}

عن حضور الموت والحياة في أدبنا العربي المعاصر

ممدوح عبد الستار 25 سبتمبر 2022
هنا/الآن عن حضور الموت والحياة في أدبنا العربي المعاصر
(جلال علوان)

يبدو الموت في الأدب العربي ثيمة رئيسية، ما دعانا إلى أن نطرح على عدد من المبدعين العرب الأسئلة التالية: لماذا يهتم أدبنا العربي بالموت؟ وهل من اختلافات ظاهرة في اهتمام أدبنا العربي بالموت مقارنة بآداب شعوب أخرى؟ هل يمكن القول مثلًا إن أدبنا العربي يحتفي بالموت في حين أن الأدب الغربي مثلًا يُقدّس الحياة؟ فكان هذا التحقيق:


خليل النعيمي (روائي وقاص سوري/ فرنسا):
الموتى يستحقون النقد أكثر ممّا يستحقّه الأحياء

خليل النعيمي 


العلاقة مع الموت تلخّص تاريخ الإنسانية. وإذا كنا، نحن في العالم العربي، مفتونين بالديانات التوحيدية الثلاث، عدا عن كوننا مصدرها، فهي لا تشكل إلاّ نسبة ضئيلة من معشر البشر الذي يقطنون كوكبنا. وهذه الديانات الثلاث أصلها واحد، وتصوّرها للموت واحد. وهو ما يعني أن الموقف الغربي، في شقيه اليهودي والمسيحي، لا يختلف أبدًا عن موقفنا. فالتوحيد الديني، أو شبه الديني، بدأ في الشرق أولًا، وبالتحديد في بابل منذ مئات السنين قبل الميلاد. ومن ثمّ في مصر حتى قبل أن يطوّره أخناتون (راجع "موسوعة تاريخ الأديان والأفكار الدينية"، للعلاّمة مرسيا إلياد).
العالم من حولنا، إذًا، ليس شرقًا وغربًا فقط، كما يمكن لنا أن نتصوّر. فالشرق والغرب هما جزء ضئيل، بل شديد الضآلة، بالنسبة لبقية الكون، وإن كنا في العالم العربي، اليوم، مبهورين بـ"غربنا" الذي صنعناه، فتجاوَزنا بقوة. ففي "نيبال"، في أعالي الهيمالايا، مثلًا، كما في بقية شبه القارة الهندية، يقيمون سرادق لحرق الموتى، وكأنهم يقيمون لهم عرسًا، لا مأتمًا. مفهوم "المأتم" شرقيّ بامتياز، وهو ما يؤدي في النهاية إلى "تغليف" الميت بغلاف كتيم يخفي عنا عيوبه التي كان من الواجب علينا إظهارها، لا "تغميطها". لكن الكائن العربي "عَطوف" على "موتاه" أكثر مما ينبغي.




وأنا أرى أن الموتى يستحقون النقد أكثر ممّا يستحقّه الأحياء. لأنهم أخطر على الوجود منهم. وبخاصة، عندما يُحيِّد غيابهم الفيزيائي حاسة النقد عندنا عن طريق الارتباط العاطفي المحض بهم، غالبًا، وليس العقلاني، دائمًا. وفي الثقافة العربية كانت تسود، ولا تزال، نظرة تبجيلية لهؤلاء الذين فقدناهم. ولنا أن نعرف أن تبجيل الموتى، هو نسيانهم. هو إبعادنا عن نقدهم، ونقد إنجازاتهم التي قد تكون مهمة في أغلب الأحيان. فالتبجيل، في الحقيقة، نوع من الإقصاء. والإقصاء ليس معرفة، ولا هو وسيلة لإنتاجها.
نقْد الموتى، إذًا، أو كشف عيوبهم ليس محرّمًا، ولا مذْمومًا، لأن الكشف عن العيوب، في نظري، أهمّ من المزايا المزعومة، غالبًا. وهذا الكشف الجنائزيّ، لو حصَل، قد يفتح طريقنا الثقافيّ المسدود، لأن عيوب الكائن هي أثمن ما خلّفه في حياته. إنها الدليل الحاسم على تطوّر الكائن الذي تجاوزها. فأسوأ الكائنات هو الكائن الذي بلا عيوب. أما مقارنة سردية الموت بين الشرق والغرب فلا معنى لها معرفيًا، لأنها مفهوم إحصائي بحت، ولا أحد يمكن له أن يدعي أن في إمكانه مقارنة ما لا تفيد مقارنته.


محمد أحمد المسعودي (ناقد/ المغرب):
تمثيل الوضع المأزوم للإنسان العربي

محمد أحمد المسعودي 


من يطلع على ما يُكتب الآن وهنا في الوطن العربي من أعمال سردية، وبخاصة في الرواية، يلمس انشغال الروائي العربي بموضوعة الموت وتشكلاتها المادية (موت الإنسان ونزعه واحتضاره) والمعنوية (حالات الإحباط واليأس والشعور بالهزيمة والموات الجماعي/الحضاري) نظرًا إلى أن الروائي ابن بيئته ونتاج ثقافة مجتمعه ومجاله الحضاري وحمولاته الثقافية. وبالتالي، بما أن المجتمعات العربية جميعها من المحيط إلى الخليج ومنذ أواخر القرن التاسع عشر تعمل جاهدة على تجاوز موتها الحضاري والخروج من شرنقة الموت التي التفت على عنقها، فإن الأعمال الروائية التي كتبت منذ تلك الفترة وحتى الآن تمثل الوضع المأزوم للإنسان العربي فردًا وجماعات وشعوبًا وحكومات، وهي تصارع الموت، أو وهي تنازع وتذهب إلى مهاوي النسيان والتلاشي.




وعلى عكس ذلك نرى السرود الغربية المعاصرة، على الأخص، تحتفي بالحياة وتقدس الحياة الإنسانية، وترتبط بأفق الأمل وزرعه، وتمثل وضع الإنسان الغربي الذي يعيش مرحلة رفاهية واستقرار لم يعرفهما قبل العصر الحديث. ومن هنا نرى أن الوضع الحضاري للروائي الغربي يتمثل في إبداعه، ويقدم صورًا متنوعة لما تعرفه حياة الإنسان الأوروبي والأميركي من دعة وبذخ وتقدم مادي، ومن سكون ورفاه معنوي.
إن الرواية باعتبارها فنًا أدبيًا مداره تصوير الإنسان وحالاته وأوضاعه وتفاعله مع الحياة والوجود، تعد تمثيلًا قوامه اللغة لما يعرفه الإنسان ويعيشه بوساطة التخييل. ونظرًا إلى أن الرواية العربية في نشوئها منذ أواخر القرن التاسع عشر، وفي تحولاتها وارتقائها حتى لحظتنا الراهنة، كانت سعيًا حثيثًا لتمثيل أشكال مكابدة الإنسان العربي في الانعتاق من التخلف، والتحرر من شتى مظاهر الموت وتجليات الاندثار والتقهقر الحضاري (الذي هو موت للأمة)، فإن هذا التمثيل يلعب على الحدين، ويشخص الرغبة في الحياة، والانتصار لمعاني الارتباط بالحياة والاحتفاء بها، لكن تتالي النكسات والهزائم التي تمر بها المجتمعات العربية جعل غلبة الشعور بالموت، وطغيان الإحساس بالإحباط واليأس، تطفو على سطح الإبداع السردي؛ ولعل الظروف غير الملائمة سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا لم تسعف الناس على الاطمئنان إلى الحياة والتمتع بها وبملذاتها. وهذا الأمر استفحل أكثر مع الألفية الثالثة التي عرفت خلالها البلاد العربية مزيدًا من الاضطرابات السياسية والتراجعات على كافة الأصعدة بعد الثورات الخائبة. غير أن هذا لم يمنع بعض الروائيين العرب من الاحتفاء بالحياة وتقديسها والانتصار لقيم الحياة ضد مظاهر الموت وتجلياته، فعملوا على تصوير ارتباط الإنسان العربي بالحياة وتقديسها والتغني بها، وهو في وطنه، ونلمس في الرواية العربية التي اتخذت من فضاءات الغرب (أوروبا وأميركا وأماكن أخرى من العالم) تمثيلًا أكثر وضوحًا لرغبات الشخصيات الروائية العربية في النهل من ملذات الحياة والارتباط بها وتقديسها، إذ تنغمس هذه الشخصيات في إيقاع الحياة الجديد الذي يتيح لها هامشًا أكبر للحرية والانفتاح والخروج من شرنقة الاستبداد والظلم وشتى أشكال العسف التي تمارس في البلاد العربية، وفي هذا السياق أستحضر أعمالًا للحبيب السالمي، وصلاح عبد اللطيف، وصمويل شمعون، ومحسن الرملي، وعبد الهادي سعدون، ونعيم عبد مهلهل، وأحمد المديني، ويوسف المحيميد، وغيرهم.
والناظر في تاريخ الرواية الغربية والعالمية يرى أن رواية شعوب عدة مرت بما تمر به الرواية العربية في أزمنة انحطاط، أو خلال أزمات مرت بها هذه البلاد، كما نلفي في الرواية الأميركية التي وقفت عند الحرب الأهلية، أو أزمة 1929، وخاصة عند جون شتاينبك، وكما نرى في الرواية الألمانية والنمساوية في فترة ما بين الحربين العالميتين، وخاصة لدى توماس مان، أو كما نرى في الرواية اليابانية مع ياسوناري كاواباتا، بعد الحرب العالمية الثانية، وما كان لها من آثار نفسية واجتماعية مهولة على الإنسان الياباني. من هنا نتبين أن ثقل حضور فكرة الموت بشتى تشكلاتها في السرد الروائي تتصل أساسًا بحالات الوضع الحضاري والشرط الإنساني القلق خلال فترات تاريخية تعرفها الأمم والشعوب. غير أن المفارقة هي أن اللحظة التاريخية العربية القلقة والمضطربة امتدت طويلًا منذ ما أطلق عليه "عصر النهضة" الذي لم تتلوه أي نهضة، بل تلاه موت وارتكاس مهول لم يمكن البلاد العربية من الخروج من عنق زجاجة التخلف والاستبداد حتى الآن، لهذا سيظل الاحتفاء بالموت والارتباط بعوالمه في العوالم السردية العربية مستمرًا إلى أن يتغير الواقع الفعلي، وتتحسن ظروف حياة الإنسان العربي والأديب العربي.
وقبل أن أختم كلمتي هذه لا بأس من أن أشير إلى أن قدر الإنسان العربي أن يظل يحارب طواحين الموت والقتل والدمار والفناء، وأن هذا القدر ألقى بثقله على أهم نص سردي عربي مؤسِّس للسردية العربية، بل الإنسانية، وهو "ألف ليلة وليلة"، أليست كل حكايات هذا العمل الإبداعي المدهش تدور حول الاحتفاء بالحياة، وبمقومات البقاء والاستمرار، ضدًا على القتل والموت والاستبداد، وأن هذا النص في حكايته الإطار جعل المرأة رمز الحياة تقف في وجه الرجل المستبد، وتعلمه معنى قبول الحياة، والارتباط بها وحبها؟


خالد إسماعيل (روائي/ مصر):
الأدب مرآة الحياة

خالد إسماعيل 


الموت فكرة مركزية لدى الحضارات الشرقية. فعلى سبيل المثال، المصريون القدماء شغلتهم الحياة التالية للموت. ولست في حاجة إلى التذكير بأن الموت في الحضارة المصرية القديمة هو رمزها المعماري "الأهرامات"، الهرم مقبرة الملك. والعرب ورثة هذه الحضارة القديمة، وغيرها من حضارات العراق والبحرين، والموت في الثقافة البدوية مركزي، الثأر عادة بدوية يتخلف عنها الرثاء والبكاء بالشعر. وعلى مستوى الشعوب، هنالك فن الحزن "العديد"، وهو فن تختص به النساء، تعدد محاسن الميت العزيز، والفراق والفرقة تبعث الأسى في نفوس العرب، هذا كله جعل المبدع العربي مهمومًا بقضية الموت، هي مركزية في وجدانه. في الغرب، على العكس من هذا كله، لا يهابون الموت، ولا يقدسونه، ويعرفون أن الحياة واحدة وجديرة بأن تعاش، والفرح عندهم فن وصناعة، والتقدم والإنجاز والهيمنة على مقدرات الشعوب البدائية في حقبة الاستعمار العسكري والشعور بالزهو يجعل الغربي محبًّا للحياة. الأدب عندهم مرآة الحياة، فالمجتمع المحب للحياة أدبه يعبر عنه وعن جوهره، والعكس صحيح.


الغربي عُمران (روائي/ اليمن):
نقضي حيواتنا في تحضير الموت

الغربي عمران 


هذا التساؤل جعلني أكرر قراءته متأملًا ومستذكرًا قراءتي في الرواية، لأبدأ بالبحث عما يؤكد مضمون تقديس الموت، لأجد بأنه هذا التساؤل يلامس الحقيقة، فتلك الحضارات الإنسانية المستمرة والمؤثرة على الشعوب الأخرى من الدول الأكثر تقدمًا ما هي إلا وجه من أوجه تقديس الحياة، وما لدينا من مظاهر التخلف هو في الحقيقة نتيجة لتقديسنا للموت. وكلا النقيضين هما نتاج لنظم وقيم تسير المجتمعات المختلفة إثرها، فالحرية والعدالة والمساواة وكل قيم الخير، أو نقيضها، ما هي إلا نتائج للفكر المترسخ منذ قرون فيها.
تقديس الموت مترسب لدى الكائن البشري، فالفناء هو نهاية كل الموجود، والدين كرس في وعي الكائن ما ينتظره في نهاية مشواره، تجاوزت شعوب الغرب شيئًا من ذلك من خلال قيم العلمانية، وبقي الوعي العربي أسير تلك النصوص المقدسة التي ترفع من مكانة الجهاد والاستشهاد، وما ينتظره هناك حسب النصوص الدينية.
الدين معضلة تجاوزتها أنظمة انسانية عديدة، وبقيت أسيرته كثير من الشعوب. إذ أن المسألة مسألة عوامل ودوافع. والحقيقة ليست كما جاءت في السؤال مطلقة بين الأدب العربي والغربي، بل هي نسبية، والموت يسكن الوعي البشري كنهاية حتمية، ونختلف فقط في فهمنا وما يحمله الوعي فيما ينتظرنا من أوهام صورتها الغيبيات وقدسناها. ولذلك نجد عددًا من مبدعينا، فنًا وأدبًا، يقبعون في أسر الغيبيات، رغم ادعائهم بشأن امتلاك وعي فكري متطور، ونتيجة لذلك لا نقدس الحياة، بل نقضي حيواتنا في تحضير للموت.


سعيد الخطيبي (روائي/ الجزائر):
كلّ موت فاتحة حكايات

سعيد خطيبي 

 




الموت هو الحكاية الأكثر اكتمالًا. نحن نواجه ثيمة الموت على علم مسبق بأن نمسك بكلّ ما سبق تلك اللحظة. لن نخشى أن يطرأ طارئ من بعدها. مثلما يأتي الموت من دون سبب، فإن الاحتفاء به أيضًا لا يحتاج إلى سبب. كلّ حياة مآلها الموت، وكلّ موت فاتحة حكايات. لست أوافق الرّأي بأن هنالك اختلافًا بين العربي والغربي في تقديس الموت. في الغرب أيضًا طقوس الجنائز أطول أمدًا من مراسيم الأفراح. قد تنتهي حفلة عيد ميلاد في الغرب في غضون ساعات، لكن رثاء ميّت يدوم يومًا، أو أكثر، ثم بعد أربعين يومًا، ثم بمناسبة 100 يوم، ثم ذكرى سنوية أولى.. إلخ. فالموت يذكرّنا ـ سواءً كنّا عربًا أو لم نكن ـ بالفقد، بأن هنالك لونًا ناقصًا في لوحة، وأن الرّثاء يقلّل من افتقادنا إليه. في الأدب، نستعيد موضوعة الموت كي نزداد تمسكًا بالحياة. في "ألف ليلة وليلة"، كانت شهرزاد تحكي ليس حبًّا في الحكاية، بل كي تطيل عمرها، كي لا تقطع رقبتها. الموت سبيلنا إلى العيش أيضًا. مثلما فعلت آنا فرنك، كانت تكتب وتدوّن ما يحصل معها، كي تنسى الموت الذي يدنو منها. في العالم العربي، صار الموت جزءًا من يومياتنا، إن لم نمت فهناك قريب لنا سيلقى حتفه، نحن نسارع إلى الكتابة عن الموت كما لو أننا نرثي حالنا قبل الأوان، نشيّع ذواتنا إلى مأواها الأخير قبل أن يشيّعها الآخرون. نحن نكتب عن الموت من أجل الاستعداد له، تأثيثًا للعزلة التي تنتظرنا بعد الحين. نحن على يقين من الموت، لكننا ـ مهما ادّعينا ـ جبناء في مواجهته، لذلك نتخيّل موتنا تخفيفًا لما سوف نتحمّله في الواقع.


يحيى القيسي (روائي/ الأردن):
لا يمكن تجاهل أثر الثقافة الشعبية والأفكار الدينية

يحيي القيسي 


ثمة تسلل خفي للثقافة الدينية السائدة في النصوص الأدبية السردية والشعرية العربية. هذه الثقافة تروج للموت وتحتفي به على حساب الحياة واشتراطاتها. وثمة اشتغال متواصل على نشر المفردات القبورية بدلًا من الاحتفاء بوردة. لا يمكن تجاهل أثر الثقافة الشعبية والأفكار الدينية في هذا السياق، ولا يمكن المرور بسهولة على الأوضاع الكئيبة للشعوب العربية والدمار الممنهج للأرض والإنسان ولكل مقومات الحياة، وللأسف فإن كثيرًا من الأدباء العرب وقعوا ضحية لهذا الأمر. شخصيًا، حاولت تقديم صورة جميلة ومشرقة للموت في روايتي "بعد الحياة بخطوة"، وهي مقاربة غير تقليدية لما بعد الموت قد تناقض التصور الديني التقليدي، أو تفترق عنه لصالح استمرار الحياة هناك بحالة أكثر رُقيًّا وجمالًا، حتى ظهر من يقول لي إنني "أرش على الموت السكر"، وهذا مثل أردني لمن يحاول تجميل الكآبة، أو التخفيف من وقع المآسي.
بالنسبة للغرب، فإنهم أبناء الحياة بجدارة، وثقافتهم الدينية التي هي في الأساس غير مؤثرة كثيرًا في مجتمعاتهم، تبدو رغم ذلك منحازة للحياة. لهذا تجد أن طاقتهم مركّزة كثيرًا على البهجة، وجعل الحياة هي المستقر والمأمول للاحتفاء به، وحتى في حالة الموت تجدهم أثناء العزاء يلبسون بطريقة مرتبة، ولا تجد الصراخ والعويل وكثرة النواح، حتى الميت يلبسونه أجمل الثياب، ويطوقونه بالورود، أما في الحالة العربية فيجلسون عند قبره ليذكروه "بناكر ونكير، والشجاع الأقرع". وبالطبع، لا يتسع المجال هنا لتعداد الأعمال الأدبية العربية والغربية، وكيف احتفت بالحياة، أو بالموت، فهذا يحتاج إلى مجلدات.


محمد سعيد أحجيوج (روائي/ المغرب):
حضور الموت هو بغاية الاحتفاء بالحياة

محمد سعيد احجيوج 


أصرح دائمًا أنني مقل في القراءة، أو إن شئنا الدقة انتقائي جدًا، غير أن قراءة سؤال هذا التحقيق تدفعني دفعًا للاعتقاد بأنني لا أقرأ شيئًا. هل حقًا الأدب العربي، وأنا بالضرورة أحصر حديثي هنا عن الرواية، يحتفي بالموت ويقدسه على نقيض الرواية الغربية التي تحتفي بالحياة وتقدسها؟ ما أراه، في حدود قراءاتي، حضور الموت في الرواية غير العربية (غربية كانت أم شرقية) هو أكثر بكثير من حضورها في الرواية العربية. يحضر الموت في الرواية الغربية بشكل مكثف، وربما المفارقة هنا أن حضور الموت هو بغاية الاحتفاء بالحياة، وليس بتقديسه هو في حد ذاته. يساعد الأدب على تنظيم الحياة وإضفاء المعنى عليها، وحضور الموت في الرواية الغربية يأتي لأهداف متعددة منها: إظهار وتعزيز معنى الحياة، المساعدة على مواجهة توترات الحياة اليومية والأحزان والكآبة، وكذلك مواجهة الخوف من الموت والكشف عن معنى الموت في سيرورة الحياة. فهل يحضر الموت في الرواية العربية وفق الرؤية نفسها، كما في الرواية غير العربية؟ هنا أيضًا مفارقة، غياب الحديث عن الموت في الرواية، باعتباره حدثًا يوميًا لا مفر منه، هو خوف منه وهروب من مواجهته، وبالتالي هو تقديس ضمني للموت.




غير أن الموت ليس منعدم الحضور إطلاقًا في الرواية العربية، إنما حضوره متركز في صنفين: الموت التراجيدي، الجماعي، الذي تفرضه الحالة العربية المتأزمة من الصراعات الداخلية في أكثر من قطر عربي بعد الربيع العربي. والنوع الثاني من الموت، وهو مقدس لا شك، هو الموت الذي يقود إلى عالم الجنان والحور العين، أي الاستشهاد. ربما هذه الرؤية الثانية، إن سلمنا بوجود تقديس للموت في الرواية العربية، هي السبب. العربي، المسلم خاصة، يعرف أن الموت بوابة نحو العالم الآخر، الذي يشتهي أن يكون جنة وهو في الوقت نفسه يخاف أن يكون جحيمًا. هذه الرؤية تنظر إلى الموت بتقديس وهيبة مشوبين بأمل في حياة أفضل تعوض البؤس الذي يعيشه في الحياة الدنيا، مع خوف ورعب أن تقوده بوابة الموت إلى الجحيم، وليس الجنة.
هذه النظرة الدينية عند العربي، التي تدفعه للهيبة من الموت، واعتقاده الضمني أنه ليس مستعدًا للموت بعد، مهما يكن العمر الذي عاشه، هي التي تضفي على الموت، رغم اعتياديته اليومية، قدسيةً مفرطة تخرجه عن اليومي المعاش، لذلك تختلف طبيعة حضور الموت في الرواية العربية عن حضورها في الروايات الغربية، بخاصة روايات المجتمعات ذات الطبيعة المادية.


نبيل قديش (روائي/ تونس):
الموت والحياة نقيضان مترابطان لا يمكن فصلهما

نبيل قديش 


لم يكن الأدب وحده من انشغل بالموت كحقيقة وسؤال وجودي خطير ومقلق وجد الإنسان نفسه معه وجهًا لوجه مباشرة بعد الخلق، خلق آدم وحواء، إذ سرعان ما أصبح الموت قرين الحياة وصنوه. ولنتذكّر أن أوّل صورة فنيّة إنّ صح التعبير بعد الخطيئة الكبرى وعقاب الإنسان بطرده من الجنة سوف تكون صورة قابيل وهو يدفن هابيل بعد أن قام بقتله مستلهمًا ومستوحيًا من دفن الغراب لأخيه أيضًا. ها هنا، إذًا، نجد أن الدين والفلسفة والتاريخ بشكل عام قد سبقوا الأدب إلى تناول ظاهرة الموت بوصفه مبحثًا يدفع للتأمل والتفكير والمعرفة، ووجد الإنسان نفسه تارة يتكئ على النص الديني ليطمئن قليلًا من خوفه، ويعقد أمله في حياة أخرى ما بعديّة، وتارة على الفلسفة، وما انبثق عنها من علوم، علّه يجد حلًا، أو وسيلة للمقاومة.
القلق لازم رحلة الإنسان الطويلة كلّما اصطدم بأسئلة الوجود والغيب، فابتدع الفنّ ليهوّن عليه حيرته وقلقه ووقوفه العاجز أمام ظاهرة الموت، ولن يكون الأدب في منأى عن هذا الإشكال الكبير، والأسئلة المحيّرة التي تدخله في نطاق الغيبيات (لماذا نموت؟ وهل هناك حياة بعد الموت؟ وإلى أين نذهب بعد الموت؟ وهل يمكن قهر الموت؟) كلّها تساؤلات حاول الأدب العالمي الإجابة عنها بطرائقه المتعدّدة. ثيمة الموت تناولها مثلًا الأدب الفرنسي في ما يعرف بعبثية ألبير كامو، ففي فلسفته العدميّة التي تعدّ الإنسان مقبلًا من الموت وعائدًا إليه، يؤمن الكاتب بحتمية الموت، لكنّه لا يهتمّ بما قبله، أو ما بعده من أحداث. وفي أدب الأميركي همنغواي تحضر فكرة مواجهة الموت بشجاعة كواحدة من السمات الطاغية. أيضًا، نجد ثنائية الحياة والموت حاضرة بقوّة في أدب الروسي إيفان بونين، مصطدمة في كلّ مرّة بالنتيجة نفسها، الموت والحياة هما نقيضان مترابطان لا يمكن فصلهما.




الأدب العربي لم يشذ كثيرًا في اعتقادي عن ذينك التيّاريْن، أو النَفَسَيْن المختلفيْن، مقاومة الموت والتصدّي له تارة، والانحناء له والاستلام له كحتميّة تارة أخرى، لكنْ يمكننا أن نلحظ السبق الذي حققه الشعر العربي على حساب الكلّ في تناول ثيمة الموت ولا يزال، ففي الشعر العربي القديم راوح الموت بين المرثيات والمدحيات، لكنّه بقي عنوانًا واحدًا ألا وهو الحقيقة الأزليّة الحتمية التي لا يمكن الفكاك منها. ثم جاء الشعر العربي الحديث والمعاصر ليواصل السير في النسق ذاته، مع واقع جديد اتسم بأزمة الأمة العربيّة التي عمّقت هزائمها ومعاركها الخاسرة النظرة التشاؤمية الانهزامية، بالنظر إلى الموت كواقع يفرض نفسه بقوّة. الأمر لا يختلف كثيرًا في ما يخص السرديّات، إذ شهدنا على غرار الأدب الغربي ميلاد أدب "الديستوبيا العربي"، ولعلّ الموت والخراب والسوداويّة أهمّ سماته.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.