}

عام أحزان استثنائية.. مبدعون غادرونا في 2020 (2-2)

دارين حوماني دارين حوماني 4 يناير 2021
هنا/الآن عام أحزان استثنائية.. مبدعون غادرونا في 2020 (2-2)
2020 كان عام أحزان استثنائية

كثيرة هي الخسارات التي تحاصرنا ونحاول الإفلات منها لكنها تظل تنبش فينا باستمرار، لا نريد أن نعدّها لكنها تظلّ على علاقة وطيدة معنا، تلك التي نسمّيها فقدان أفراد كانوا لنا بمثابة الضوء في عالمنا الجوّاني، وكانوا ذات يوم قادرين على تشكيل وجوهنا بالفرح أو بالحزن. ثمة خسارات مرتبطة بذلك العالم البرّاني، العالم الذي نسمّيه العالم العربي، الذي خسر وخسرنا معه مبدعين تناوبوا على منحنا سماء ملوّنة واحتمالات لحياة أخرى أقل تورّطًا مع الموت، قبل أن يرحلوا في السراب. 
عام 2020 كان عام أحزان استثنائية، ألقى بسطوته الرمادية على العالم كله، واختطف كثيرين ممّن قدّموا للعالم العربي عدسة نرى من خلالها الحياة بشكل أوسع وأعمق وأقل ظلمة. سنحكي هنا عن بعض الأسماء التي حفرت عميقًا فينا، وثمة مبدعون آخرون، جذورهم باقية في هواء العالم العربي، لكن سطور هذه المقالة لن تسعهم، منهم من صمت قبل رحيله بسنوات، ومنهم من فاجأه الموت وهو يحاول أن يقول شيئًا. سنحكي قليلًا عن المخرج السوري حاتم علي، الشاعر الفلسطيني هارون هاشم رشيد، النحات المصري آدم حنين، الشاعر اللبناني صلاح ستيتية، المخرجة المغربية ثريا جبران، الكاتب الفلسطيني رسمي أبو علي، الكاتب والناشر السوري رياض الريّس، الناقد المسرحي المصري حسن عطية، الروائي المصري رفعت سلام، الروائية المغربية نعيمة البزّاز، الكاتب المصري سعيد الكفراوي، الروائية العراقية ناصرة السعدون، المخرج السوري علاء الدين كوكش، الكاتب المصري نبيل فاروق، والشاعر المغربي حكيم عنكر.
هنا الجزء الثاني والأخير:

رياض الريّس
رياض الريّس (1937)، الكاتب والناشر و"الصحافي المنبوذ من الصحف العربية"، منذ تفتّحت عيناه على السياسة والكتابة كان قلبه أخضرًا يشي للعالم العربي بما يضيء ممرّاته. والده نجيب الريّس أحد رجالات الاستقلال في سورية، أسّس جريدة "القبس" الدمشقية فنشأ الابن في بيت صحافي وسياسي. درس الريّس في ثانوية برمانا الداخلية في لبنان، ثم سافر إلى لندن حيث أنهى دراسته الجامعية. عندما عاد إلى لبنان في عام 1961 بدأت مسيرته الهائلة مع سعيد فريحة في دار الصياد، ثم مع كامل مروة في الحياة، ثم في النهار مع غسان تويني، قبل أن يهاجر من لبنان في عام 1975 مع بداية الحرب الأهلية اللبنانية، ويحكي الريّس عن تلك الفترة أنها كانت العصر الذهبي في الصحافة اللبنانية والعربية. في لندن أسّس جريدة "المنار" في عام 1977، لكنها لم تكمل مسيرتها بسبب عدم وجود دعم مادي، فأصدرت ستة وثلاثين عددًا فقط. عمل الريس في صحف أجنبية عدة منها "ديلي ميرور" و"صنداي تايمز". في عام 1985 أسّس دار نشر "رياض الريس للكتب والنشر" وافتتح مكتبة الكشكول في لندن لتسويق الكتاب "العربي"، وفي عام 1988 أصدر مجلة "الناقد" التي تُعنى بالنقد الأدبي لكنها توقفت في عام 1995 عن الصدور، ثم مجلة "النقّاد" من عام 2000 حتى عام 2003. عن عودته إلى بيروت بعد انتهاء الحرب الأهلية يقول: "عدت إلى بيروت بحنين عاشق لامرأة تركها ربع قرن، ظانًّا أن الزمن لم يغيّرها. رغم الصدمة، حاولت أن أغفر لها. ثم اكتشفت أن التغيّر أكبر من لهفتي وحنيني".
اجتازت مؤلفات الريّس أبوابًا عدة فكتب سبعة وثلاثين كتابًا في السياسة وفي الشعر وفي السيرة الذاتية، وكان عضوًا في مجلة "شعر" مع صديقه المقرّب يوسف الخال، ومن إنتاجاته: موت الآخرين" (1962)، :"رياح السموم" (1991)، "مصاحف وسيوف" (2000)، "الصحافة ليست مهنتي" (2001)، "لبنان تاريخ مسكوت عنه" (2001)، و"صحافي المسافات الطويلة" (2017)، وكان آخر ما كتبه "صحافة للنسيان" الذي جمع فيه مقالات مهمة من تاريخه الصحافي مذيّلًا الكتاب "بيروت- زمن الوباء- نيسان/ أبريل 2020"، ونُشر الكتاب بعد يومين من وفاته في 26 أيلول/ سبتمبر 2020 إثر إصابته بفيروس كوفيد 19.
يقول الريس في أحد حواراته: ""أنا منبوذ من كل الصحافة العربية اليوم. بعد تجربتي في صحف عدّة صار عليّ حظر. يقولون إن اسمي يسبّب الصداع. التصقت بي صفة الكاتب المشاكس. إنهم يرفضون أن أكتب قبل أن يعرفوا ماذا سأكتب". كان الريّس، في مسيرته الكاملة، ذلك الناشر الجريء والصحافي الجريء، الذي كتب ونشر لنا، للوعي وللمعرفة وللحقيقة، دون أن تهتزّ أصابع يديه.


حسن عطية
حسن عطية الملقب بـ"أيقونة النقد المسرحي"، أحد أبرز رموز حركة التنوير في النقد الفني والأدبي الذي أثرى المكتبة العربية بأكثر من عشرين مؤلفًا في النقد المسرحي والسينمائي. التحق خلال دراسته الثانوية بالتيار اليساري التقدمي وشارك في مجلة "الطليعة" التي وجّهته نحو الفلسفة الاشتراكية. ويُرجع عطية الفضل في ميوله هذه إلى أنه نشأ في شارع فؤاد بالإسكندرية، وهو نفس الشاعر الذي عاش فيه الشاعر اليوناني كافافي، وكان عطية محاطًا بعدد من دور المسرح والسينما ومنها سينما فؤاد الذي يجاور منزلهم، فانجذب إليها منذ الصغر. تخرّج عطية من المعهد العالي للفنون المسرحية من قسم النقد المسرحي في عام 1971، ودراسات عليا من كلية الإعلام بالقاهرة في عام 1981. وسافر ضمن أول بعثة مصرية إلى إسبانيا وحصل على دكتوراه في فلسفة الفنون عن "المنهجية السوسيولوجية في النقد" من جامعة الأوتونوما بمدريد.
بدأ عطية يكتب منذ عام 1970 في الصحافة الأدبية العربية والإسبانية ناقدًا للمسرح والسينما وصحافيًا متابعًا لقضايا العمال ونشاطهم النقابي، ومنها صحف "العمال"، "الطليعة"، "المساء"، "المسرح"، وكان في الوقت نفسه أستاذًا لنظريات الدراما والنقد وعلوم المسرح بأكاديمية الفنون، ومديرًا لتحرير مجلة "الفن المعاصر" الأكاديمية المحكّمة.
كان لعطية مشروع متكامل تجاه المجتمع، فقد كان يعتبر أن الناقد لديه دور ومسؤولية تجاه مجتمعه. تتبّع عطية النظريات النقدية والاتجاهات الحداثية وما بعد الحداثية في المسرح والسينما، وتابع المنهج الاجتماعي وتطوره، كانت له رؤية سوسيولوجية في ممارسته النقدية فيضع كل عمل في سياقه العام ويعتبر أن النص مرهون بشروط الواقع الاجتماعي والحياة السياسية. رأى عطية أن على الناقد أن ينخرط في المتابعة النقدية للحركة الفنية المسرحية والسينمائية والأدبية ويواكبها باستمرار وأن يدرك ذوق الجمهور فيخفّف من التفتيت الفكري الذي صاحب الانتاجات الأخيرة.
شغل حسن عطية العديد من المناصب على فترات من حياته منها منصب عميد المعهد العالي للفنون المسرحية، ورئيس المهرجان القومي للمسرح، ورئيس الجمعية العربية لنقاد المسرح، ورئيس جمعية نقاد السينما المصريين. وكان عضوًا في العديد من المجالس واللجان العلمية والمهرجانات والمسابقات الفنية في حقول المسرح والسينما والتليفزيون، وعضوًا في لجان قراءة الأعمال الدرامية التليفزيونية بقطاع الإنتاج بالتلفزيون المصري وقطاع الإنتاج بمدينة الإنتاج الإعلامي، وقطاع الإنتاج بشركة صوت القاهرة والإذاعة المصرية وغيرها.
نشر حسن عطية في حياته العديد من الكتب في المسرح والسينما والفنون الشعبية ومنها "الثابت والمتغيّر" (1989)، "السينما في مرآة الوعي" (2003)، "سوسيولوجية الفنون المسرحية" (2004)، "سينما أميركا اللاتينية" (2006)، "المنهجية وحق الاختلاف" (2009)، "مطاردة الإبداع وجدل الأزمنة" (2013)، "دليل المتفرج الذكي إلى المسرح والمجتمع" (2018)، و"زمن الدراما" (2018) وهو الكتاب الذي "أعاد الاعتبار للدراما بوصفها جنسًا فنيًا في هذا العصر، ودحض مقولة أنه زمن الرواية"، كما كتب عنه النقّاد. ونقل عطية إلى لغة الضاد العديد من الكتب عن الإسبانية، وخلف كل ذلك كان ثمة روح مصفّاة رقيقة وبيضاء تركت عالمًا كاملًا من الحب للمسرح إرثًا للمكتبة العربية قبل أن ترحل في 27 تموز/ يوليو 2020.


رفعت سلام
رفعت سلام (1951) المتعدّد الأصوات، "الحارس النائم عند الحائط الهديم"، المخلص للشعر، سيحصل على إجازة في الصحافة في عام 1973 وفي عام 1977 سيؤسّس ورفاقه حلمي سالم وجمال القصاص وحسن طلب على نفقتهم الخاصة مجلة "إضاءة 77" وسيشكلون معًا المربع الذهبي لقصيدة الحداثة في مصر فكان لهم البيان التأسيسي الشعري المغاير للسائد من أجل توسيع أفق القصيدة العربية. يقول سلام عن ذلك: "بدا العدد الأول كحجر ألقي في بحيرة راكدة، كتابة غريبة، صادمة، متصادمة، منذ افتتاحية العدد الأول، مع التيارين اللذين يسودان الساحة الأدبية آنذاك: التيار التفعيلي، الذي يعلي من شأن الوضوح وسلاسة اللغة الشعرية وانضباط الوزن، وتيار الواقعية الاشتراكية الذي يعلي من شأن الجمهور وضرورة التفاعل معه". الشعر بالنسبة لسلام مغامرة دائمة وهو "نص مفتوح على الهاوية". نهل سلام من التركة الفكرية والشعرية العربية من امرئ القيس وطرفة بن العبد وأبو نواس والمتنبي والمعرّي، وفي الوقت نفسه كان يتجه غربًا صوب رامبو وإليوت والآخرين الذين لم يرسموا طريقًا له بل دفعوه ليجد طريقه الخاص في الكتابة الشعرية والنقدية والفكرية. صدرت له تسعة دواوين شعرية منها "وردة الفوضى الجميلة" (1987)، و"كأنها نهاية الأرض" (1999)، و"حجر يطفو على الماء" (2008). وكان آخر ما صدر له شعريًا "أرعى الشياه على المياه" الصادر عن دار مومنت في لندن (2018). تنطوي جميع أعمال سلام الشعرية على ما هو إيقاعي وتفعيلي، لكن ليس كنمط إيقاعي رئيسي، بل كنمط مشارك، فهو لم يجد نفسه ملزمًا بذلك. كما كتب سلام عددًا من الدراسات والأبحاث منها "المسرح الشعري الشعبي" (1986)، و"بحثًا عن التراث العربي: نظرة نقدية منهجية" (1990)، و"بحثًا عن الشعر" (2010). أمضى سلام حياته في نقل الأدب العالمي إلى لغة الضاد حتى آخر أيام حياته، بدأ بترجمة بوشكين بهدف التعمّق في تجربة مؤسّس الحداثة الروسية ووجد نفسه يتجه تدريجيًا نحو ترجمة الأدب العالمي من ماياكوفسكي، بودلير، والت ويتمان، كفافي، ريتسوس، ليرمنتوف وغيرهم، وكان في الوقت نفسه يعمل في "وكالة أنباء الشرق الأوسط" المصرية الرسمية، كما راجع وقدّم النسخة العربية لكتاب "قصيدة النثر من بودلير إلى الآن" لسوزان برنار والذي نقلته إلى العربية راوية صادق، زوجة سلام. نال سلام جائزة كفافي الدولية للشعر عام 1993.
سيرحل رفعت سلام في 6 كانون الأول/ ديسمبر 2020 حزينًا على عالم عربي لا يقرأ، يقول في أحد حواراته: "لم يعد الشارع والقارئ العادي معنيًّا بالشعر ولا بالثقافة، ولم يكن يعرف نجيب محفوظ إلا من الأفلام المأخوذة عن رواياته، لا من رواياته ذاتها. فهذا الجمهور ليس معيارًا، فيما يتعلق بالإبداع. هو جمهور لا يتأسّس في مراحل تعليمه المختلفة على أعمال طه حسين ونجيب محفوظ وصلاح عبد الصبور، بل على أعمال مجهولة لأدباء مجهولين، بلا قيمة أدبية أو ثقافية. ثم تتلقفه أجهزة الإعلام لترسّخ لديه قيم التفاهة والجهل. وسيزداد انحدار وعيه بوتيرة أعلى، مع تخلّي الدولة عن مسؤولياتها الثقافية، ومحاصرتها- في نفس الوقت- لأي جهد أهلي بديل".


نعيمة البزّاز
نعيمة البزّاز (1974) الروائية المغربية التي اقتفت أثر المغاربة في هولندا وكتبت عن سلوكياتهم بكامل بؤسها. انتقلت مع أهلها من المغرب إلى هولندا وهي في عمر الأربع سنوات، وهناك حصلت على إجازة في القانون، وأصدرت روايتها الأولى "الطريق إلى الشمال" وهي في عمر 21 ونالت عليها جائزة هولندية فور صدورها. أصدرت بعدها ست روايات أثارت جدلًا واسعًا في المجتمع الهولندي وهي "عاشقة الشيطان" (2002)، "المنبوذة" (2006)، "متلازمة السعادة" (2008)، "نساء فينيكس" (2010)، "المزيد من نساء فينيكس" (2012)، ثم "في خدمة الشيطان" (2013). ما فعلته البزاز هو أن كتبت عن العلاقات المحرّمة والأب المغربي الذي يخاف على شرف ابنته القاصر في مجتمع هولندي منفتح، وعن علاقة حب بين مغربية ويهودي، وعن رجال الدين ذوي اللحى الطويلة، وعن الجيل الثاني من المغاربة في هولندا وطبقات الصراع بين الجيلين الأول المحافظ والثاني الذي يريد الانفلات من مقصلة التقاليد التي جلبوها معهم من المغرب العربي. كما كشفت المخبوء من عنصرية الهولنديين ونفاقهم وكراهيتهم للمغاربة. كتبت البزاز بيد جريئة لا تخاف التابوهات، كتبتها بلغة غير عربية كي تكون أكثر حرية وأكثر جرأة، لكن ذلك لم ينفعها كثيرًا، فقد توغّلت في الحب المحرّم والجنس والمخدّرات والجهل المجتمعي العربي، وهذا ما عرّضها مرارًا للتهديد بالقتل من قبل إسلاميين متشدّدين في هولندا رأوا أن أدبها ساقط ومسيء للإسلام، فانتقلت للإقامة في حي هولندي راقٍ لتبتعد عن الجالية المغربية، ومن هناك نقلت سلوكيات الهولنديين العنصرية ونفاقهم الاجتماعي في روايتيها "نساء فينيكس" و"المزيد من نساء فينيكس" ما أثار أيضًا غضبًا من المحيطين فيها، ولم ينتهِ مسلسل التهديد فتعرّضت لرمي قنبلة قربها. صمتت البزاز منذ عام 2013 حيث أصابها اكتئاب حادّ بعد معاناة طويلة مع المجتمع الذي نقلت جهله والحقيقة الكاملة إلى الورق.
في آخر تدوينة على حسابها في تويتر كتبت البزاز: "لا تخافوا استمروا في الكلام ولا تصمتوا"، لكن البزاز لم تتأخر كثيرًا لتنهي حياتها بالانتحار، تاركةً لنا حزمات من الحكي عن معظم بلادنا التي لا تريد أن تعترف بأمراضها ولا أن تحصيها لتستبدلها بأرض أقل كآبة وأقل موتًا.



سعيد الكفراوي
سعيد الكفراوي (1939) "ناسك القصة القصيرة"، ينتمي إلى جيل الستينيات الذين "كانوا مثل وثبة مضادة ضد الثابت، جيل هزيمة الآمال، جيل افتقاد الثقة في الأجيال السابقة" كما يصفهم الكفراوي. حصل على دبلوم في التجارة في عام 1961، لكنه عشق قصّ الحكايات منذ الصغر وكان الصوت الأدبي يتردّد في داخله منذ اليوم الأول الذي أخذته فيه جدته إلى الشيخ لتقول له: "موّته حتى يتعلم"، ومن هناك بدأت ثيمة الموت تتوغّل في حكاياته التي بلغت خمس عشرة مجموعة قصصية ورواية لم تكتمل، يقول عن ذلك: "توفيت فتاة كانت ترافقني إلى الشيخ، في جنازتها رأيت عظام الموتى أمام القبر، في تلك اللحظة فكّرت في سؤال الموت، وهو منبع الألم في كل ما أكتب، وسألت جدتي أين يذهب الناس بعد الموت". بدأت لقاءات الكفراوي مع جابر عصفور، محمد المنسي قنديل، جار النبي الحلو، نصر حامد أبو زيد، محمد صالح، وفريد بو سعدة، كانوا "شباب المحلة" المشغولين بالأدب والفكر، انتقلوا إلى مقهى "ريش" في القاهرة حيث نجيب محفوظ، جمال الغيطاني، إبراهيم أصلان، يحي الطاهر عبد اللـه، محمد عفيفي، عبد الرحمن الأبنودي، وأمل دنقل، ويقول الكفراوي عن تلك المجموعة: "التحقت بالحلقة، وانتسبت لهذا الجيل، ففتح عينيّ على وعود الحلم القومي، الذي صدمته الهزيمة المروّعة، فأعلن هذا الجيل تمرّده على من صنعوا الهزيمة". بدأ الكفراوي بنشر قصصه في مجلة "المجلة" في تلك الفترة، لكن الحادثة التي لا تُنسى عندما نشر قصة "المهرة" في مجلة "سنابل"، فتم اعتقاله قبل رحيل عبد الناصر بأيام، لأن السلطات اعتقدت أن القصة تتحدّث عن الرئيس جمال عبد الناصر، وسُجن في سجن انفرادي لمدة ستة أشهر بتهمتين. عند خروجه من السجن سيُخبر الكفراوي نجيب محفوظ عن ذلك: "كاتب معتقل يحقّق معه في الصباح اثنان باعتباره شيوعيًا، وفي المساء يحقّق معه اثنان باعتباره إخوانيًا، وهكذا على مدار ستة شهور، وأنا لم أكن لا هذا ولا ذاك"، ويضيف الكفراوي في أحد حواراته: "يومها قال لي نجيب محفوظ بانفعال: "اقطع هذا الشوط الرديء من حياتك"، ثم بعد شهور صدرت روايته "الكرنك"، فوضع يده على كتفي وقال لي: "يا كفراوي انت اسماعيل الشيخ اللي في الرواية"". بعدها سافر الكفراوي إلى السعودية لخمس سنوات للعمل، وعندما عاد وجد أن تلك الحلقة قد انفرطت، و"أن الأماكن والأصدقاء والزمان قد تغيّروا، لقد عدت إلى مدينة لا أعرفها".
من أبرز أعمال الكفراوي: "مدينة الموت الجميل" وهي أولى مجموعاته، "سترة العورة"، "دوائر من حنين"، "بيت للعابرين"، "كشك الموسيقى". حصل الكفراوي على جائزة السلطان قابوس للقصة القصيرة، وترجم عدد من أعماله إلى اللغات الأجنبية منها، الإنكليزية والفرنسية والألمانية والتركية والسويدية والدنماركية. كما أنتجت مؤسسة السينما العراقية فيلمًا عن قصته "الفلاح والرئيس" بعنوان "مطاوع وبهية".
شخصيات الكفراوي مرتبطة بذاكرة قريته والموروث من الشعب المصري، وهو القائل: "أحاول في كتاباتي بقدر استطاعتي أن أضيّق المساحة بين صوتي الكاتب والشخصية"، كائناته ملتصقة بما في الوجود الانساني من أسئلة، وثمة حنين إلى زمن لن يعود، لغة الكفراوي فيها من الحزن ما فيها من السخرية ومن الموت ومن الحنين للحياة.
"الأدب هو أنين ضد الوجود الهش، ذلك الوجود الذي ينزل فيه الشاعر إلى طبقات الموت ثم يعود ليحكي عن سفره محولًا الجحيم إلى غناء. أكتب تحت وطأة ذاكرة عمرها نصف قرن تقريبًا، ذاكرة محمّلة بإرث فادح، عاشت تلك الذاكرة ولم تنشغل يومًا بقيمة أو عدم قيمة ما تنتجه من أدب. أنا أؤمن بأن الأدب ألم لا يُنسى ودفاع عن الحياة ضد الفناء"- يقول الكفراوي الذي بقي مخلصًا لقصته القصيرة ولقريته وللحياة في مواجهة الموت الذي كان هاجسه وأخذه في صباح يوم 14 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020.



ناصرة السعدون
ناصرة السعدون (1946) الروائية التي قصّت علينا حكاية الآلام العراقية بقلب امرأة اختبرت الهزائم المتعدّدة في بلدها. حصلت السعدون على إجازة جامعية في الاقتصاد في بغداد ثم على دبلوم في الأدب الفرنسي من فرنسا. كانت السعدون أبرز المناضلين لحقوق المرأة في العراق، وشغلت مناصب رسمية عدة منها منصب مدير عام بوزارة الثقافة والإعلام، كما ترأست تحرير جريدة "بغداد أوبزرفر" وهي جريدة حكومية عراقية بالإنكليزية بدأت في عام 1967 وتوقفت عن الصدور في عام 2003. وهو العام الذي تركت السعدون فيه أرض العراق لتختار الأردن مكانًا لإقامتها حتى وفاتها، إثر الغزو الأميركي للعراق. كتبت السعدون مسرحية "أحلام مهشّمة" (2003) وخمس روايات تحمل ثيمات المعاناة والاغتراب والألم المستديم، أولها "لو دامت الأفياء" (1986) وآخرها "دوامة الرحيل" (2015) والتي حازت على جائزة كتارا للرواية العربية، وما بينهما اشتغلت السعدون بالترجمة فنقلت إلى لغة الضاد أكثر من عشرين كتابًا في الفكر والسياسة والرواية منها "الفندق" لآرثر هيلي، "بوش الامبراطور" لغوندر فرانك، "اليهود ديانتهم وتاريخهم" لإسرائيل شاحاك، "أزهار الجليل" لإسرائيل شامير، "أميركا بين الحق والباطل" لأناتول ليفن، "أحزان سوني" لجايمس بالدوين وكذلك ترجمت سيرة عالم النفس السويسري كارل غوستاف يونغ.
في 24 نيسان/ أبريل 2020 توفيت ناصرة السعدون في الأردن، منفاها الاختياري منذ عام 2003، بعد أن أحدث غزو العراق ألمًا عميقًا في قلبها فقرّرت أن لا تعود إلى بلادها بعد ذلك تاركة لنا ذلك الوجع في روايتها الأخيرة وعلى غلافها كتبت: "غزو العراق واحتلاله زلزل حيوات الكثير من أهله، ويمكن كتابة الكثير من الروايات عما جرى بعد الاحتلال، بطلة الرواية هي بعض من وجع العراق وخساراته، وبعض خساراته، الاقتلاع القسري من الأرض والبيت والأهل، وإعادة الزرع في أراض جديدة".


علاء الدين كوكش
علاء الدين كوكش (1942) من ذلك الجيل، "جيل الستينيات"، الأكثر عطاءً. درس الفلسفة في دمشق، لكنه مع تأسيس التلفزيون السوري في عام 1960 التحق به، وشكّلت البعثة إلى ألمانيا في عام 1966 لدراسة الإخراج انطلاقته في عالم الإخراج، فأسّس عند عودته مع رفاقه "دائرة الدراما" في التلفزيون السوري، وبدأ بإخراج المسلسلات في زمن الأبيض والأسود منها "مذكرات حرامي" (1969) الذي كان أول مسلسل ينقل البيئة الشامية، ثم "حارة القصر" (1970)، "أولاد بلدي" (1972)، "أسعد الوراق" (1975)، كما أخرج كوكش أول مسلسل في الوطن العربي "رأس غليص" (1976) الذي تم تصويره في دبي. في عام 1971 سيعمل كوكش على إخراج مسرحية "حفلة سمر من أجل 5 حزيران" للكاتب المسرحي سعد الله ونوس والتي قدّمها المسرح القومي السوري، وتناول فيها ونوس وكوكش أثر نكسة حزيران على الشارع العربي، ولقيت نجاحًا مذهلًا في سورية ولبنان، لكن وبعد أربعين عرضًا سيتم توقيف عرضها من قبل السلطات السورية. وقدّم بعدها كوكش مسرحية "فيل يا ملك الزمان" شرح فيها العلاقة الأزلية بين الضحية والجلاد.
قدّم صاحب "إنهم ينتظرون موتك" أكثر من أربعين مسلسلًا، رافضًا أن يقدّم العمل على أجزاء عديدة بحجة نجاح المسلسل، لأسباب تجارية. في أعماله التلفزيونية وثّق كوكش الحياة الشامية القديمة والمعاصرة، وأسّس لما يسمّى "البيئة الشامية"، وقدّم أعمالًا اجتماعية ومسلسلات تاريخية وتراثية منها "الذئاب" (1989)، "بيوت في مكة" (1983)، "الرجل سين" (1999)، "حكايا الليل والنهار" (2006) وكان آخر أعماله مسلسل "القربان" في عام 2014. كما قدّم كوكش أعمالًا سينمائية، وقدّم عددًا من المسرحيات وجمعها في كتاب "مسرحيات ضاحكة" نشره في عام 2002. كما كتب القصة القصيرة آخرها "إنهم ينتظرون موتك" في عام 2006.
في 6 كانون الأول/ ديسمبر 2020 سيتوقف قلب علاء الدين كوكش وهو في مكان إقامته في مأوى للعجزة في سورية، منفاه الاختياري منذ عام 2012، سيرحل مخرج "حفلة سمر من أجل 5 حزيران" حزينًا على بلاده وعلى مبدعيه الذين هجروه بالتتابع بعد الحرب السورية، وهو الذي قال في أحد اللقاءات: "الهدف من العمل الفني أن لا نصل بالإنسان إلى ما حصل بالمكان".


نبيل فاروق
نبيل فاروق (1958) رائد الأدب البوليسي الذي أنهى تخصّصه في الطب والجراحة في عام 1980 اعتزله بعد عشر سنوات ليتفرّغ لكتابة القصص والروايات البوليسية والتي كان لها الأثر الكبير في نفوس القرّاء وخصوصًا المراهقين. أولى قصصه كانت "النبوءة" (1979) والتي حازت على جائزة من قصر ثقافة طنطا، وفي عام 1984 فاز عن قصة "أشعة الموت" بجائزة تقدّمها المؤسسة العربية الحديثة والتي أصبح مديرها في وقت لاحق. في عام 1985 بدأ فاروق بكتابة سلسلة "ملف المستقبل" والتي حوّلته إلى أشهر كاتب قصة من الخيال البوليسي. وتوالت من بعدها القصص والروايات البوليسية منها سلسلة "رجل المستحيل"، سلسلة "فارس الأندلس"، سلسلة "روايات عالمية للجيب"، رواية "ظل الأرض"، رواية "الثورة" وغيرها من الروايات. كما كتب فاروق كتبا بحثية في الجاسوسية ومنها "للجاسوسة فنون"، وقد كان على علاقة مع أفراد من المخابرات المصرية كانوا مصدر إلهام له للكتابة. يقول عن بداياته: "بدأتُ في كتابة الخيوط الأولى لشخصية "أدهم صبري" من نسيج ضباط المخابرات الذين كنت ألتقي بهم". كتب فاروق أيضًا في عدد من المجلات والجرائد منها جريدة الدستور ومجلة الشباب القومية. وفاز بعدد من الجوائز ومنها جائزة "إبداع أكتوبر" في مهرجان ذكرى حرب أكتوبر في عام 1998 عن قصة "جاسوس سيناء: أصغر جاسوس في العالم"، كما فاز بجائزة الدولة التشجيعية من قناة النيل الفضائية. وقد أنشأ قسم دراسات الشرق الأوسط في جامعة فيرجينيا الأميركية موقعا خاص لفاروق.
في 9 أيلول/سبتمبر 2020 توفي نبيل فاروق، وهو يشعر بالأسف لأن العربي يعيش على التقليد للغربي في المجال السينمائي، وهو الذي قال آخر أيام حياته: "جميع القصص والأفلام التي نقرأها ونشاهدها هي ‘مسوخ أميركية’ ومع ذلك لم نصل للإبهار الأميركي، ولم نصنع منتجنا المصري الأصيل".




حكيم عنكر

حكيم عنكر (1968) الشاعر والصحافي، الذي بكّر في الرحيل بعد أن باغته كوفيد 19. تخرّج صاحب "رمل الغريب" من كلية الآداب، قبل أن ينخرط في العمل الصحافي في كل مجالاته، فكتب في السياسة وفي المجتمع وفي النقد الأدبي على صفحات عدد من الصحف المغربية والعربية منها "الأنوار"، "المنظمة"، "مغرب اليوم"، "المنعطف"، "المساء"، "الخليج"، وأخيرًا في "العربي الجديد". وكان يثير في كتاباته الأدبية العديد من القضايا غير التقليدية ويتساءل عن دور المثقف والناقد وعن مواكبة النقد العربي لتحولات النص الأدبي العربي واستيعابه لها، في الوقت الذي "يكتسي النقد الأكاديمي بالطابع الحجري". وقد كتب عنكر الشعر فكانت له خمس مجموعات شعرية أبرزها "رمل الغريب" (2001)، "مدارج الدائرة" (2006).
في 9 كانون الأول/ ديسمبر 2020 سيرحل عنكر تاركًا بين أيدينا إنتاجاته الأدبية ومقالاته العديدة إرثًا جميلًا مع حزنه على الكتّاب العرب "بيوت الكتّاب العرب وأهل الفن، قصة أخرى في ظل مطالبات ونضال مرير بوضع "اعتباري" للكاتب العربي لم يتحقّق منذ "استقلالات" الأوطان، إلى "تلفها" الآن".

*****

"أقنعة موت/ باب يُفتح، نافذة تُغلق/.. قال: إنهم يضاعفون الموت/ الموتى وحدهم/ يظلّون مستيقظين وهم ممدّدون/ الموتى فقط/ عيونهم مشعة كالفوسفور/ إنهم يشعلون ثقوبًا في الليل/ ونحن ننتظر/ خلال هذه الثقوب، نحن نرى/ الوجه والأضواء..."- سيكتب يانيس ريتسوس هذه الكلمات ونحن نشعر معها بكمية الضوء التي أتاحتها لنا كتابات وأعمال هؤلاء المبدعين، لقد عدّدوا لنا عن ظهر قلب ما يلزم للمعرفة وللحقيقة فلم يتركونا وحدنا، لقد تركوا أشياءهم، وجوههم، وعيونهم التي لن تبهت على طريق الموت.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.