفظيعة ضد المهاجرين والدوس على حقهم في الحماية واللجوء والتنقل بحرية.
عربيا هناك كتابات مهمة جدا عن السجن، نأخذ مثلا رواية مصطفى خليفة "القوقعة"، كانت نافذة مريعة وفاضحة للمصير الشنيع الذي يواجه الإنسان العربي المُتهم في وجوده وأفكاره وحريته، وخليفة قدم تقريرا طويلا ممزوجا بالرعب والدماء والصراخ والعذابات والإهانة من طرف طُغم أمنية تحترف التنكيل والحط من كرامة الإنسان دون أدنى سبب وبعيدا عن القضاء وحق الناس في محاكمات نزيهة.
أدب السجون في الفضاء العربي قدم الجانب المُظلم للأنظمة الحاكمة، المتوارية خلف سرديات شعبوية مُفلسة، وما كُتب عن فظاعة السجن كان مساهمة مُهمة في تنوير المجتمع والعالم عن ممارسات لا إنسانية.

 

محسن الرملي (كاتب من العراق):
ما كتب حتى الآن قليل جدًا قياسًا بكثرة السجون في عالمنا العربي

  محسن الرملي: السجن ورد بأشكال مختلفة في رواياتي 


















شخصيًا لا أرى في أدبنا العربي ما يمكننا أن نطلق عليه (ظاهرة) أدب السجون، فما كتب حتى الآن هو قليل، بل وقليل جدًا، قياسًا بكثرة السجون في عالمنا العربي وكثرة الذين سُجنوا، وتنوّع تجاربهم وقضاياهم وأنواع التعذيب النفسي والجسدي الذي تعرضوا له. وهذا الكم القليل من الأعمال الأدبية المكتوبة تحديدًا عن السجون، رغم جودته، كروايات عبد الرحمن منيف وفاضل العزاوي وربيع جابر ومصطفى خليفة وغيرهم، لم يستطع أن يشكل سمات وملامح فنية رئيسية معينة، بحيث يمكننا القياس عليها والتصنيف ووضع إجراءات نقدية خاصة بما يمكن تسميته "أدب السجون". أظن أن ما كُتب من مذكرات ومواد صحافية يفوق ما كُتب من أدب عن السجون. وربما تعود محدودية الكتابة الأدبية إلى أسباب عديدة، منها مثلًا: محدودية هذه الموضوعة نفسها، لأنها أولًا وأخيرًا ستدور في مكان ضيق وتصف تفاصيل مكررة من معاناة متوقعة، وعدم رغبة غالبية القراء بالاطلاع على هذا النوع من الأعمال، وقلة الأدباء الذين تعرضوا لهذه التجربة وأرادوا الكتابة عنها، فهناك من يفضل تجاوزها ونسيانها، وضيق هامش الحرية في ظروف ومراحل معينة... أما عن ذِكر السجن وتجاربه كجزء من أعمال أدبية، وتوظيفه داخل بنائها ولصالحه، وليس كموضوعة رئيسية، فهذا موجود بكثرة في أغلب الأعمال الأدبية، فحتى أنا الذي لم أتعرض للسجن في حياتي سوى ثلاثة أيام، كعقوبة روتينية أثناء أدائي للخدمة العسكرية، ورد السجن بأشكال مختلفة في رواياتي (الفتيت المبعثر) و(تمر الأصابع) و(حدائق الرئيس) وبعض القصص القصيرة.

 

جمعة بو كليب (كاتب من ليبيا): جدلية السجن والإبداع

 جمعة بو كليب : ينبغي الكشف عن مكامن الداء في واقعنا السياسي العربي

















أكادُ أجزم أن غالبية المشتغلين بالأدب والثقافة في بلداننا العربية ونظراءهم من بلدان العالم الثالث على صلة- قريبة أو بعيدة- بالسجون عامة، وبالسجن السياسي خاصة، لأن السجون مفردة شديدة الحضور في واقع مقموع سياسيًا. وعديدون منهم اكتووا بنيرانها. وبالتالي، فإن الحديث عن أدب السجون، يعني، على وجه التحديد، الأدب الإبداعي الذي يتناول تجربة الحياة في السجن بشكل عام. وقد يكون مكتوبًا داخل أسوار السجون أو خارجها. ومؤلفوه ليسوا بالضرورة قد خاضوا التجربة واقعيًا. وفي الحقيقة، فإن مصطلح أدب السجون مفهوم ارتبط في الثقافة العربية بالأدب الذي كتبه سجناء رأي، من أدباء ومثقفين، ممن تعرضوا لتجارب الحياة في السجون. وهذا الفهم، في الحقيقة، يضيّق المفهوم أو المصطلح، لأنه يتجاهل عمدًا أدب السجون الذي كتبته أو تكتبه فئات أخرى من الناس غيرهم.



علاقة الأدب بالسجن ليست وليدة العصور الحديثة، بل تمتد بجذورها عميقا في تربة الواقع الإنساني، وهذه السطور ليست مكرسة للخوض في تلك العلاقة، لكنها تهدف إلى الاقتراب من الإجابة على سؤال: "هل استطاع الكاتب العربي أن يقدم هذا العالم المؤلم بالصورة المرجوة؟"
قبل أن أُدفَع قسرًا داخل بوابة السجن المركزي بالعاصمة الليبية طرابلس بتهمة ملفقة، كانت كافية للزّج بي، وبأحد عشر كاتبًا ليبيًا آخر، لقضاء قرابة عقد من الزمن، في سجون النظام الليبي، قرأتُ ما كان متاحًا من كتب تناولت الحياة في السجون، سواء أكانت مذكرات سيروية أو روايات، أو قصص كتبها أدباء ومثقفون عرب وغيرهم. وحين انتهت تجربة السجن، ووجدتني خارج أسواره الخانقة، اكتشفت أن لديَّ شهية لقراءة ما أتيح لي من أدب يتناول تجربة السجون. قراءة أدب السجون بعد خوض تجربة العيش فيها، تختلف كثيرًا عن قراءته قبلها. قبل السجن، كان الغرض من قراءة أدب السجون التعرف على حيثيات ذلك العالم الرهيب والمرعب. بعد خروجي من السجن، قرأتُ أدب السجون بغرض المقارنة بين تجربتي السجنية، وبين تجارب غيري في بلدان أخرى عربية أو غيرها.
قبل خوضي تجربة السجن، قرأت أعمالا ابداعية وسيروية كتبها أدباء ومثقفون عرب، تتعرض لتجاربهم الشخصية في سجون مصر، والعراق، وسورية، والمغرب، والأردن، وليبيا، وفلسطين.  تلك الكتابات كانت تتفاوت في قيمتها الفنّية، بتفاوت قدرات مؤلفيها، ومدى تمكّنهم من الإحاطة بعوالم السجون، وتقديمها في شكل روائي، أو قصصي، أو شعري. وأعترف أنني بقدر ما أثارت في نفسي من خوف ورعب، تمكّنت تلك الأعمال، في نفس الوقت، من أن تكون لي ولرفاقي زادًا في السجن، ومصدرًا مُعينًا ساعدنا جميعًا على تحمّل السجن من خلال استيعاب عوالمه، والتعامل مع تفاصيله الغريبة والكثيرة. كنّا في جلساتنا، وخاصة خلال العامين الأولين، كثيرًا ما نتعرض في أحاديثنا إلى تلك التجارب، بغرض تذكر تفاصيلها والمقارنة بينها وبين عالمنا السجني. لكن ما قرأته بعد السجن، كان في مجمله قادمًا من بلدان أميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا. والعلاقة بين تلك العوالم وثيقة. ويمكن القول إن التجارب جميعها تتميز بخصوصيات، وأن الأدباء في أميركا اللاتينية كانوا، في رأيي، أكثر قدرات وإمكانيات إبداعية من غيرهم من كتاب البلدان الأخرى. وفيما يخصّ أدبنا السجني العربي يمكنني وبثقة القول إن ما كتب ونشر، وما وصلني منه وقرأته، وصل درجة عالية من الجودة فنّيا وجماليًا، وتمكن مؤلفوه من التوغل في تفاصيل ذلك العالم الغريب والمرعب في آن معًا، وأحاطوا إبداعيًا بتشابكاته، ومواجعه وآلامه، وكشفوا بمباضع جراحين موهوبين مكامن الداء في واقعنا السياسي العربي.

 

هاني حجاج (كاتب من مصر): توثيق أبشع جرائم الإنسان تجاه الإنسان

  هاني حجاج: أبواب المعتقلات مفتوحة على مصاريعها

















هل يُسجن الأديب أو صاحب الفكر؟ يحدث كثيرا ولا بد أن يحدث ما دام فعل الكتابة يتصل بالعمل الإعلامي الذي يتصل بدوره بهراوات الأمن وقبضة محاكم التفتيش في كل زمان ومكان. فإذا لم تكن تجربة الكتابة داخل الزنزانة عملية تصفية حساب مع الآخر الطاغية المهيمن فهي على الأقل مسألة تطهير من أزمة وجودية مريرة في جنبات المعتقل والتهمة: أنك تفكر، أنك تقول لا، أنك تنبه النيام! يعدها الروائي مصطفى لغتيري، مؤلف رواية "ابن السماء"، "تجربة إنسانية ووجودية ونفسية مريرة، قد يكون المرء قد عاشها فعليا أو سمع عن تفاصيلها من أحد السجناء، أو هي فقط عبارة عن تجربة متخيلة لها ما يدعمها في الواقع، مما حدث لكثير من السجناء، وتناقلته الألسنة أو وسائل الإعلام.. باختصار، إنه أدب يحاول توثيق أبشع جرائم الإنسان تجاه الإنسان". ومنذ وضع بوثيوس الفيلسوف والسياسي الروماني (480 – 525) مؤلفه (عزاء الفلسفة) الذي يُرجح أنه كتبه وهو في السجن وحتى يومنا هذا ظل أدب السجون يحمل طابع القتامة والسواد مهما حفل بالسخرية ومهما كانت حبكة الأحداث بوليسية مشوّقة.
النتاج العربي في أدب السجون كثيف، يصل جذره إلى ما قبل الشاعر أبي فراس الحمداني، حين كتب رومياته في زنازين الروم، لكن ثراء هذا النمط الأدبي الفريد انتعش في القرن الماضي، مع مجيء دول الاستعمار، وما تلاه من تغير في شكل الخارطة واشتعال الحرب على السلطة في عديد من الدول العربية، فألقت بالظلال بين الجدران ومعها الدسائس والمؤامرات، فيما بين الطرفين العتيدين الحكومة/ المعارضة، ما عجل بفتح أبواب المعتقلات على مصاريعها وانتشرت مصطلحات مسجون رأي وسجين سياسي. في رفوف المكتبة العربية عينات من "أدب السجون"، لا محالة سيمقتها القارئ من أول فصل، لقدرة أصحابها على استعمال اللغة لجذب القارئ إلى معايشة التجربة معهم وراء قضبان الزنزانة، لدرجة أن هذه الروايات تخلف ندوبا نفسية أحيانا. من ذلك رواية "القوقعة: يوميات متلصص" لمصطفى خليفة الروائي السوري المسيحي، يحكي فيها الأهوال التي رآها وعاينها وعايشها في السجون السورية، لأكثر من عقد كامل؛ بتهمة الانتماء إلى جماعة إسلامية، بالرغم من أنه كان قد عاد توا من فرنسا، حيث كان يدرس الإخراج السينمائي! ورواية المغربي أحمد المرزوقي "تزممارت: الزنزانة رقم 10" عن أعوام حبسه في السجن في "تزممارت" لتورطه في انقلاب 1971 ضد الملك الحسن الثاني، فقبض عليه وحوكم عسكريا بعد فشل المحاولة، ثم رحل إلى السجن، حيث تلقى أشد أنواع العذاب؛ منها وضعه في قبو مظلم، ومنحه فتات الطعام والماء الملوث، دون أن يرى أو يكلم أحدا. كتب المرزوقي "سأبقى أقول للجميع لا تقربوا السجن.. أعرف أن كلامي لن يلغي السجون، ليس في بلادي، ليس خلال حياتي".


وخلّفت أزمة المغرب السياسية في السبعينيات طائفة من أدب السجون، من أبرز تلك الأعمال رواية "تلك العتمة الباهرة" لطاهر بن جلون، الذي نقل من خلالها شهادة عزيز بنبين، أحد رفاق المرزوقي في سجن تزممارت، وكذلك رواية "من الصخيرات إلى تزممارت؛ تذكرة ذهاب وإياب إلى الجحيم"، لصاحبها محمد الرايس، ورواية "الساحة الشرفية" للكاتب والصحافي عبد القادر الشاوي، و"يوميات سجين متوسطي" للروائي حسن الدردابي، و"أفول الليل" للطاهر محفوظي، و"العريس" لصلاح الوديع. وتاريخ الأدب المصري يحمل عناوين شهيرة مثل (لا) و(سنة أولى سجن) لمصطفى أمين و(شرف) لصنع الله إبراهيم عن دكتور رمزي المتهم بقضية رشوة، ويكشف الجرائم التي ترتكبها شركات الأدوية بحق شعوب العالم الثالث.
"أخطر ما في السجن أن تفقد احترامك لذاتك، لأنك إن فعلت صارت رقبتك بيد جلادك، وصرت تتقبل منه الصفعة في وجه الكرامة على أنها قبلة في خدّ الرضى"- العبارة التي تخرج بها من أحدث روائي عربي تخصص في كتابة هذا اللون الأدبي، أيمن العتوم، في روايته (يا صاحبي السجن).

 

ضاهر عيطة (كاتب من سورية): إخراج المخبوء إلى العلن


تكاد ظاهرة "أدب السجون" في عالمنا العربي تكون أداة كشف لحدث يجري في الخفاء، في سراديب تحت الأرض، وحينما يمضي الكاتب للغوص في خفايا هذا الجحيم، إنما يعيد للمعذبين وللضحايا الذي تألموا أو قضوا فيه، شيئًا من اعتبارهم بوصفهم بشرًا تستحق آلامهم أن تخلد في نص روائي، سيما وأنه توجد آلاف المعتقلات على امتداد الجغرافية العربية، وغايتها جميعًا قهر الإنسان والنيل من كرامته والعبث بكيانه حد الموت في كثير من الحالات، فما يحدث داخل جدران تلك المعتقلات تعجز المخيلة البشرية عن توقع حدوثه على سطح الأرض، وحينما ينفي السفاح الأسد وجود معتقلين في سجونه، وبالتالي ينفي أن تحدث هناك عمليات تصفية وتعذيب، تأتي رواية أدب السجون، لتكذب مزاعمه، وتعمل على كسر تلك الجدران، وتخرج المخبوء فيها إلى العلن. وقبل أن أعيش تجربة الاعتقال، كنت قد تناولت المعتقلات السورية في روايتي "لحظة العشق الأخيرة"، معتمدا بذلك على ما كنا نسمعه عن تجارب المعتقلين، لكن بعد أن عشت تجربة الاعتقال، ولامست بعض أهوالها اللامحدودة، وجدت نفسي مشدودًا لتتبع الأعمال الروائية لكتاب كانوا قد اعتقلوا واستطاعوا التحرر من حالة الصمت والكتابة عن تلك التجربة المريرة في عمل روائي، وهذا الذي ما زلت غير قادر على فعله حتى الآن.. وربما كانت رواية "القوقعة" من أكثر الروايات التي أتت على وصف وسرد تفاصيل المعتقلات السورية في فترة من حكم الأب السفاح حافظ الأسد، إذ اشتغل مصطفى خليفة في حينه على تصوير الحدث في متن روائي، يسلط الضوء على ما يحدث هناك، ويزج القارئ للوقوف على أهوال ما يتعرض له المعتقلون من ويلات. ومؤخرًا، ومن رحم الثورة السورية، بدأت تظهر أعمال روائية على قدر عال من الأهمية، وقد استطاع كثير منها تحرير الأدب الروائي من وطأة المباشرة وتصوير الحدث كما هو في المعتقلات هناك، ما يشي بأن الرواية لا تسعى إلى تصوير الحدث كما هو، فهذه من مهام الكاميرا، بل تشتغل على الحدث المعطى في الواقع، لتحوله إلى حدث يجري في لحظة وفي مكان وزمان روائيين، يتكثف فيه الإحساس والأوجاع والمعاناة، المستقاة من حدث واقعي، لكنه محمول هنا على متن خيالي. ولعل أبرز ما يحضر في ذاكرتي من أعمال روائية اطلعت عليها في الفترة الأخيرة، رواية "لهذا أخفينا الموتى" لوائل الزهراوي، وهي رواية تعتمد على السرد الذاتي، لتغدو شهادة ذاتية لكاتبها عن تجربة اعتقاله ومعاناته، وما عايشه من ظروف قاهرة في جحيم المعتقلات السورية إبان الثورة السورية، وكذلك رواية "قبل حلول الظلام" لمعبد الحسون وهو سجين سابق في جحيم تدمر. وهذا العمل الروائي يرصد ببراعة ما يحدث في قاع ذاك الجحيم بمهارة تؤهله ليكون من أهم الوثائق عما يدور في سجن تدمر، حيث يتحدث في هذه الرواية عن شخصيات يعرفها السوريون، وعن آلاف الشبان من سوريين ولبنانيين وفلسطينيين تم دفنهم في قيعان تدمر، في حين ينأى معبد الحسون عن الذاتية في السرد، ولم يتطرق لوالده الشاعر وخبير الآثار مصطفى الحسون، الذي فجع باعتقال أبنائه في مطلع الثمانينيات، وصار يهيم في شوارع الرقة ويبكي شعرًا حزنًا على فلذات كبده، ومنهم معبد الذي يكتب سيرة الآخرين اليوم ويوثقها. كذلك لا يمكن إلا أن أقف عند رواية "المحاكمات الإلهية 601" للصحافي جابر بكر، التي يتناول فيها الانتهاكات الذي يعانيه معتقلو مشفى المزة العسكري 601، وهو معتقل سابق في سجون النظام السوري، حيث يروي شهادات بعض الناجين من هذا المعتقل بحرفية عالية، ويأتي عنوان الرواية من مقولة للسجان "حكمت عليك المحكمة الإلهية بالقتل" وذلك حينما يراد تصفية سجين من السجناء، وما يميز هذه الرواية أنها تحرر القارئ من شعور الذنب تجاه السجناء، لكون سورية اليوم أصبحت بكاملها سجنًا، والجميع فيه ضحايا ومعذبون. وهي إضافة لذلك تطرح أسئلة عن ماهية الحرية، وعن اعتقال الإنسان، وعن السعادة والحزن وقيم الإنسان، لتحمل في متنها السردي عدة أصوات، دون أن تقتصر على صوت الضحية فقط.

سيروان باران

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.