}

فيرنر هرتسوغ: عبقري السينما الألمانية المشاكس

سمير رمان سمير رمان 18 ديسمبر 2022
هنا/الآن فيرنر هرتسوغ: عبقري السينما الألمانية المشاكس
هرتسوغ في ورشة عمل في ليما/ البيرو(30/4/2018/Getty)

بمناسبة بلوغ فيرنر هرتسوغ ثمانين عامًا، أقيم معرض في متحف برلين للسينما تكريمًا للفنان، وتقديرًا لفنّه الاستثنائي.
ولد فيرنر هرتسوغ/ Werner Herzog، المخرج السينمائي والسيناريست، عام 1942، وأنجز حتى اليوم أكثر من 40 فيلمًا، وثائقية في غالبيتها، وترك بصمةً في عالم الأوبرا، ونشر عشرات الكتب. يصنِّف بعض النقاد هرتسوغ ضمن تيار السينما الألمانية الجديدة (إلى جانب اينر فيرنر فاسبيندر، فيم فيندرس، وفولكر شليندورف)، الأمر الذي يرفضه المخرج نفسه.
بدأت مرحلة النضج في إبداع هرتسوغ من فيلمه "والأقزام يبدأون صغارًا" عام 1977، حول انتفاضة أقزام فوضويين في أحد السجون الإصلاحية.
في العام التالي، أثار فيلمه "فاتا مورغانا" ضجةً كبيرة، بصوره الوثائقية الساحرة، المحررة وفقًا لإيقاعها الداخلي. في عام 1972، غامر هرتسوغ برفقة الممثّل الألماني الشهير كلاوس كينسكي بدخول أدغال الأمازون، كي يصورا، بميزانية ضئيلة، ملحمة الفاتح المهووس (لولا دي أغيرا). بعد التغلب على صعوباتٍ لا يمكن وصفها. وفي فترة قياسية لا تزيد على الشهرين، استطاع الطاقم إكمال مهمة تصوير فيلم "أغيرا: غضب الربّ"، الذي وضع هرتسوغ في مصافّ المخرجين البارزين. لعب الممثل الألماني الشهير كلاوس كينسكي (ظهر في أكثر من 130 فيلمًا) دور البطولة في عدد من أفلام هرتسوغ، فاكتسب شهرةً عالمية بعدها. على الرغم من اضطراب شخصية كينسكي، وميله إلى العنف، وهوسه الجنسي، واصل هرتسوغ العمل معه، فأنتجا معًا أربعة أفلام أُخرى.




أصبح فيلم "فيتزكارالدو" المشروع الأكثر طموحًا للمخرج، فقد تطلب إنجازه جهودًا جبارة، وسنوات من العمل. في العام التالي، أثار فيلم هرتسوغ "فاتا مورغانا" كثيرًا من اللغط في دوائر مهرجان "كان" السينمائي، بعد أن منح هرتسوغ جائزة أفضل مخرجٍ في مهرجان كان السينمائي عن فيلمه "فيتزكارالدو"، على الرغم من تعرضه لانتقاداتٍ كثيرة، خاصّة في موطنه ألمانيا، بسبب توجهه غير العقلاني نحو الطبيعية، وتجاهله حياة البشر. بعد فكّ الشراكة نهائيًا مع الممثل كينسكي، صور هرتسوغ، خلال الفترة (1991 ـ 2001) الأفلام الوثائقية فقط، التي تناولت مختلف الأحداث في مناطق نائية لا يعرفها إلا قلّة قليلة. في أحد تلك الأفلام، "العدو المحبوب" عام 1998، تحدث هرتسوغ بصراحة عن تشابك العلاقات بينه وبين الراحل كينسكي. ومن بين أفلامه كلّها، أصبح فيلم "أغيرا: غضب الربّ" تحفة هرتسوغ، فقد رأى فيه بعضهم فهمًا عميقًا للجذور النفسية للفاشية، في حين يشير آخرون إلى واقعيته القصوى، وغياب المؤثرات الخاصّة، وأنّه يبدو وكأنّه صوِّر في القرن السادس عشر.
في عام 2001، وبعد انتقاله إلى لوس أنجلوس، يعود هرتسوغ إلى السينما، ويشترك نجوم هوليوود من الصفّ الأول في أفلامه الجديدة، نيكولاس كيج في فيلم "قبطان سيء"، كريستيان بيل في فيلم "فجر الإنقاذ"، والممثل تيم روث في فيلم "لا يقهر".
يمكن القول إن هرتسوغ بلغ قمة الأفلام الوثائقية في الفترة الأميركية في أفلامه: "الرجل الأشيب" (2005)، و"مواجهات على حافة العالم" (2007). وفي عام 2009، تقدّم هرتسوغ لمهرجان فينيسيا بفيلمين دفعة واحدة: "الرائد السيء"، و"بنيّ، ماذا فعلت يا بنيّ". والأخير كان من إخراج ديفيد لينتش. وفي عام 2010، ترأس هرتسوغ لجنة مهرجان برلين بنسخته الـ60.


مخرج استثنائي




جغرافيا الطرق التي سلكها هرتسوغ مثيرة للإعجاب: من أستراليا، إلى المكسيك ونيكاراغوا؛ ومن أيرلندا إلى وسط أفريقيا؛ من الهند إلى ألاسكا، ومن لهيب الصحراء إلى صقيع سيبيريا. خلال تلك الرحلات، وقعت كثير من الأحداث الغريبة: فقد ألقي القبض عليه وعلى موظفيه، ووقعوا ضحيةً للتهديد وللابتزاز، حتى أنّهم وجدوا أنفسهم رهائن أثناء أحد الانقلابات العسكرية. كما أنّهم تعرضوا لأمراضٍ غريبة، ولحوادث طائرات، ولحرائق أيضًا.
لطالما تعرض هرتسوغ، خاصّةً في بلاده ألمانيا، للنقد والإدانة جراء عصبيته الزائدة أثناء التصوير. تجاوز كلّ الحدود خلال مغامرة تصوير فيلم "فيتزكارالدو" عام 1982. وعلى غرار ما فعله فيتزكارالدو (الممثل كينسكي)، ارتكب المخرج حماقات مجنونة في سعيه لتشييد مسرحٍ وأداء أوبرا وسط غابة برازيلية عذراء. أطلق هرتسوغ من دون تخطيطٍ كافٍ رحلة استكشافية كبيرة في الغابة، قام خلالها، على سبيل المثال، مئاتٌ من السكان الأصليين بجرّ سفينةٍ من أحد راوفد الأمازون إلى رافدٍ آخر. بعد لعب هذه الأوبرا، قال هرتسوغ: "مكاني في دار المجانين، وليس في السينما". ولكن المشروع كان مغامرة غير مسبوقة في تاريخ الفنّ السينمائي، وفي تاريخ صناعة السينما.




أدّت طبيعة المخرج الاستثنائية إلى ظهور قرابة دزينة من الأفلام الوثائقية التي تتحدث عنه، وعن بعثاته، وعن أساليب عمله، التي تحولت إلى أساطير. تقول إحدى تلك الأساطير إنّ هرتسوغ قد غطى بجسده، أثناء إحدى جلسات التصوير، القزم المحترق. وفي حادثةٍ غريبةٍ أُخرى، تعهد هرتسوغ بأنّه، في حال إتمام التصوير بنجاح، سيقفز أمام الكاميرا على صبّارٍ بارتفاع سبعة أقدام. وقد فعل هذا بالفعل: فوضع نظارة راكبي الدراجات على عينيه وركض ليلقي بنفسه فوق الصبار، لتنغرز عشرات الأشواك في جسده.
سافر هرتسوغ إلى بلادٍ بعيدة، ليبقى مع ذلك أكثر المخرجين ألمانيةً. برهانًا على ذلك، جاء الفيلم الذي أخرجه "نوسفيراتو: شبح الظلام" عام 1979، وهو إعادة إنتاج فيلم "مورناو" الكلاسيكي. غير أنّ علاقة هرتسوغ بالثقافة الألمانية أبعد بكثير من التعبيرية، وتتغلغل عميقًا في القرون، إلى الرسّام غرونفالد (1470 ـ 1528)، وموسيقى القرون الوسطى المتأخرة.


خصوصية أفلام هرتسوغ
إن تقديس الطبيعة نفسها، والقدرة على الذوبان فيها من دون ترك أثرٍ، والقدرة على كشف المعنى الميتافيزيقي لأكثر المناظر الطبيعية واقعية هو ما يميّز أفلام هرتسوغ، آخر الصوفيين، وآخر التراجيديين. بعيدًا من المبالغات، فقد كان على آخر عبقري ألماني لا يزال على قيد الحياة، ومجموعته، أن ينتظروا ساعاتٍ طويلة، بل ولأيامٍ، لالتقاط اللحظات القصيرة التي تكون فيها السماء صافية، وتظهر فيها قمة الجبال بوضوح. لدى المخرج، مثله مثل أيّ شخصٍ آخر، كلّ الأسباب ليقول: "أجل، أنا أدير سلوك الحيوانات، وأمتلك الجرأة لأقول إنّ إدارة المناظر الطبيعية أمرٌ ممكنٌ ايضًا".
تتميّز أفلام هرتسوغ بحضور دائم لثلاثة أنواعٍ من الشخصيات الرئيسية:
السكان الأصليون، القاطنون في أراضٍ لم تصلها الحضارة بعد، كما في "فيتزكارالدو"، "الكوبرا الخضراء"، "أغيرا.. غضب الرب"، "أكبر بعشر دقائق"، "هناك حيث النمل الأخضر".
شخصيات كاريزمية بأفكار مجنونة، كما في أفلام: "النشوة العظيمة لنحات الشجر شتاينر"، "الجبل الساطع"، "غاشبرووم"، "فيتزكارالدو"، "الكوبرا الخضراء"، "أغيرا، غضب الرب".
أناسٌ نبذهم المجتمع، أناسٌ غير طبيعيين، أناسٌ أغبياء، كما في أفلام: "كلّ إنسان لنفسه، الله ضدّ الجميع"، "ستروسزيك"، و"الأقزام بدأوا صغارًا".
أمّا من حيث الموضوع، فتتميّز سينما هرتسوغ بوجود نوعين من الأبطال: الأول: محاربٌ، مبشِّرٌ ومخلِّص، ولكنّه معتوه، مهووس بجنون العظمة، كما هو حال الفاتح الغازي في فيلم "أغيرا: غضب الرب" (1972)، وفيلم "فيتزكارالدو". أمّا البطل الثاني، فهو أحمق، نبيّ، رجلٌ ربّانيّ مجنون يحاول أن يعبِّر عن نفسه، وعن الوحدة القاتلة التي تغلّف حياته كلها. إنّه اللقيط كاسبار هاوزر في فيلم "كلّ واحدٍ لنفسه، والله ضدّ الكلّ" (1974). في المستقبل، سيبقى هذا البطل المنبوذ، الغريب، والمنحدر من السكان الأصليين بالتحديد، وكذلك القزم، وحتى مصاص دماء، مرافقًا للمخرج مستقبلًا.
تمثِّل سينما هرتسوغ محرابًا لنفي الرداءة، حيث المتوحشون والمحتالون ومصاصو دماء البشر يستدعون إلى الذاكرة نيتشه على سبيل المثال، أو حتى هتلر نفسه. وكان هذا بالتحديد هو السبب الحقيقي الذي ساهم بعدم قبول هرتسوغ بشكلٍ كامل في ألمانيا، خوفًا من الطاقة الهمجية والهوس اللذين دفعاه إلى خوض مغامرات غير محسوبة العواقب سعيًا وراء تحقيق المآثر في عالمٍ، واستغلالها في عالمٍ أقلّ غموضًا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.