}

شعراء ــ روائيون: كتابة الرواية لا تعني هجر الشعر

هنا/الآن شعراء ــ روائيون: كتابة الرواية لا تعني هجر الشعر
(منير الشعراني)
تعود ظاهرة انفتاح الأجناس الأدبية إلى زمن بعيد، وتبدو لافتة للانتباه في المشهد الثقافي العربي، معلنة نهاية زمن الكاتب ذي الاختصاص الأدبي الواحد. ومن خلال هذا التحقيق طرحنا السؤال: لماذا يتجه الشعراء إلى الرواية؟ وهل الشعر لا يكفي لمواكبة الحياة العصرية؟ على عدد من الشعراء الذين تحولوا إلى كتابة الرواية:


منصف الوهايبي (تونس):
أحاول أن أكون ضمن شعرية متنوعة





ما أسعى إليه وأنا أكتب الرواية أن أكون في الصميم من شعريّة متنوّعة تتمثّل أساسًا الفضاء المتوسّطي في صوره الواقعيّة والتاريخية والأسطوريّة. وهو فضاؤنا نحن التونسيّين بامتياز.. كانت محاولتي الروائيّة الأولى "عشيقة آدم" الصادرة عام 2012 عن دار الجنوب، سلسلة عيون المعاصرة، وقد فازت بأكبر جائزة تسند إلى الرواية في تونس، وهي جائزة "الكومار الذهبي". وهي توظفّ الفضاء الفيسبوكي بكلّ مكوناته وأدواته، فكيف تصنّفها! هذه المحاولة الروائيّة تحمّس لها أستاذنا الكبير الراحل توفيق بكّار، وهو الذي بادر بنشرها، وقال (إنّها نمط جديد من الأدب، أو من "السيرة الروائيّة"). وهو الذي اقترح عليّ أن أفصل قسمًا منها، ليشكّل رواية قائمة بذاتها، هي ("هل كان بورقيبة يخشى حقّا معيوفه بنت الضاوي؟"). كنت أنهيت المحاولة الأولى بين سنتي 2009 و2010 وأنا أكتشف أوّل مرّة عالم الفيسبوك. ومن ثمّ راودتني فكرة توظيف هذا العالم الافتراضي، حيث تزحمنا الكتابة الفيسبوكيّة الهجينة، لا في فضائها الافتراضي فحسب، وإنّما أيضًا في رسائل جامعيّة (ماجستير ودكتوراة) غير قليلة، تتخذ "الأدب الرقمي"، أو "الفيسبوكي" مدوّنة لها. وهي كتابة تنطوي على كثير من المفارقات التي تجعل من منهج البحث فيها معضلة لا بدّ من فحصها ودراستها. وأقدّر أنّها تقوم في كل نصّ فيسبوكي مقروء مرئيّ مسموع، يشتغل داخل نظام سيميولوجي، أو هو "الدّرجة الصّفر في السيميوطيقا". ومردّ ذلك إلى كونه يقوم دائمًا في "اللغة الواصفة"، أو الخطاب الواصف. ولكنّ هذا النصّ، وهذا وجه من وجوه مفارقاته؛ لا يفصح عن نفسه إلاّ باللغة، وفي اللغة. غير أنّها لغة لا تنقل من "الجسماني" سوى تمثّلات خاصّة به، وأداتها في هذه العمليّة عمليّة النقل، إمّا الصوت وحده في أنماط من هذه الكتابة، حيث يُخفي الفايسبوكي وجهه، أو حضور الصوت والجسد معًا. وهو ما حاولته أيضًا في روايتي "ليلة الإفك" المنشورة عام 2015، وأحاول منذ أكثر من ثلاث سنوات في رواية لا تزال قيد الكتابة هي "جمهوريّة جربة"، حيث أقصّ كيف انساحت هذه الجزيرة في البحر، وأخذت تقترب من مالطا. وربّما وقع في الظنّ، بأثر من ذلك، أنّنا مع الشعراء الذين ينتقلون من الشعر إلى الرواية، إزاء أدب "لقيط". وهذا نعت أتقبّله، بل أسوقه بالمعنى الإيجابي للكلمة، فالمبدع الحقيقي هو كالمثقّف الحقيقي لقيط، مجهول النسب، متّهم الأصل. علمًا أنّي أظلّ شاعرًا، وليست الرواية سوى ما يفيض عن الشعر. أنا في الرواية، أو القصيدة، كمن يجرّد من نفسه شخصًا آخر، ويتملاّه في مرآة، بل أجدني داخل نصّ آخر. ذلك أنّ الواقع، أي ما هو خارج الكتابة؛ "بنية جوفاء". وأنا أكتب يتهيّأ لي أنّه شخص آخر مختلف، بل نحن قلّما استعملنا أسماءنا- وصِلتنا بها من صِلتنا بأجسادنا، إذا حاكينا المقاربة "الفينومينولوجيّة" لمسألة الجسد؛ فلا يسعنا أن ننفصل عنه أو نتنصّل منه ونحن نحدّث عنه أو نفكّر فيه - ولكنّ الآخرين هم الذين ينادوننا بها.


عبد الرزاق بوكبة (الجزائر):
الكتابة مرآة للحظتها المعيشة






باتت الحياة المعاصرة نفسها مبرمجة على إلغاء، أو تماهي، التخوم بين عناصرها وحدودها المختلفة؛ ذلك أن الفنون/ الكتابة بشكل ما هي مرآة للحظتها المعيشة. فقديمًا كنا نجلب ساعة لمعرفة الوقت، وهاتفًا ثابتًا للتواصل، ورسائل ورقية للتراسل، وآلة حاسبة لإجراء العمليات الحسابية، ومنبهًا لضبط المواعيد، وآلة تصوير لالتقاط الصور... إلخ؛ بينما الآن يمكن الجمع بين كل هذه الخدمات في هاتف ذكي واحد. إن للتكنولوجيات الحديثة القائمة على الاختزال والتعدد الوظيفي دورًا في انفتاح الأجناس الفنية والأدبية على هذه الفلسفة. كما أن الحياة المعاصرة تمنح للذات الكاتبة، وقد ترغمها، فرصًا لخوض تجاربَ إنسانيةٍ كثيرةٍ ومتعددةٍ ومفتوحةٍ؛ بما يحيلها على السرد كيما يستوعب ثراء هذه التجارب. فالأمر لا يتعلق بضيق القصيدة، بل بطبيعتها من منظور حداثي؛ فهي مخصصة لما هو ذاتي، غير أننا لا نستطيع أن ننكر كون الرواية باتت تحظى بسلطة كبيرة بالمقارنة مع الأجناس الأدبية الأخرى، فهي الأكثر مقروئية ونشرًا ونقدًا وترجمة واقتباسًا وإعلامًا؛ بما يسيل لعاب بعض الشعراء؛ فينزحون نحوها بحثًا عن امتيازات أكبر، من غير أن تستدعي سياقاتهم ذلك. فيكونون عبئًا على السرد وخونة للشعر.


شفيق الطارقي (تونس):
رغبة في التنويع






لا يمكن أن نردّ انتقال بعض الشّعراء إلى الرّواية إلى سبب واحد يمكن أن نطمئنّ إليه، لأن تحول الشّاعر إلى السّرد تحيط به دوافع شتّى، يتقاطع الشعراء في بعضها، ويستقلّ بعضهم بأسباب تخصهم ولا تنسحب على غيرهم. لا شكّ في أنّ العامل البراغماتيّ يعدّ عاملًا مهمًّا، كثيرًا ما ينكره الشعراء، وأقصد به ما يميّز الكتابة الروائيّة في الثقافة المعاصرة، باعتبارها قبلة الجمهور ومنية النقاد، ولما لها من أفضال على الكاتب تظل متاحة وحلمًا مباحًا، وأقصد الجوائز المحلية والعربية والعالمية، فالرواية من هذه الجهة تتجاوز الشعر الذي يشهد ضمورًا وتضاؤلًا لقاعدته الجماهيرية، وعدم تحمس لنشره من أغلب الدّور، لأنه لا يباع، وليست له جوائزه ومسابقاته التي يمكن أن تغري أصحابها، فيكون قرار الشاعر أن يوظف مكتسباته الشعرية في نسيج حكائي، وأن يلبسها الحكاية، التي تكون ممكنة، سواء بالمتح من سيرة الشاعر، أو من مقروئية الروائي. ومن الأسباب ما هو فني عفوي بمعنى أن الشاعر ينتقل إلى الحكي طوعيًا، لأن روائيًا كامنًا يسكنه وجد ما حفّز خروجه وتجلّيه، وعادة ما تظل هذه التجارب متلبسة بالشعر، بمعنى أنّ الشاعر يظل باديًا في لغة النص وأسلوبه، وفي حبكته التي تتقلص لصالح العناية أكثر ببنية الخطاب. وقد يكون الانتقال من باب الرغبة في التنويع وفي اختبار الأجناس الكتابية وتفعيل بعضها ببعض إيمانًا بأن الحدود الموضوعة بينها وهمية، وبأن الكاتب الحق هو الذي يتجاوز عقدة الجنس وأحاديته الى محاورة بعضها ببعض، فمثلما يحتاج الشعر إلى الحكاية، تحتاج الحكاية إلى شاعر. رغم أن هجرة الشعراء إلى الرواية هي الأشد، ففي المقابل لا نجد حكّائين يفاجئوننا بأشعارهم، فللهجرة اتّجاه واحد صوب الرواية، وقد يكون الذهاب إلى الرواية بلا عود، أي أن ينقطع الشاعر عن الشعر تمامًا، وقد يكون مراوحة عادلة، أو تجربة يتيمة، لا تستمرّ.. وأيًا كانت الأسباب فإن هجرة أمراء الكلام إلى أرض الحكي قد أثرت الناتج الروائي عربيًا، وفي العالم كله، فقد كانت الرواية في أمس الحاجة إلى أن تتجدد، وإلى أن تبتكر لوجودها سبلًا مغايرة تعصف بثوابتها وتتجاوز محدداتها، وجاء الشعر لينقذ الرواية ويمنحها بريقًا خاصًا جعل حضورها مختلفًا بما حفّز النقد لمقاربة تحولاتها وتجربتها التي تتجلى أكثر في أعمال من عرفوا باعتبارهم شعراء. ولا شك في أن مساعي كثيرة قد فشلت ولم يضف أصحابها شيئًا، في مقابل نجاح البعض، وعمومًا أرى انتقال الشاعر إلى الرواية أمرًا بديهيًا، ولكنه لا يجب أن يكون متسرعًا ومتكلفًا، بل مدروسًا ضمن خطة مرتسمة واعية بمقتضيات الكتابة ومتطلباتها الحداثية، متمكنة من أدواتها ومن تقنياتها.


أحمد فضل شبلول (مصر):
الرواية فرضت نفسها عليّ






صارت الرواية أكثر براحًا من الشعر، وعن طريقها أستطيع أن أفرِّغ كل ما أريد قوله، وأن أُبسطَ القول. فمنذ روايتي الأولى "رئيس التحرير.. أهواء السيرة الذاتية"، أدركت هذا الأمر. كنت أفكر كثيرًا كيف أقول ما أود أن أقوله، ويجول في خاطري، عن طريق القصيدة، فوجدت استحالةً في بسط القول شعرًا، فلجأت إلى الشكل الروائي، فوجدت القلم يستجيب لأفكاري، فأكملت فصول الرواية التي لم يبتعد الشعر عنها أيضًا، فهناك مواقف تتطلب دخول الشعر. ومن خلال تعاملي ككاتب مع المواقف المختلفة، والشخصيات المتنوعة، والإرادات المتعارضة، والأزمنة المتعاقبة، والأمكنة الحقيقية والمتخيلة، بدأت أنسج خيوط الرواية. وتماديت في ارتكاب التجربة، التي أثمرتْ ست روايات حتى الآن، وهي: "رئيس التحرير"، و"الماء العاشق"، و"اللون العاشق"، و"الحجر العاشق"، و"الليلة الأخيرة في حياة محمود سعيد"، و"الليلة الأخيرة في حياة نجيب محفوظ".
بعد أن قرأ الكاتب إبراهيم عبد المجيد رواية "رئيس التحرير"، قال لي: لماذا لم تكتب الرواية من زمان؟ فسعدت بهذا الرأي الذي يدل على أنني وضعت أقدامي على الطريق الروائي الطويل. وصارت الرواية هي هاجسي رغم أنني لم أبتعد عن الشعر، فوسط هذا الانشغال الروائي، حصلت على منحة التفرغ من وزارة الثقافة لكتابة ديوان شعري، وأنهيت مجموعة شعرية أخرى تحتوي على 200 إبجرامة شعرية بعنوان "الخروج إلى البحر". غير أنني أستطيع القول إن التفكير بالرواية أصبح شغلي الشاغل حاليًا، وبعد أن كان التفكير بالشعر، وبالصورة الشعرية، وإقامة الوزن الشعري، وسلامة التفعيلة، وانتقاء المفردة اللغوية المناسبة والمعبرة بكل طاقاتها عن الشحنة الشعورية، هو الذي كان يشغلني قديمًا، أصبح الموقف الروائي ـ إن صح التعبير ـ هو الذي يصنع الجملة، وهو الذي ينتقي المفردة، وهو الذي يختار الشخصية، وربما الزمان والمكان أيضًا. إذًا، أستطيع القول إن الرواية فرضت نفسها علي، فكانت ضرورة حتمية في طريق الإبداع الأدبي.
وأرى أن لجوء الشعراء إلى كتابة الرواية هو فيض إبداعي منهمر، بعد أن أدركوا أن الرواية تستطيع أن تحمل بسلاسةٍ ووضوحٍ وبيانٍ أفكارهم ورؤيتهم وموقفهم من هذا العالم. وأعتقد أن معظم الشعراء الذين ولجوا عالم الرواية نجحوا في أن يكونوا روائيين، وبعضهم حصل على جوائز كبرى في عالم الرواية عربيًا وعالميًا. وقد سعدت بحصول روايتي "الليلة الأخيرة في حياة محمود سعيد" على إشادة لجنة تحكيم جائزة العالم العربي للرواية في باريس منذ شهور قليلة، وقامت بترجمتها إلى اللغة الفرنسية دار "لامرتان" للنشر في باريس. وحاليًا، تُترجم رواية "الليلة الأخيرة في حياة نجيب محفوظ" إلى اللغة الإنكليزية. وفي ظل تعقيد الحياة وتنوعها وانفتاحها على عوالم كثيرة ومتعددة ومتشابكة، أرى أن الرواية هي الأصلح لأن تترجم وتتحدث وتصارع وتخلق شخصياتها ومواقفها وأزمنتها وأمكنتها أكثر من أي شكل أدبي في عصرنا الآن، ومع كل عمل روائي يأتي شكل جديد، هكذا تعلمنا من أستاذنا الراحل نجيب محفوظ، فكما أن للحياة وجوهًا متعددة، فكذا الرواية لأنها ديوان الحياة.


أسامة حداد (مصر):
استفدت من الشعر في تقديم رواية لها خصوصيتها






فكرة التخصص تصلح في مهن عديدة، ولكن متى كانت الكتابة مهنة؟ فساراماغو بدأ شاعرًا، وغونتر غراس، وهيرمن هيسه، وكازانتزاكيس، كتبوا الشعر والرواية. وعلى الرغم من تداخل الأنواع الأدبية، وخرافة نقاء الجنس الأدبي، فثمة اختلافات بين الخطاب الشعري والروائي، تتمثل في مفهوم الزمن، حيث الزمن في الشعر هو زمن داخلي (زمن المبدع)، وهو زمن ينطلق من الاستبطان الداخلي، أما في الرواية فالاستبطان خارجي، حتى وإن كتبت بضمير المتكلم "الأنا". وبالطبع، فإن التفاصيل، وتعدد الشخصيات، والأمكنة في الرواية، تصنع العالم على العكس من الشعر، حيث التكثيف والصوت الداخلي للذات الشاعرة، والعوالم في الشعر والرواية مختلفة بسبب هذه التباينات، والوعي الجمالي والمعرفي الفيصل في قيمة النص، سواء أكان شعرًا ورواية، والشعر يظل هو الجوهر، فالتخييل في كلا النوعين يمثل القاعدة الأساسية، وللكاتب الحق في اختيار القالب الذي يضع خطابه داخله، وقصيدة النثر نصّ تقدمي يمنح الشاعر حرية في تقديم اقتراحه الشعري وتتعدد أنماط القصيدة، إنها ابنة الانتقال من الشفاهي إلى الكتابي، وتشكل مع الرواية جناحي الكتابة الأدبية الحديثة، ولا يمكن الحكم على تجربة الجمع بين كتابة قصيدة النثر والرواية بسهولة، لنترك التاريخ يقول كلمته. ولنتذكر محاولات الشعراء الكلاسيكيين في كتابة المسرح والرواية، فالأمر لا يتعلق بقصيدة النثر وحدها، والشعر ليس القصيدة الغنائية، إنه ينقسم إلى الغنائي والدرامي والملحمي، والقصيدة العربية التي وصفت بالغنائية كانت هجينًا، فالنص العمودي، ومنذ بداياته، اشتمل على الحكي والشعر الدرامي، والفارق يكمن في الإيقاع الخليلي. الأمثلة كثيرة، ولا تخص شاعرًا بعينه، حتى وإن ضمت بعض النصوص عناصر للرواية، كالحوار والتفاصيل، وتتابع الحكي، كما في كثير من نصوص عمر بن ابي ربيعة، أو سرد الرحلة للقاء الممدوح، ومشقة الطريق وصعوبته عند كثير من الشعراء في العصرين الأموي والعباسي.
أما عن تجربتي في كتابة الرواية، فلم تكن هجرًا للشعر، فحين أبدأ الكتابة لا يمكنني تحديد شكل للنص، أو قالب له. هنالك ما يدفع للكتابة من دون تحديد مسبق للنص ونوعه. وفي الوقت الذي قدمت فيه روايتيَّ "حقل البيتزا"، و"برج الصفوة"، وهما المنشورتان، فضلًا عن روايات أخرى لم تنشر بعد، كتبت نصوصًا شعرية أظنها تحمل خصوصية قد تتجاوز ما كتبته من قبل، من بينها ديواني "الطريقة المثلى لإنتاج المشاعر"، و"لا أريد شمسًا في حقيبتي"، وقد أعددتهما للنشر.. فضلًا عن عشرات النصوص الشعرية التي أعكف على جمعها في أكثر من مجموعة شعرية، فكتابة الرواية تجربة لم أسع إليها، أو أخطط لها. أظنني قدمت خطابًا روائيًا مختلفًا عما هو سائد في السرد الآني، وقد استفدت من الشعر في تقديم نص روائي له خصوصيته. أترك للمتلقي الحكم على التجربتين، وسأواصل كتابة قصيدة النثر والرواية من دون الالتفات إلى الاستفهامات حول التحّول والجمع بين كتابة النوعين، فلا يملك أحد الحق في تحديد ما يكتبه شخص ما، فالنصوص بين يدي القارئ، وهي الفيصل في الأمر.


علاوة كوسة (الجزائر):
دافع داخلي عميق






هنالك ظواهر أدبية تستحق الاهتمام والدرس والمتابعة، ومن تلك الظواهر تلك التنقلات بين الأجناس الأدبية في تجارب بعض الأدباء، كانتقال الشعراء إلى السرد عامة، والرواية خاصة، وانتقال كتاب القصة القصيرة إلى كتابة الرواية، والعكس صحيح تمامًا، أما انتقال الشعراء إلى كتابة الرواية فله احتمالات، منها: محاولة التجريب في جنس أدبي موسوعي يسع الأجناس الأدبية والفنون جميعًا، وربما كان الشعر مدخلهم الإبداعي ليكتشفوا غوايات السرد الشاسعة، وربما كان الانتقال التداولي بين ضفاف الجنسين معًا، أو اكتشاف عجزهم الشعري، وظهور بوادر إبداع روائي، وربما هروب للرواية، لأنها صارت تحتل واجهة الاهتمام النقدي والإعلامي العربي، أو هي رغبة الشعراء في خوض تجارب جديدة ما داموا متملكين للغة، وهي عماد الكتابة في شتى الفنون. أما عن رأيي ككاتب انتقل وما زال بين الكتابة في أجناس أدبية شتى، وبين الشعر والرواية خصوصًا، فهو أن الإشكال ليس في هجرة الشعر إلى الرواية، بل ما الذي ستضيفه هذه الهجرات الإبداعية؟! وأبيحها لنفسي ولغيري إذا هاجرنا من أجل إبداع نصيبه، أو من أجل تجريب نفقهه ونعيه، وقلما نجح الشعراء في تجاربهم الروائية، لأن للسرد طقوسه وجمالياته وأعرافه المقدسة التي تتجاوز اللغة الشعرية بوصفها أداة إلى اللغة السردية، وبوصفها بيتًا للوجود الروائي. إن الانتقال من الشعر إلى الرواية له دافع داخلي عميق، ووعي بالمبادلات الجمالية الفنية بين الأمم الأجناسية، وتشييد أدبي متين لجسور أجناسية تحترم المواثيق الفنية بين الأجناس، وتراعي الحدود الجمالية، وتلتزم الحدود الجغرافية الأجناسية بمرجعياتها التاريخية العميقة، وتسلح بمنظومة إنشائية قادرة على هذا الانتقال الإبداعي السلس بين سلطتي الشعر والرواية.


علي عطا (مصر):
لغة الشعر يصعب التخلص منها






الشخصي عندي هو الغالب، في الشعر أولًا، ثم في الرواية. وأذكر في هذا الصدد مقالًا كتبه سيد محمود عن أحد دواويني وصفني في عنوانه بأنني شاعر الحيّز الشخصي. ولا تحفظ لي على ذلك، سوى أن الشخصي لا بد أن له سياقًا عامًا يسهم في بلورته، وأزعم أني حققت من دون تعمد تلك المعادلة، إذا جاز التعبير، ومن ثم أنتجت مخيالًا، أو إيقاعًا، أو فكرة متوهجة على حد ما ورد في سؤالك.
السرد عندي، كما الشعر، قائم على التكثيف والإيجاز، ولغة الشعر يصعب التخلص منها، حتى أننا نجدها في نصوص لكتاب لم يعرفوا أبدًا على أنهم شعراء، منهم مثلًا إبراهيم أصلان، ويحيى الطاهر عبدالله، وعبدالحكيم قاسم، وميرال الطحاوي، وقبلهم ومعهم العظيم نجيب محفوظ، خصوصًا في "أصداء السيرة الذاتية"، و"أحلام فترة النقاهة". أقصد هنا اللغة التي تنتج نصًا هو ليس بالضرورة قصيدة، ومع ذلك تجد فيه روح الشعر التي تأخذ بتلابيب الوجدان. وليس شرطًا أن مَن تحقَق بالشعر سيتحقق أيضًا بالرواية. لكن غالبًا ما يحدث ذلك، والنماذج في هذا الصدد كثيرة، ودائمًا ما ترتبط بأصحاب المواهب الحقيقية. لكن قلما نجد من بدأ كاتبًا للرواية، ثم كتب شعرًا يعوّل عليه، ونشَره. عن نفسي، أذكر أن الدكتور جابر عصفور حين كتب مقالًا لـ"الأهرام" عن روايتي الأولى، اندهشت، وقلت لنفسي: لماذا لم يكتب قبل ذلك عن أي من دواويني. صارحته بذلك، مع أنني لست واثقًا من أنه قرأ أيًّا من هذه الديوان، فقال لي: ربما أنت في الأصل روائي أكثر منك شاعرًا، ونصحني بمواصلة الكتابة الروائية. طبعًا، أتمنى أن أواصل الكتابة، وأنا بالفعل أشتغل على رواية ثالثة. لكني في الوقت نفسه أتمنى أن تتاح لي فرصة إصدار مزيد من دواوين الشعر، ربما انطلاقًا من الإيمان بأنني في الأصل شاعر.
اتكأت على سيرتي الذاتية، في روايتي "حافة الكوثر"، و"زيارة أخيرة لأم كلثوم"، لكن الواقع المعاش حاضر في العملين، خصوصًا ما يتعلق منه بوطأة المرض النفسي، وارتباطها بالمناخ العام واحباطاته السياسية والاجتماعية، التي أتماس معها بعمق، سواء لكوني مثقفًا، أو حتى لكوني أعمل في الصحافة عمومًا، وبالصحافة الثقافية على وجه خاص. وأظن أنني نجحت في الاشتباك مع ما يسمى بالتشكيلات الصالحة لخلق عالم روائي، وتجلى ذلك في الاستقبال النقدي للروايتين على مدى السنوات الأربع الأخيرة. وجاءت روايتي "زيارة أخيرة لأم كلثوم" أكثر انفتاحًا على الهم العام، إذا ما قورنت بروايتي الأولى "حافة الكوثر". وقد قال بذلك عدد من النقاد، وكما سبق أن أوضحت فإن في العملين شذرات من سيرتي الذاتية، كسند للكتابة القائمة على أن الأولوية هي لما أعرفه وعايشته عن كثب. والقارئ الافتراضي لا أظن أنه سيتوقف أمام مسألة السيرة الذاتية، كما يفعل قارئ يعرفني بحكم الصداقة، أو بحكم وجودي في فضاء قريب من دائرة حركته الواقعية. ثم إنك لن تجد أبدًا عملًا إبداعيًا يخلو من أصداء لذات مبدعه ورؤيته الشخصية للعالم وتجاربه الحياتية، حتى لو كان هذا العمل هو حكايات "ألف ليلة وليلة"، بما تحويه من عجائبية وخيال جامح.. وربما تتفق معي في أن السرد بات سمة مميزة لكثير من الأعمال الشعرية الحديثة، ومن ثم فإن نبع الكتابة الأدبية واحد في تصوري، ولكن تخرج منه أشكال عدة للإبداع، منها القصيدة، والقصة القصيرة، والرواية. وأزعم أن تجربتي في العمل الصحافي على مدى أكثر من ثلاثين عامًا أفادتني في الكتابة الأدبية، حتى دون أن أعي ذلك، أو أقصده. وهذا أمر ينطبق على كثير من الأدباء الذين يعملون في الصحافة هنا، وفي مختلف أنحاء العالم. التأثير متبادل بلا شك، فكثيرًا ما نجد مقالات وقصصًا صحافية مكتوبة بشكل يقربها من الأدب، كما أن هناك أعمالًا أدبية لا تخلو من مؤثرات راجعة إلى اشتغال أصحابها بالصحافة.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.