رمى فتوح شريط الدواء في وجه زكية طالبًا غيره. نَظَرته ـ مرغمة ـ نظرة طويلة. لم تقو روحه على نظرتها الوقحة. واستكان رأسه على جسده. لحاله لم تتركه، وحاولتْ أن تقنعه بطريقتها الوحيدة التي تعودتْ عليها، وأمسكتْ كُمّ جلبابه المتسخ، وأخرجتْ جيبها ـ المخروم ـ الدمور، وأجبرته على النظر. بعزم رغبته؛ زعق فتوح، طالبًا شريط الدواء، وخبط الأرض بقدميه، ورمى الأشياء التي تطالها يده.
الآذان المتلصصة ترنو ناحية الدار المقفلة على أصحابها. أحسّتْ زكية بأقدامهم؛ فانحنتْ بكل عزمها تقفل حنكها الواسع. بينما حامد... ابن فتوح لا يرد على تحية أحد، وهو يركل الحصى. تبتهج نفسه، وهو يسمع ارتطام الحصى الصغير ببعضه مع كل خطوة. في الفترة الأخيرة؛ تعود بعض الصغار السير وراءه، ينتشلون الحصى الملون بدمه، فقد كان حذاؤه مفتوقًا.
***
كان حامد دائم الخوف ـ فقط ـ من الولد الأعور وكلبه الذي يلازمه. ذلك سرّه الذي لا يعرفه أحد. ولمّا يتخيل الولد الأعور وكلبه، يرتعش، ويمضي عائدًا للدار المقفلة على أصحابها. ويلتفت باستمرار عسى أن يلمح أحدًا، ويراهن حامد بين إحساسه ورؤية عينيه. المرّة الوحيدة التي رأى فيها الأعور ـ وهو يتخطى الحرابة البعيدة التي يزورها يوميًا وقت الغروب ـ حينما تخطى كلب ابن كلب حدود اللياقة، وهبش لحم المؤخرة. جرى حامد وراء الكلب؛ لما لمس بأصابعه قطعه من لحمه تتدلى. الكلب والولد الأعور وقفا لحامد. نظر إلى عين الولد العوراء، وركل الحصى الذي أمامه بقوة، ولم يفعل أكثر من ذلك. ومن يومها وهو يتلفتْ يمنة ويسرة، عسى أن يرى الولد الأعور مرّه أخرى.
***
أزاحتْ زكية ما تبقى من بشاشة وجهها الرائق، حينما أزاحتْ مزلاج الباب. دخل حامد بسرعة، وتسمّر أمام فتوح. انزوتْ زكية في ركن تضع يدها على قلبها. انفرجتْ من بين أسنان فتوح ضحكة صافية، حينما لمح بداية ابتسامة على وشك أن تأخذ طريقها إلى وجه حامد. عدّل فتوح من نظراته، وعزف عن حامد بفرك أصابعه، وفى مكانه رقد، وتستر بالسخونة والهلوسة، وارتجف الجسد المكرمش ملتحفًا بجلبابه الذي تجاوز عمره الافتراضي، وقابضًا جمرات من أشياء مستورة داخل الصدر المغلق. شيء ما يجذبه إلى حيث هو. قابع لا يحرك ساكنًا. نظر حامد إليه بإمعان، إلى عينيه، طوله، عرضه، وتقاطيع وجهه، وسحنته القمحية.
زكية تنظر إلى حامد مليًّا، وتعض علي شفتيها. فرحة وحزينة في آن واحد، بعدما انزوى حامد بعد نظرته المتأملة إلى نفسه المفعمة بأشياء كثيرة، ومشاعر تجاوزت كل حد. كانت شفتاه تعلنان بشكل متقطع بعض تفاصيل نفسه: (لن أندم كثيرًا حين أفقدك، وربما أمارس حياتي بشكل تلقائي أحُسد عليه، وربما يضحكني صديق، أو أضحك من تلقاء نفسي، وربما أغتم. صبرًا حتى تحمل سيفك الخشبي وحمارتك العرجاء، وتنازلني وجهًا لوجه. وحين تكون المبارزة غير متكافئة؛ سأعطيك بعضًا مما تشتهيه ـ نقودًا تلعب بها النرد أو الورق ـ حافزًا لك، وربما أعطيك خنجري).
ترك حامد وراءه لقيمات تسد بعضًا من الرمق حينما وجد فتوح على هذه الحالة، واستباح لنفسه خلوة، يطرد فيها ما علق في داخله؛ حتى لا يجهر بصوته؛ فتكون مشاجرة تعلو لرب السماء.
وضعتْ زكية رأسها بين الركبتين، ووضعتْ كفيها على أذنيها، وأعلنتْ رغبتها في الصراخ، لكن صراخ فتوح يزيد طبقة، أو طبقتين، ثم رضختْ له: (لكِ الله، حين تتجلدين، وتقطعين من قوت العيال؛ لترضى هذا اليافوخ المضغوط بالدم الحار، والفعل الحار).
بين اليد اليمنى واليد اليسرى ينتقل شريط الدواء الجديد، وكطفل يقذفه ـ إلى أعلى ليستقر في حجره مرّات عديدة ـ منتشيًا من الضحك. وقف حامد قبالته دونما حركة؛ فأخفى فتوح بسمة جميلة، وعتابًا مع شريط الدواء الذي استقر في جيب الصديري. بعد لحظة؛ أحس حامد بدمه يلطخ حذاءه المثقوب؛ فتخطى فتوح حتى وصل إلى الفرن، ومسك حفنات الرماد، ووضعها على الجرح.
***
ضَغَطَ الدم الحار على يافوخه كثيرًا، فأنفقتْ القلوب ألحانها القديمة المختبئة، والصدئة. جلس حامد بجواره، وتحسسه على فترات متقطعة، ثم أمسك رأسه المضغوط، ووضعه علي صدره، وزكية تساعده بهرولتها الكثيرة، وجوارحها وأطرافها المبعثرة لا تستطيع لمّها، تذهب إلى الباب سريعًا، وتلقي نظرات مرتجفة على الخارج، وتعود سريعًا. يطلب منها أشياء تنساها في حينه. أحس حامد بصدره يرتجف. انتقلتْ حرارة اليافوخ إلى صدره. تعجب لأمره. تحسس فتوح، وتحسس نفسه. وفتوح يذرف دموعًا من جسده، وعيناه تعاقران صورة حامد.
هرولتْ زكية سبعة من المشاوير بين الباب وبينهما. عانقها حامد بحرارة، وقال:
ـ اهدئي!
لم ترد زكية، فقد كان صوتها محبوسًا، يخرج ضعيفًا... مبحوحًا. أدرك حامد خشيتها في أن يعايرها الجيران، فترك فتوح على وسادة من قش القصب، وقال:
ـ هو بخير.
عيناها ما زالتا متوجستين. قلّد حامد صوت زكية وطريقة مشيتها، وانتزع منها ابتسامة ناقصة. بعدها؛ نفض عن جسمه دمعة كانت غائبة بين ثنايا قلبه، وعاش في الصمت حياة طويلة. بعدها؛ قفز كالمجنون، وراح يقلد فتوح في كل شيء، وأسعفته الذاكرة الممتلئة، حتى غرق في الضحك والبكاء معًا.
استكانتْ زكية قليلًا على الجدار الذي أمامها، وراحتْ تسبل جفونها الوارمة.
الدقائق الوارمة بنبض مرتفع تمر، والحال كما هو الحال، إلا أن فتوح تمدد، وراح يغط في نوم عميق، وتحول الجسد المسجى إلى صورة رائعة. وبين الحين والحين تنادى زكية حامد بإشارة من سبابتها المرتجفة.
***
الطبيب يلقى سماعته الحديدية على الجسد الممدد، يقيس النبض، وربما العمر، والضغط، والحرارة التي لحقتهم جميعًا. سألته زكية. لم يرد الطبيب، واستقر نظره على حامد المتسمر، ومن ثم على فتوح الممدد، وقال بلكنة غريبة:
ـ الدواء بسرعة.
ومضى الطبيب مسرعًا، بعد أن ألقى في وجوههم أسماء أجنبية.
لملم حامد شتات اللحظات المبعثرة، وخرج يركل الحصى. في عودته والأسماء الأجنبية تثقل كاهله؛ وقف أمام محل صغير للأدوات الكهربائية، والتصق وجهه بزجاج الفترينة، وتعلّقتْ عيناه على المبتكرات الحديثة، وتذكر "الريكوردر" المستعمل، والقديم، والمركون جنب "الكراكيب" في "المندرة"، وتمنى شريطًا يملأه بكلامه، أو كلام غيره، وفتش جيوبه، وعاد لفتوح محملًا برغبتين متساويتين: رغبة آنية ملحة تعطيه بهجة الفرجة لنهاية يتمناها، ورغبة مؤجلة لا يعرفها مطلقًا، لكنه يودها حاضرة رغم خوفه منها.
***
سقى حامد فتوح من الدواء ما استطاع، ونام بجواره بعد أن زهق من متابعته وهو يعد أنفاسه.
أتى الصبح سريعًا على غير عادته، والممدد يطلب ماءً. استبشر حامد خيرًا، ونادى زكية وقد راحتْ البُحة من صوتها المحبوس. حمدتْ زكية الله، وعملتْ فطورًا كوليمة، وأحرقتْ البخور؛ فأكلا في صمت لذيذ، وغبش المبخرة يحجبهم جميعًا، وزكية فرحة بهذا الالتصاق، وفى عينيها ريبة. نظر حامد بإمعان إليه، وهو يلوك الطعام.
بين الغضب والرضى، علّق فتوح بين يديه شريط حامد، وقهقه عاليًا، كأنما فاض الحزن بالفرح. تمالك حامد نفسه، وعلامات الاستفهام خوازيق تخرم ظاهره وباطنه. حدف فتوح شريطًا لحامد، ووضع شريطه المملوء بليل البارحة تحت وركه. قال حامد لنفسه: (كيف استبدل الشريطين، وكيف عرف نيتي، ومتى ابتاع الشريط الآخر؟!) وأحس أنه بجسدين أو روحين، وخبط رأسه بكلوة يديه. أشار فتوح بيديه إشارات جعلته يحس أن سريرته مفضوحة، فلاذ حامد بالصمت. بعد مدة، علا صوت فتوح:
ـ آه من السؤال. الصمت أحسن لك!
عقدت الدهشة جوارح حامد، وأدرك أنه ينازله وجهًا لوجه، وكأنما يود أن يقول له: (قل ما تريد معرفته.. اسأل) نطق حامد بسرعة، كأنما ردد جسمه صدى السؤال، لكنه أدرك نفسه، وقال:
ـ كل شيء. كل شيء.
وحاول حامد أن يستعطفه، ويمنحه قربًا حميمًا، وأبديًا، والتصق به، وناوشه بكلمات وغمزات، وابتسم رغمًا عنه، وقال:
ـ لا تكذب.
ـ اخرس، والزم حدك.
واندفع فتوح بسرعة إلى سكة أخرى، يعرفها جسمه فقط.
خيمة كبيرة من الصمت احتوتهم جميعًا، وفتوح يرتجف قليلًا. أطرق حامد رأسه، وحمله إلى سريره، واختلى بزكية. ولمّا أحستْ برغبة حامد العارمة، حاولتْ أن تفتح حنكها، وبدأتْ تلم أطراف الحكاية. والحكاية ترسم على وجهها أزمنة. أول الحكاية الصلاة على النبي الهادي. سمع فتوح حكيها، وهو ممدد على السرير؛ فقام وهو يلهث، وقال:
ـ أنا الأول.
ضحك حامد عاليًا، وأدرك أن له شاربًا قد طال هذه الأيام.
قامتْ زكية، واستكانتْ في غرفتها، ونامتْ من التعب، وقد كانت منتظرة دورها.