}

السيرة الذاتية.. هل تتجاوز الخطوط الحمراء؟

ضفة ثالثة ـ خاص 8 يناير 2021
هنا/الآن السيرة الذاتية.. هل تتجاوز الخطوط الحمراء؟
(Getty)

بالرغم من أنّ كتب السيرة الذاتية تحمل قدرًا لا بأس به من الخيال، إلا أنّه يظلّ أدب الاعتراف والبوح الشخصيّ والحميمي، وصولًا إلى كشف أحداث وأسرار في حياة المبدع.
لكن يبقى السؤال الأهم: إلى أي درجة يستطيع الكاتب في مجتمعنا أن يكشف أسرار حياته الشخصيّة، وهل ثمّة خطوط حمراء يصعب تجاوزها؟
هذا السؤال كان محور تحقيقنا في هذا الملف الخاص مع عدد من الكتّاب، جلّهم ممّن نشروا كتبًا تتناول سيرتهم الذاتية في الآونة الأخيرة.

                                                                 (عماد الدين موسى)

 

شربل داغر (شاعر وأكاديمي لبناني):
هذا ما فضحَه وعرّاه محمد شكري

شربل داغر 

كان لي دومًا موقف متردد من السيرة الذاتية في الأدب العربي. كُتابها الأوائل تحرجوا منها، مثل طه حسين، وتوفيق الحكيم، وغيرهما، فكتبوها من دون أن يتقيدوا بقواعدها.
وهو حرجٌ اجتماعي، وليس حرجًا أدبيًا، ما دام أن أسماءهم اللامعة ومكاناتهم تقدمت إلى سيرهم قبل أي شاغل أدبي.
هذا ما فضحَه وعرّاه محمد شكري، بسيرته الموجعة والفاقعة، الذي ما كان له أن يخسر بكتابة سيرته، مقابل ما كان يحلم بالفوز به: أن يصبح أديبًا.
أنا تحرجتُ بدوري من كتابة السيرة الذاتية، ولكن لأسباب أدبية تحديدًا.
أعتقد أن هذا النوع السردي، وهو جديد في الأدب، هنا وهناك، لا ينتسب إلى الأدب صراحة، بل هو ناتج اجتماعي في الأدب، ويتعلق بصورة الأديب "الخارجية" خصوصًا.
الأدب، عندي، ينتسب دومًا إلى التخييل، وإن استند صراحة، أو ضمنًا، إلى معطيات متأنية من حياة الأديب نفسها.
الأدب، عندي، لا يصدر عن الصدق، والأمانة، والدقة، فهي صفات غير قائمة في عمل الأدباء، ولا سيما عند الشعراء منهم.
ولا زلت مقتنعًا بأن أجمل الشعر أكذبه...
ولا زلت أتحقق، في تدريسي لهذا النوع السردي، من أن كتابته بعد وقت، بعد سنوات وسنوات في حياة الكاتب، هو من قبيل التذكر... وهو تذكرٌ يتكل، حتى في حال الأمانة في النقل، على ما بقي في الذاكرة، فيما "تخون"، و"تختار من تلقاء حركتها"، كما يُقال عنها.
الكاتب يكتب سيرته الذاتية كيفما كتب، وفي أي نوع كتابي. وهو ما يقوم به الأدب بين العيش والتخيل، على أساس "اللّعِب" الذي هو في أساس أي إبداع، في ظني.
ولعلي لا أبالغ في القول إذا قلتُ إن كتابة السيرة الذاتية هي سعيٌ لتلميع صورة اجتماعية للكاتب، حتى لو كانت هذه الصورة تنهل من ضيق العيش، او من وحل الأيام.
في ما يخصني، كتبتُ سيرة خروجي من العائلة، ودفعتها إلى النشر. لكنني كتبتُها بلسان المتكلم الذي يعود إلى ماضيه، ويتفقده مثلما نفعل عندما نزور بيتنا القديم، أو وجه حبيبتنا الأولى، أو دفتر مساعينا الكتابية في أيام المراهقة... أعود إليه ابتداء من لحظة عيشي، من عين الكتابة التي تعي انها تكتب عن ماض، هو ماضي الإنسان الذي يحرك بأصابعه أطراف حياته التي انقضت.
لا يمكن أن تكون السيرة الذاتية، في حسابي، وإذا كنت أمينًا مع نفسي، سوى سيرة مؤلمة، لا "سيرة نجاح"، حسب عبارة أميركية.
فأنتَ، إذ تكتبُها، تكتب عن غيابك، وتجلس لتصوير هيئتك، على أنك أيضًا، وضمن العملية نفسها، المصور الفوتوغرافي الذي يلتقط الصورة.

 

 العربي رمضاني (كاتب ليبي):
إقفال باب الحياة

العربي رمضاني  

كتابة السيرة الذاتية، كما يُلاحظ، وباستثناء بعض الأعمال المتفردة، مثل الأيام لطه حسين، غالبًا ما تكون خاتمة لعلاقة الكاتب بالكتابة، كأنها تتويج لمسار طويل من الكتابة، أو إعلان صريح عن قرب مغادرة الوجود، واقتحام متاهات النسيان. وقبل إقفال باب الحياة، لابأس من ترك عمل يرصد تفاصيل عن حياة الكاتب. هذا الفِعل يُحيل الكاتب إلى تلك الهيئة الجامدة لموظف بيروقراطي يتطلع بشغف لتقاعد مريح ينسيه سنوات العمل المُضنية، لا فرق بين أن تتقاعد من وظيفة مزرية في إدارة، أو مصنع، وبين أن تضع حدًا لمسارك مع الكتابة بسيرة عادة ما تكون تضخيمًا للأنا، وتصفية للحسابات، وإصرارًا على مواقف معينة تجاوزها الزمن.
الِسير الذاتية مبدئيا كتابة نصية تستهدف الذات، وتحرير الأنا من سياجها الشخصي، تعرية ونقدًا، وإحاطة بالفضاء الزماني والمكاني للكاتب وتفاعلاته الإنسانية، لكن التساؤل: هل يمكن أن تعتبر السيرة الذاتية أدبًا، أم أنها فائض عنه، ولا تلقى قبولًا عند القارئ، كونها تفتقد منهجيًا إلى قوانين كتابة نص أدبي، أم أنها لون أدبي لا يشذ عن الرواية والقصة؟
إجمالًا، السير الذاتية تكتب الذات المُنغمسة في صخب الوجود، وترافق جملة من الأحداث والتحولات التي يرصدها كاتب السيرة، ويكون طرفًا فيها، أو شاهدًا عليها، مُعتمدًا على ثنائية التذكر والتخيل، والعمل على خلق نسج متوازن بينهما لا يحيل النص إلى فوضى تعبث بالسرد وتشوش على سيرورة القراءة لدى المتلقي. بالإضافة إلى إخراج السيرة المعنية بالكتابة من طابعها الشخصي إلى أُفقها العام، أين تصير متاحة للقراء، وعرضة للاهتمام والنقد والتفاعل من دون التقيد بمسطرة أخلاقية، أو جملة من الموانع التي تُلغي حرية الكاتب في البوح بسيرته، أو تُسقطه في حفرة العِصمة والكمال البعيد عن هامش الخطأ المرتبط بطبيعة البشر.
في الكتابة عن تجربة الهجرة غير الشرعية، وهي مزيج من أدب الرحلة، والسيرة الذاتية، كانت تفاصيل التجربة بمجمل أحداثها وتفاصيلها بوح تام لم يستثنِ مشهدًا ما، أو يطمس تفصيلًا بعينه قد يراه الكاتب مس بشخصه، أو يلقي بأناه العارية مجانًا إلى حضن القارئ، هذا الحساب المُسبق لم يكن في خلد الكاتب وهو يسرد لا سيرته فحسب، وإنما سيرة أقرانه من المهاجرين وهم يتقاسمون شراسة البحر وقبح رجال الأمن وألوان الهلع التي رافقت رحلتهم، ومن دون إغفال تقلب المشاعر، من خوف ورهبة وتشاؤم وطيف أمل يداهم صخب الرحلة واقترابها الدائم من حافة الهلاك.
سرد الذات المُهاجرة إلى فضاء أقل صخبًا وتتوفر على قدر من السكينة رغم البشاعة المحيطة بالرغبة العارمة في الهروب من القبح المتراكم في أوطان الزور والخديعة لم تسقط في متاهة السرد الجامد الممل، أو الإلتزام بخط كرونولوجي للأحداث يبقيها في وضع تقريري لا يضيف شيئًا لظاهرة ذات حمولة إنسانية تلقي بزخمها على سيرورة العالم، وإنما تجتهد في تقديم الذوات المهاجرة ضمن نسقها الإنساني من دون القطع مع الفضاء الزماني للظاهرة، أو تجاهل المُتخيل باعتباره القادر على نسج الأحداث بصورة جمالية، واسترجاعها في هيئة تحافظ على تماسك البُنية السيرية للنص.
الكتابة عن سيرة شخصية من داخل ظاهرة عاشها صاحب النص كانت تجربة ثرية على مستوى اللحظة الاستثنائية المعاشة، وأيضًا على مستوى تدوين تلك التجربة بعيدًا عن الخلفيات المُسبقة، سواء كانت على صعيد التخيل، أو الغرق في الحشو التقريري الذي يضفي رتابة على نص سيري، أو كما ذكر الناقد والأكاديمي الجزائري د. لونيس بن علي في معرض تفكيكه لنص "أناشيد الملح- سيرة حراگ" الصادر عن دار المتوسط "لقد لاحظت في أناشيد الملح نوعًا من التخيل الذي قد أسميه بالتخيل الواقعي، والذي يعني القدرة على نقل تجربة إنسانية بتفاصيلها إلى مخيلة القارئ".

 

آن الصافي (كاتبة سودانيّة):
يوميّات

آن الصافي  


من الممكن أن تُقدم السيرة الذاتية في قالب يوميات، أو تقسم حسب المراحل العمرية، وربما حسب التنقل من مكان إلى آخر. ومن الممكن أن يكتبها صاحب السيرة، أو شخص مقرب منه، أو عدد من الأشخاص الذين التقوه، أو جمعوا معلومات عنه بالبحث والدراسة ومقابلة من يعرفونه.
وكلما كان المحتوى يتضمن تفاصيل حقيقية، أي فيه كم معلوماتي بدقائق ووصف، كما حديث الإنسان مع ذاته، من دون رتوش، كلما كان أكثر صدقًا ووضوحًا. هذه الآلية في الكتابة معروفة في الغرب باليوميات، فهنالك من يدون تفاصيل أحداث يومه، وهنالك من يكتبها في مرحلة متقدمة من العمر. الأخيرة مشهور بها على سبيل المثال، في عقود مضت، بعض النساء من الطبقة الأرستقراطية.
بالنسبة لثقافات المجتمعات في إقليمنا، المسألة تعتمد على مدى الحرية في التعبير، ووضع التفاصيل من دون تزييف. وعليه، ربما كان من الصعب أن نجد هذه النماذج في الكتابة من قبل الأدباء هنا، بحيث يعطي تفاصيل وأسرار دقيقة، بما يشبه الحديث مع النفس، أو شخص مقرب.
هذا ينطبق على الكاتب، امرأة أو رجلًا، والمحاذير بكل تأكيد لدى المرأة أكثر تعقيدًا.
قرأت بعض السير الذاتية لكتاب من إقليمنا، فوجدت الكتابة تدور حول المسار الأكاديمي والعمل، من دون التفاصيل الخاصة بالأسرة. وهذه إن وردت تكون باقتضاب، وإضاءة ملائكية للعلاقة بالوالدين وأفراد الأسرة.
زميلة كتبت سيرتها الذاتية تحدثت عن كل شيء، وأسقطت عمدًا الحديث عن تجربة زواج أثمر عن صغار، ولكنه انتهى بالطلاق. وعند سؤالها عن ذلك، قالت بما معناه "الأمر يتعلق بآخرين، ولا يجوز أن أتحدث عن خصوصياتهم".
مسألة الاستعانة بتفاصيل مستقاة من السيرة الذاتية، ووضعها في قالب سردي، أمر وارد، حيث يحق للكاتب أن يقدم ما يشاء عبر نصوصه السردية، وهذا أمر متعارف عليه. يبقى أن السيرة الذاتية تُصنف في هذه الحالة في محور محدد ذكرت، أي أنها وردت باجتزاء، وليست كاملة. بينما إن وردت كاملة في قالب سردي أيضًا ستكون حيوية ومحببة لدى شريحة من القراء.
والتساؤل: هل يجب على الكاتب أن يتحدث عن تفاصيل حياته حتى يعلم بها القارئ عبر نصوصه السردية، أو حتى في قالب مباشر، تحت مسمى السيرة الذاتية؟ وما الجدوى من ذلك؟ يترك ذلك تمامًا للمبدع حسب قناعاته، وتبقى للجرأة معاييرها النسبية، التي تتفاوت حسب كل كاتب، إن كانت لديه أطر يود، أو لا يود، تجاوزها. ولا ننسى هنا أن هنالك قانونًا قد يلجأ إليه من قد يكتب عنهم في السير الذاتية من دون استئذان. ولا يهم إن تم تقديم الشخصية بشكل إيجابي، أو سلبي. وتفاديًا لعواقب غير محمودة يجب فهم الجوانب القانونية لهذه النوعية من الكتابة، مع التعمق في فهم معنى الحرية الشخصية. بعض السقطات قد تضع السير الذاتية في محور إشكالي، مثل تقديم شخصية بشكل مثالي يتنافى مع الواقع، أو التضليل عبر إظهار جوانب عن شخوص بغرض الرفع من شأنها، أو الإساءة إليها، فذلك يقلل من قيمة العمل المقدم. كذلك الكتابة عن جانب من موضوع، والتغافل سهوًا، أو عمدًا، مما يشوه النقل، فقد تكون هذه الكتابة، مستقبلًا مصدرًا للمعلومات.
وعليه، من المهم تحديد الهدف: هل يجب كتابة السيرة الذاتية؟ إن كان الجواب بنعم، فلماذا؟ هل يتم تقديمها في قالب تقريري، أم سردي، مع جانب متخيل؟ وما هي الفوائد والعواقب المحتملة؟ وإن كانت هنالك عواقب فهل يجب تفاديها؟ إن كان الجواب نعم، كيف؟
في النهاية، تبقى كتابة السيرة الذاتية، في أي قالب تقدم فيه، شأن وقرار شخصي بحت، ولكن ينطوي على مسؤوليات جمة.

 

عبد الهادي سعدون (روائي وأكاديمي عراقي):
أغلب نصوصي هي أجزاء من سيرة ذاتية غير معلنة

عبد الهادي سعدون  

لم أجد نفسي حتى اليوم في كتابة سيرة ذاتية. وأفترض ان كتابتها يتطلب حياة طويلة، وتجارب هائلة. تجارب ربما لم أمر فيها، أو ما مررت فيها. ربما لم يحن وقتها بعد، أو قد يجيء في وقت بعيد، أو قريب، أو قد لا تأتي الفرصة إطلاقًا. على الأغلب كسلي في تتبع مراحل عديدة من حياتي ما بين بغداد ومدريد (وما بينهما من عشرات المدن التي عشت فيها ومررت فيها)، وهي حتمًا الحجة الأكثر إقناعًا لشخص مثلي في ما لو سئلت ذات مرة. فعلًا هذه الأخيرة أجدها أكثر إقناعًا.
أما الخشية والخوف من الكشف عن النفس ومحاولة مجاراة أعراف، وعدم التصادم مع آخرين، فهذه حقيقة كبرى تحكم الحلقات الأدبية العربية، ولست بخارج عنها. أعتقد أن عالمنا الأدبي العربي مازال في طور تكون في مجال السير الذاتية، فحتى تلك التي قرأناها وأحببناها، لسبب معين، نجدها ناقصة، وتبني نفسها إما على ثقل تجربة حياتية، أو تجربة أدبية، من دون الخوض في مسائل الخطوط الحمر عن العلاقات السرية مثلًا، أو الآراء السياسية، أو الشخصية، بمن عاصروا الكاتب نفسه. وهي تبقى عرجاء عاجزة، في أغلب المرات. مع مرور السنين، والانتباه إلى تجارب عالمية عديدة نطلع عليها ونقرأ لها، قد تلغي فينا هذا الجانب السيء الموحش والمخيف بالكشف عن حياتنا بشكل صريح وعميق وبنص أدبي مهم.
لكن لو أردت أن أوضح سيرتي، أو أن أوضح بعض من لمحاتها وتفاصيلها لقارئ نصوصي، أو ناقدها، فلا بد من توضيح بسيط، وهو أنني موجود في كل نصوصي حتمًا. سيرتي مدونة بشكل خفي فيها. لذلك أنثر تجاربي وأجزاء من حياتي في تجارب شخوص أغلب نتاجاتي الكتابية من قصيدة وقصة ورواية. بل إن الكثير منها هي فعلًا جزء من تجارب مررت بها. أعتقد ان كل واحد من الكتاب (على الأقل في تجربتي أنا) يبث هنا وهناك أطرافًا من حياته، ويوزعها بقصد، أو من دون قصد، بين شخوص نصوصه المتعددة، وهي لو جمعتها لكونت سيرة غير معلنة عن أي كاتب. بدوري أؤكد وأعلن أنها مبثوثة فعلًا، وبشكل هائل، في كل كتاباتي.
لكل ما قلت سابقًا لو قيظ لي أن أكتب يومًا ما سيرة عن حياتي، وما مر بي من مواقف وأشخاص ومدن وأحداث... إلخ، فإنني أرجو أن تكون صادقة فعلًا من دون تزويق، أو إخفاء، على نمط سير كتبها كتاب رائعون أحببنا كتبهم، وتعلقنا أكثر بهم بقراءة سيرهم الحياتية الأدبية، مثل كازنتزاكي في (الطريق إلى غريكو)، وبابلو نيرودا في (أشهد أنني قد عشت)، وطه حسين في (الأيام)، وغابرييل غارثيا ماركيز (عشتها لأروي)، وغيرهم. أما أعذب وأعمق سيرة ذاتية عراقية قرأتها حتى اليوم فهي سيرة (أصغي لرمادي)، للراحل حميد العقابي، والأخرى للشاعر الكبير صلاح نيازي في كتابه (غصن مطعم بشجرة غريبة).

 

غسان عبد الخالق (كاتب وناقد وأكاديمي أردني):
أدب السيرة والإشارات الضوئية الحمراء

غسان عبد الخالق  

ما من أحد يمكنه استشعار وطأة التحديات التي يواجهها كاتب السيرة الذاتية، شكلًا ومضمونًا، إلا من جرّب كتابة السيرة الذاتية. ومع أن التحديات الخاصة بالأسلوب الذي ينبغي لكاتب السيرة أن يختاره وينساب معه، ليست قليلة، أو هيّنة، إلا أن ضرورة الاستجابة لمطلوب هذا الملف تدعوني إلى التركيز على المدى الذي يمكن لكاتب السيرة أن يبلغه على صعيد التصريح بأسراره الخاصة، أو العامة، في ظل العديد من الإشارات الضوئية الحمراء.
ماذا مرّ ابن خلدون في سيرته الذاتية بحادثة غرق أسرته كلها في البحر مرورًا عابرًا، واستفاض في سرد تفاصيل حياته السياسية والعلمية؟ ولماذا أضرب إحسان عباس عن الاستفاضة في سرد تفاصيل حياته الشخصية، رغم أنه كان قد أزمع العكس من ذلك، قبل أن يتصدى لكتابة سيرته؟ أحسب أن الإجابة تتمثل في أن الموروث الذي ما زال يمسك بتلابيب الوعي واللاوعي العربيين، يشتمل على ثلاثة محاذير يصعب تجاهلها، وهي: لا يجوز للرجل بوجه خاص، وبدرجة أقل للمرأة، التباكي، أو الشكوى، أو التوجّع، مهما بلغت درجة ألمه، حتى لا يعدّ من الضعفاء! ولا يجوز للرجل بوجه خاص البوح بأسراره الشخصية، فما بالك بالمرأة طبعً، حتى لا يتهم بالتبذّل! ولا يجوز للرجل بوجه خاص، فما بالك بالمرأة أيضًا، التطوع لتذكير الناس بما خفي، أو نُسي من سيرته السياسية، حتى لا يضع حدًا لمستقبله، أو لمستقبل أبنائه في الحياة العامة!
ناظرًا بعين الاعتبار الشديد لكل ما تقدّم، وبصفتي كاتبًا وأكاديميًا منذ خمسة وثلاثين عامًا، لم يفارقني الطموح لكتابة سيرتي الذاتية؛ ليس حبًا في سردها، فكلنا لديه ما يحكيه عن نفسه بطريقته الخاصة، وإنما حبًا في توثيق عدد من التجارب والخبرات التي عبرتها، أو اكتسبتها، على نحو قد يبدو غريبًا ومدهشًا في حقبة العولمة، وما بعد الحداثة، ووسائل التواصل الاجتماعي.
وحتى أضمن أكبر قدر من التعاطف مع هذه التجارب والخبرات، فقد كان لزامًا علي أن أكون صادقًا وشفّافًا مع نفسي، ومع القارىء؛ ما يعني ضرورة الالتزام بأعلى درجة ممكنة من درجات البوح على صعيد تجربتي السياسية، وعلى صعيد تجربتي الثقافية، وعلى صعيد تجربتي الإنسانية.
وأعترف بأنني كدت أضرب صفحًا عن الاستمرار في كتابة الجزء الأول من سيرتي الذاتية (بعض ما أذكره) أكثر من مرة، كما كدت أضرب صفحًا عن الاستمرار في كتابة الجزء الثاني منها (بعض ما نسيته)، جرّاء تصاعد شبح الرقيب العام في داخلي، لكن انحيازي لحق الجيل الجديد من المثقفين الشباب في الاطلاع على تلك التجارب والخبرات، التي قد تبدو الآن ضربًا من الأساطير في حقبة العالم الافتراضي، كان أقوى من شبح الرقيب. وهكذا، فقد أتممت كتابة الجزءين ونشرتهما.
إن ما هو جدير بالتنويه في هذا السياق، لا يتمثل في امتلاكي الجرأة على نشر سيرتي الذاتية بجزءيها، بل يتمثل في ردود فعل الأصدقاء والزملاء والقرّاء ووسائل الإعلام؛ ويسعدني أن أفاجئكم وأفاجئ القرّاء الأعزاء بالقول: إن هذه الردود كانت أحسن مما رجوت بكثير! ربما لأنني محظوظ، وربما لأنني التزمت جادة الصدق في ما كتبت، وربما لأن منظومة الوعي العام آخذة في التغير باتجاه الأفضل. ومع ذلك، فلا أحسب أنني أملك الحق في التعميم انطلاقًا من تجربتي الشخصية في كتابة ونشر السيرة الذاتية، وما رافقها، أو تبعها، من ردود أفعال، لأنني أعلم علم اليقين، وبحكم انخراطي العميق في شبكة الحياة العامة، أن العديد من الإشارات الضوئية الحمراء ما زالت متّقدة في كثير من دروب السياسة والأيديولوجيا والحياة العربية، وأن منظومة الوعي العربي العام ما زالت تقف بالمرصاد لأي محاولة لكسر حالة التواطؤ العميق، بخصوص البوح الذاتي الحميم، أو بخصوص البوح الموضوعي الجريء. ولأنني أميل دائمًا إلى البحث عن الورود المدفونة تحت أنقاض الأشواك، فإنني أزعم أن وسائل التواصل الاجتماعي، رغم كل سلبياتها، قد أسهمت إلى حد بعيد في تطبيع فكرة المكاشفة على كل الصعد، وفي بلورة مفهوم المجتمع الزجاجي الذي طوّح بالخصوصيات والأسرار من دون تردد.

 

رزان نعيم المغربي (كاتبة ليبية):
كشف المستور

رزان نعيم المغربي  

منذ اعترافات جان جاك روسو في الغرب، مرورًا بأيام طه حسين عربيًا، أصبح يؤرخ لأدب السيرة الذاتية بوصفه أحد الأجناس السردية، التي تستحق الدراسة والتأمل، لأنها الحامل لتجربة الكاتب والمبدع، من دون أن ننسى بأن الساسة، وصناع القرار، وأصحاب التجارب الفريدة، أضافوا إلى المكتبة سيرهم الذاتية، ويفترض أن كل ما يكتبه صاحب السيرة الذاتية هو ما خفي عن الآخر/ القارئ، حيث يصبح العقد بين القارئ والكاتب قبل متعة القراءة، متعة الكشف من دون بحث، لأن السيرة الذاتية كشف طوعي عن خفايا وأسرار، ومن هنا نرى كثيرًا من القراء مغرمون بقراءة كتب السيرة الذاتية.
مع نهاية قراءة كل كتاب موسوم بأنه سيرة ذاتية، يطرح السؤال: كم كان فيه من الصدق والمكاشفة، وأين تسلسل خيال الكاتب لصياغة مبررات لحدث ما، أو للتغطية على جزء من حياته؟
بالنسبة لي، شخصيًا، أرى أن أدب السيرة الذاتية تطور بشكل لافت مع الزمن، كما حدث تغير على الأدب بصفة عامة، مس التغيير هذا الجنس السردي، ولم يعد حكرًا على أديب له شهرة واسعة، أو سياسي بارز، من جهة. ومن جهة أخرى، اتخذ طابع الحدث الخاص أحيانًا، بمعنى أن كتب السيرة الذاتية لا تشتمل على رحلة الكاتب منذ نشأته، مرورًا بتكوينه الأدبي، وصولًا إلى عمره المتقدم، بل صار يختص بمرحلة ما، وعن تجربة خاصة، صار يشبه لقاء الكاتب مع محاور يجيب عن أسئلته التي غالبًا ما تنشر في الدوريات والمواقع، بمعنى إبراز ما يريد الكلام عنه. قلة من الأدباء، العرب تحديدًا، استطاع تقديم اعترافات جريئة تحكي حياته بشفافية، أغلبهم يود إظهار نجاحه والمعاناة في التنقل، في الأسفار، في المنافي، ومع الأنظمة الحاكمة، ومع الرقابة، لكن نادرًا ما نقرأ عن مشاعره الخاصة، وقصص الحب، والعلاقات الإنسانية، وذكر من ارتبط بهم.
أن يتحرر الكاتب مما كان يعيقه أمر في غاية الأهمية، وله دور رئيس في كتابته عن حياته وتجاربه، لكن من امتلك هذه الحرية هم قلة، عربيًا ربما بعض من الكتاب ذوي الأصول العربية، إما هاجروا إلى الغرب مبكرًا، أو ولدوا هناك، وبعضهم يفعل كما كل الأدباء العرب، تمرير بعض من سيرته في أعماله الإبداعية، لتصبح شخصية روائية تتحدث بالنيابة عنه، ترتكب الأخطاء البشرية، تزل قدمها في دروب لا يتقبلها المجتمع العربي (أن تكون شخصية من لحم ودم ومعروفة، وإلا سيقوم بجلدها وصب لعناته عليها). ومازال كتاب محمد شكري الأكثر جرأة "الخبز الحافي" مثالًا على جرأة الكاتب، ودهشة القارئ، الذي استقبله بعاصفة من الأسئلة، وربما التكفير، واللعنات.
هناك جدلية قائمة في أدب السيرة الذاتية، عربيًا، في الوقت الذي يطالب الجميع بكشف المستور عن حياة الكاتب، إلا أنه لا يتوانى لحظة عن معاقبته بقسوة، لو تجاوز الخطوط الحمراء، كما يقال، وكما حدد المجتمع تلك الخطوط بضوابط، وهي مثل حبل مطاطي مرن، يصبح مشدودًا عن قارئ، ومرتخيًا عند آخر، ولكن ليس من دون حدود. حتى القارئ النخبوي، الذي ينتمي إلى عالم الكتابة، نراه في بعض المواقف متشددًا وغاضبًا رافضًا أن تروى بعض الحقائق عن حادثة بين كاتبين، وتعلو الأصوات مطالبة بعدم الكشف، ويحدث هذا في أدب الرسائل المتبادلة بين الكتاب، وأرى أنها جزء من أدب السيرة الذاتية. يتخلى كثير من النخب عن الموضوعية، وينظرون من جانب أحادي لهذه المكاشفات، من دون وضعها في إطارها التاريخي، وبعيدًا عن تقديس بعض الأسماء التي تصبح أيقونة مع الوقت.
أرى اليوم أن هناك فضاء بدأ يستوعب الاعترافات، ولو بشكل خجول، وهو ما يكتبه بعض الكتاب الشباب عن لحظات ضعفهم، عن بعض الخيبات والانكسارات، وكأنه جس نبض للقارئ، ومن خلال تفاعله معهم نراه يصبح أقرب إنسانيًا للكاتب. مع ذلك، من الصعب أن يورط الكاتب نفسه ويذهب بعيدًا وينشر وقائع وتفاصيل يومية ويكسر التابو المفروض منذ مئات السنين، لكنها تبقى خطوة شجاعة في بعض الكتابات.

 

عبد اللطيف الوراري (المغرب):
أدب الاعتراف

عبد اللطيف الوراري  

أعتقد أن السيرة الذاتية نصٌّ مرجعيٌّ، هدفها ليس "أثر الواقعي" كما في الرواية، بل الحقيقة. ولكن من النادر أن نجد مؤلّفًا قد أقسم بأغلظ الأيمان أن لا يقول إلا الحقيقة، وإن كان هذا الأمر لا يقطع مع رغبته في أنّ ما يحكيه عن ذاته ينبغي أن يكون حقيقيًّا، وأن يكون صادقًا، وأن يحكي ذكرياته كما عاشها، أي يعيد إنتاج الحقيقة مثلما عاشها، والعالمَ وفق رؤيته. فهو ذات النص وموضوعه في آن.
إنّه "الشخص الحقيقي"، وهو وحده من يمكن أن يحتمل ما يقوله ويتحمّل الصدق فيه، أي يتحمّل مسؤولية تلفُّظه عند وضع اسمه على ظهر الغلاف، باعتباره شخصًا نفسيًّا وأخلاقيًّا واجتماعيًّا.
وهذا التشبُّث بـ«الحقيقي» يميّز السيرة الذاتية، لكن لا يغلقها. عندما يتذكّر صاحب السيرة، فغالبًا ما ينسى حقيقة ما مضى من ذكرياته؛ ولذلك يصفها بطريقة رومانسيّة حالمة، ورمزية خاصة، مع ما يستتبعه ذلك من تخييل ومحو وتحويل يمضي في اتجاه ابتكار هويّته. فمن غير البديهي أن يحكي المؤلف عن نفسه من غير أن يعيد اكتشافها، وهو ما يمنح لعناصر مبعثرة من مسار حياته التي لم تكتمل بعد، معنىً وانسجامًا.
فالوهم المرجعي الذي تنتجه السيرة الذاتية لا يجب، مع ذلك، أن يُخفي عنّا حمولة التخييل المتضمَّنة فيه، إذ لا يمكن للمؤلِّف أن يأخذ في الاعتبار حياته كما جرت. إنّه يصنع منها حَكْيًا، بمعنى أنّه يُكيّف هذه الحياة مع الإكراهات المرتبطة بالشكل السردي، أي يعيد تشييد حياته حتى يكتبها. وفي هذا الصدد، هناك بعض كُتّاب السيرة الذاتية من سعى إلى إعادة تنظيم ماضيه على ضوء ذاته الراهنة، وآخرون غيرهم أرادوا أن يرمّموا ماضيهم مثلما عاشوه وروَوْهُ.
من هنا، فإنّ ما يسعى إليه المؤلّف هو أن يكون صادقًا مع نفسه، وأن يُنشئ ثقةً بينه وبين القارئ تتنامى طوال العمل وسيرورة تلقّيه، والأهمّ أن تكون لديه الرغبة في أن يروي حياته على القارئ الذي يمكن أن يفهم أسرار حياته الداخلية بما فيها من بوح واعتراف وحميميّة، بل أن يتماهى معها في أحسن الأحوال.
إنّ أعظم السير الذاتية في الآداب العالمية هي التي نجد فيها توكيدًا على شرط الصدق، أي الاعتراف والبوح، بقدر ما فيها من إخلاص للجوهري، وتجاوز للمحرّمات المجتمعية المعيقة للإبداع. وفي أدبنا العربي الحديث، نجد سيرًا ذاتية ذائعة الصيت والعطر بسبب ذلك الشرط النوعي، مثل (الأيام) لطه حسين، و(الخبز الحافي) لمحمد شكري، ولاسيما إذا استحضرنا الزمن الذي كتبتا فيه، والشروط السياسية والنفسية القاسية التي أحاطت بإنتاجهما ضمن ثقافة ظاهرها البوح والثرثرة، وداخلها الحظر ومراعاة المستور.
عندما أقبلتُ على كتابة شذراتٍ من سيرتي الذاتية المسمّاة "ضوء ودخان" (منشورات سليكي أخوين- طنجة 2016)، وضعتُ نصب عينيّ مبدأ الصدق، لأنّي ليس لي ما أخسره بعد الذي خسرته من أيام حياتي، فكتبتُ وفق ما يمليه عليّ شرطي الإنساني، بما فيه من نواقص ومشاعر متضاربة، إلى حدّ معقول من الحُرّية الذي لا يتنافى مع الإبداع، ولكن لا يفتتن بالسنن المجتمعي الضاغط بقدر ما هو يسعى إلى تغييره. "إنّ للسيرة الذاتية، كما قال فيليب لوجون، كينونة جميلة مستحيلة، وليس ثمّة من مانعٍ لكي تُوجد».
لقد كان لي في شذراتي السيرية مساحات من البوح والاعتراف، فسعيتُ قدر الإمكان إلى أن أقتسم مع قارئي جوانب من شخصيّتي منذ طفولتي، وأن أظهر بنواقصي وآلامي وأحلامي، كما أملاها عليّ الحال وقتئذ، وأن أُوجد في صميم هذه الشذرات ما يُشعرني وإياه بشرطنا الإنساني الذي هو جماع مقادير وخيبات ومصادفات تقع في منعرجات الحياة. هذا كلّ شيء، وأكثر.

 

فجر يعقوب (سينمائي وروائي فلسطيني مقيم في السويد):
مجتمعاتنا العربية تذهب نحو مزيد من الترهيب والانغلاق

فجر يعقوب  

في العموم، الثقافة العربية ثقافة خجولة، تتقدم باستحياء، ولا تعرف شيئًا من أدب الاعتراف، الذي قد يجيء أحيانًا محملًا في رواية، ليبعد الشبهة عن كاتبه في مجتمع يقيني وسكوني ولا يعترف أساسًا بخلخلة الموروث والسائد، وبالتالي ينقذه من تبعات هذه الاعترافات أمام جمهوره وقرائه وعائلته. قلة قليلة من تصدت بشجاعة لثقافة الكشف. ربما في هذا السياق تجيء رواية "الخبز الحافي" للكاتب المغربي محمد شكري في الطليعة، مع ملاحظة بالطبع أنها كتبت في رواية سيرة ذاتية.
أعتقد أن مهمة الكاتب العربي تزداد تعقيدًا اليوم، حتى مع هذه الفتوحات التكنولوجية الهائلة التي من المفترض أن تدعم أدب الاعتراف في عالمنا العربي، فهي قد أنشأت جيوشًا بالمقابل من الجهلة والرعاع والحمقى الذين يترصدون على مواقع التواصل الاجتماعي أي هفوة، أو زلة، أو اعتراف، ليمارسوا فظاعاتهم في السب والشتائم، وهو فخ مرعب انزلق فيه مثقفون كثر أيضًا، ونحن لسنا بعيدين ظرفيًا وزمنيًا من مقالة الشاعر والروائي، سليم بركات، عن الشاعر محمود درويش. ولو أردنا تعريف المقالة بوصفها أدب اعتراف ومكاشفة، فإن النتيجة كانت مأساوية للغاية، فقد بدا أن حربًا ستندلع بعد قليل بين قوميتين بسبب منها، بعد أن استنفذت الجموع كل أدوات الشتائم والسباب.
الكشف عن العالم يظل أبدًا في حاجة إلى الكشف، على ما يذهب الشاعر الفرنسي رينيه شار، لكن أي من هذا الكشف لن نعيشه، أقله ونحن أحياء حتى اللحظة، فمجتمعاتنا العربية تذهب نحو مزيد من الترهيب والانغلاق، حتى يبدو أن الحوار قد انقطع مع الجميع من حولنا، وقد ولدت رقابات أخطر بكثير مما كانت تمثله النظم السياسية القائمة، والمسؤولة عن كل هذه التصدعات العرضية والطولانية في المجتمعات العربية، فقد أساءت من استخدام سلطاتها في تطويعها، وخلقت ثقافة تشبهها، وبالتالي فإن شبهة ثقافة الاعتراف لم تعد جزءًا من الثقافة العربية، وهي لم تكن موجودة أصلًا.
لن يوجد المثقف العربي الذي قد يقول على سبيل المثال إنه قد جبن في معركة، وآثر الهروب والانسحاب والنجاة بنفسه ليظل يمارس حضوره الطهراني الشفيف، أو المثقف الذي خان رفاقه في الحزب، وقام بالتبليغ عنهم في لحظة ضعف إنساني.
ويجب أن نلاحظ أن ثقافة الاعتراف تاريخيًا وثقافية ودينيًا لا تشكل شيئًا من ثقافة الترميم والفلترة التي نخضع لها جميعًا، باستثناء بعض الندرة التي لم تتكيف معها، وجاءت على شاكلة شخصيات في روايات يمكنها أن تبوح وتعري بعض ما يمكن الوصول إليه لغويًا ومجازيًا.
لا أعتقد أننا سنتكيَّف في المستقبل القريب مع ثقافة أدب الاعتراف، فالحفرة الرقمية تتسع من حولنا، وجيوش الحمقى تزداد ضراوة على حوافها، ومن كان يمتلك بعض الجرأة في البوح والتسطير، أعتقد أن سيفكر اليوم مليون مرة قبل أن يخط اعترافًا واحدًا، لأن هذه الجيوش ستقوم بتقشير جلده بأظافر من جديد، ولن تترك لأي فلتر أن يقوم بمهمة تنعيم شيء من الوجه، أو ما يتبقى منه قبل أن يطل على جمهوره.
في المسرح الإغريقي، كان يتوجب على الممثلين في نهاية كل عرض نزع الأقنعة عن وجوههم، وأي استعراض عندنا في المقابل نجده يزيد من ضراوة هذه الأقنعة في حياتنا، ويمكن تتبعها بسهولة مثلًا في كل إنتاجات الدراما التلفزيونية، باعتبارها صفوة التفكير في مجتمعاتنا العربية، والكشف عن الآليات التي أفضت بالجميع إلى هنا. وهي آليات محمية ومزودة بآليات الانفجار العشوائي من الداخل، وبالتالي لا يمكن المساس بها، إلا في حال حدوث معجزة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.