}

هل لمهنة الكاتب تأثير على إبداعه؟

ممدوح عبد الستار 22 يوليه 2022
آراء هل لمهنة الكاتب تأثير على إبداعه؟
(Getty Images)

  

كل مهنة لها توابعها، وطريقة ملابسها، وأيضًا حديثها. فالموظف قديمًا كان لا بد له أن يشتري الجريدة، وأن يضعها تحت إبطه ذهابًا وإيابًا حتى لو لم يقرأ الجريدة، ثم تصبح ملازمة له. فالوظيفة تخلق طقوسها اليومية. وهناك فئات مختلفة من المبدعين، ولا شك في أن مهنهم تؤثر في زاوية نظرهم حيال الكتابة، والحياة، والوجود، وتؤثر حتى في نوعية الأجناس الأدبية التي يكتبونها، أو اختاروها للكتابة. ولقد تأثر الكثير من الكتاب بتلك الوظائف التي مارسوها.

ولو تطرقنا إلى نماذج من بلدي مصر نرى أن توفيق الحكيم كتب رواية "يوميات نائب في الأرياف" بعد التحاقه بمهنة وكيل نيابة، وحتى طقوس نجيب محفوظ في الكتابة، ونظامه الذي اخترعه كان بسبب وظيفته. ويوسف إدريس ترك الطب، وزاول مهنة الصحافة. وهذه الفكرة هي ربما أساس تمرده في الإبداع، لأنه لم يرد أن يكون طبيبًا، وأراد الإبداع الذي يحبه، وضحى لذلك. وإحسان عبد القدوس ابن الذوات، وابن روز اليوسف الذي عاش في القصور، ويعرف تفاصيل تلك الحياة، لم يكتب إلا عن ما يعرفه ويحبه.

هذه الرؤية جعلتنا نسأل بعض الكتاب: كيف تكتب القصة، أو الرواية، أو الشعر، وعملك بعيد عن الأدب؟ وهل لمهنتك تأثير على كتابتك؟ وما هو العمل الأدبي الذي ظهرت فيه مهنتك؟ وهل ترى أن اختيارك لهذه المهنة كان حافزًا آخر للكتابة الإبداعية؟

عزة رشاد 



القاصة والروائية والطبيبة عزة رشاد (مصر):

ممارسة الطب تمنحك خبرات حياتية ثمينة..

اخترت أن أكون قاصة وروائية لأني وجدت أن الكتابة السردية هي الطريقة المثلى بالنسبة لتكويني وإدراكي وميولي للتفاعل الخلاق مع الذات ومع العالم من خلال تمثل عوالم متخيلة تعبر، في بعض الأحيان، عن الواقع أكثر مما يعبر هو عن نفسه. أي أنها تبلوره وتعريه. هي في الحقيقة لعبة مخاتلة يدمنها العشاق الحقيقيون للأدب، وكثيرًا ما تستبد بهم وتقذفهم بعيدًا جدًا عن الواقع، حيث يمكنك أن تعلم من أين يبدأ الخيال لكن محال أن تعلم متى ينتهي. هذا بخصوص الأدب، أما دخولي كلية الطب فتحدد بسبب عدم وجود كلية إعلام وكانت هي رغبتي في الحقيقة في مدينتي الصغيرة في ذلك الوقت وعدم موافقة الوالدين على إقامة ابنتهم "الصغيرة" بعيدًا عنهما لكي تدرس هذا الإعلام. وحتى الآن لا توجد كليات إعلام إلا في عدد محدود من الجامعات الإقليمية. دخولي الطب قرر طبيعة مهنتي. هناك أسماء كثيرة كبيرة في الأدب تخرجت من الطب ثم قطعت الصلة به نهائيًا بعد أن وجدت عملا مهنيا مستقرًا وكافيًا في الصحافة الأدبية، كانوا محظوظين في هذا الأمر. وهناك أكثر منهم بكثير ما زالوا يمتهنون الطب ويمارسون الكتابة الأدبية في الهامش الصغير المتاح من الوقت. وهذه الفئة الثانية أغلبها من الشباب. وبالنسبة لي عملت عامين مديرا لتحرير مجلة الرواية التابعة للهيئة المصرية العامة للكتاب 2010، 2011 على أمل الاستقرار في الصحافة الأدبية، وقطع الصلة بالطب، ولكن 2012 كانت فترة تغييرات طالت أغلب الكيانات. ذكرت هذا فقط لأوضح لك أنني حاولت بالفعل أن أمتهن الصحافة الأدبية لما لذلك من تأثير إيجابي على الإبداع الأدبي، على الأقل يوفر للكاتب متابعة جيدة للجديد عبر العالم. ولما لم يحدث فقد ظللت منقسمة بين الاثنين، المشكلة أن كلًا منهما متعنت ويحب الانفراد. وبالتالي يسرق الطب الوقت والعمر للأسف. لكن أيضًا ثمة بعض الاستفادة من الجدل البنّاء بين المجالين. فممارسة الطب تمنحك خبرات حياتية ثمينة وتمنح رؤيتك وكتابتك بالتالي زخمًا وعمقًا وتفهمًا، فالطبيب هو أكثر من يرى الإنسان في حالات ضعفه ومخاوفه وتناقضاته أو فصاميته في الأحوال العادية، ناهيك عن رصده لإحساس التهديد من المرض ومضاعفاته. وشخصيًا حرصت ألا أردد في كتاباتي جملة أنني طبيبة أو أنقل مشاهد مباشرة من المستشفى بشكل فج يثير ضيق القارئ ويخلق لديه تصورًا عن كون الكاتب يعاني من البارانويا، ولهذا خففت يدي كثيرًا. لكن يمكنك قص أثر الطب في الكتابة.. المرض وشروخ الذات وتشوهات الذاكرة، ستجد بالتأكيد تفاصيل لا يعرفها إلا طبيب.

 

محمد عيسي المؤدب 



الروائي وأستاذ الأدب العربي محمد عيسى المؤدب (تونس):

مهنتي ليس لها تأثير مباشر على تجربتي في الكتابة

إن مهنتي كأستاذ للأدب العربي ليستْ بعيدة عن الأدب، في مستويات البرامج التي أدرسّها لتلاميذ الثّانوي، والتّعامل اليومي مع فنون الشّعر والقصّة والرّواية، بالإضافة إلى الأبحاث التي أنجزها في إطار عملي. وباعتقادي أنّ مهنتي ليس لها تأثير مباشر على تجربتي في الكتابة، باعتبار أنّ الكتابة لها مناخات أخرى بعيدة عن الواجب اليومي وقيود الدّرس وأجوائه الرّوتينيّة. الكتابة شغف بالقراءة والبحث واكتشاف الفكرة والمعنى. ومع ذلك فأنا أستفيد من مهنتي في تجديد لغتي والتّفاعل مع شخصيّات تلاميذي الذين يمكن أن يُنشّطوا مخيالي الرّوائي.

روايتي الأخيرة "حذاء إسباني" الصّادرة عن دار مسكيلياني والمُتوّجة مؤخّرًا بجائزة الدّولة للرّواية في تونس حضرتْ فيها مهنتي من خلال شخصيّة أنور، أستاذ العربيّة والصّديق الحميم للضّابط الإسباني "مانويل قريقوري". أنور أستاذ العربيّة ليس مجرّد سارد بل شخصية خبرتْ الشّخصيّات وعرفت دواخلها وأفكارها وهواجسها لذلك نراه حمّالة سردٍ بــامتياز يحلّل ويروي، يعلّق ويعيش الحدث وكأنّه ذلك الّذي يلبس فردة الحذاء الأخرى وينتعل الكلمات والمعاني سبيلًا لرواية الأحداث، لا يمكن بأيّ حال أن يسير السّرد بفردة حذاءٍ واحدة. هذا الرّاوي الرّئيسي أنور يتقهقر أحيانًا وراء السّتار ليفسح المجال لأصوات أخرى تسرد وتعيش الحدث أبرزها صوت الشّخصيّة الرّئيسّة في الرّواية "مانويل قريقوري"،  فيتوزّع السّرد عبر رؤية من الخارج أحيانًا ورؤية مصاحبة أو عليمة في أغلب الأحيان، ولا يخطو الحياد خطوة واحدة في مسار السّرد بــاعتبار العلاقة المتينة بين الرّاوي حمّالة السّرد والبطل مشروعًا سرديًّا أو قطبًا للحدث. هذا البناء السّردي في علاقة بالرّاوي يتناغم مع ثنائيّة الحكاية والرّواية ولو بدرجات متفاوتة من الأهميّة والوقع، وهو ما يحيلنا على بناء الأحداث ومسار الحذاء.

صحيح، مهنتي كأستاذ الأدب العربي كانت حافزًّا إضافيًّا للكتابة الإبداعيةّ للمضيّ بعيدًا في مسار المشاريع الرّوائيّة، لكن أنا على وعي أنّ المهنة بشكل عام ليست شرطًّا من شروط النّجاح في الكتابة، فهناك تجارب كثيرة فيها تضادّ أو تناقض بين المهنة والكتابة ومع ذلك فهي تنجح وتتفوّق وتتميّز. بمعنى أنّ أستاذ الأدب العربي ليس شرطًّا مثلًا للنّجاح، وهذا ما أؤمن به. الكتابة الأدبيّة مسألة أخرى، فهي كثيرة التّعقيد والحساسيّة والدقّة.

حسين عبد البصير 



الروائي وعالم الآثار ومدير متحف الآثار بمكتبة الإسكندرية حسين عبد البصير (مصر): أحاول الجمع بين الأدب والآثار والتاريخ

تعد الكتابة الإبداعية نوعًا من المغامرة الأدبية الجميلة. والحمد لله فإنني كأثري وروائي ومتخصص في الآثار المصرية القديمة، وعلى الرغم من بُعد الآثار عن الأدب، أحاول الجمع بين الأدب والآثار والتاريخ من خلال الكتابة التي تجمع بين كل هذه المجالات المختلفة. وكان اختياري لهذه المهنة حافزًا آخر نحو الكتابة الإبداعية. وأصدرت روايتي الأولى "البحث عن خنوم" وهي رواية تاريخية تجعل القارئ تغوص به في رحلة شيقة عبر زمن سحيق في عمق الحضارة المصرية القديمة، والتي يقطع فيها طريقًا مثيرًا محفوفًا بالأحداث المشوقة والمفاجآت المذهلة في تركيبة فريدة جمعت بين الخيال الأسطوري والحقيقة التاريخية. وهي رحلة زمنية مثيرة لا تقبل من القارئ أن يكون متلقيًا عاديًا قانعًا بل تعتبره شريكًا متفاعلًا في الأحداث المتعددة المتداخلة في أحد العصور المتميزة في التاريخ المصري القديم، الذي توافرت فيه عناصر حضارية عديدة. وفي هذه الرواية، انطلقت من إرث ثقافي تليد عتيد تميز به الأدب المصري القديم لأصل به إلى ساحة الأدب المصري الحديث، كي تكون جسرًا يصل الفجوة العميقة بين الأدبين المصريين. وتعد هي أول رواية مصرية قديمة، وتعد تجربة جديدة للبعث الأدبي العتيق بعد أن كاد أن يندثر بعد المحاولات الرائدة للكاتب المصري الراحل نجيب محفوظ في النصف الأول من القرن العشرين. وقامت روايتي الثانية "الأحمر العجوز" على استلهام وإحياء التراث المصري القديم مستفيدة من تقنيات السرد الحديث والواقعية الشعرية الأسطورية، مفيدة من تقنيات السرد الحديث والواقعية الشعرية الأسطورية. والبناء السردي للرواية قائم على قصة متخيلة. وتتكون الرواية من مفتتح وثلاثة أقسام ومختتم، ويسمى القسم الأول: "دِشر ور"، وهي كلمة مصرية قديمة تعني "الأحمر العجوز"، وهي صفة لفرس النهر المعمّر "الأحمر العجوز" الذي تحمل الرواية اسمه. ويتعرف القارئ على "الفرس الأحمر العجوز"، سيد البحيرة والمتحكم في القرية وأهلها. كما يتعرف القارئ إلى الوجه الإنساني للأحمر العجوز ثم يتعرف على أهل القرية وأنشطتهم، والربة مورا السمراء الجميلة، ربة القرية. ويبدأ القسم الثاني من الرواية والمعنون "أونان"، بالبطل "أونان" وسيرته وتاريخه. ويبدأ القسم الثالث والأخير من الرواية والمسمى "أوشتاتا"، بفارسة النساء "أوشتاتا"، زوجة "أونان" وأم "نارام". وتقوم الرواية على التكثيف والإيجاز والتلميح لا التصريح ولغتها شعرية فائقة، والبناء الفني بسيط يدفع دائمًا الأحداث باطراد للأمام، والرواية غنية بالتفاصيل الدقيقة التي تضفي الكثير من الأبعاد على المناخ الأسطوري الذي تدور فيه أحداثها. وتناولت في روايتي الثالثة "إيبو العظيم" بعض الأحداث المتخيلة في مصر القديمة، وخصوصًا في فترة ما بعد عصر الدولة القديمة من خلال سرد قصص مجموعة شخصيات في تلك الفترة شديدة التوتر والاضطرابات، فيتعلم القارئ من الحكيم "إيبوور"، كبير الكتَّاب في القصر الملكي في العاصمة "مَنف"، المهموم بمراقبة أحوال العباد في البلاد. ويتعرف القارئ على زوجته الجميلة "سِشن" وابنه "بِتاح"، ويعجب بالجميلة "مِيريت"، شقيق قائد الجيش الملكي "نَخت"، ويقرأ قصص الكاتب "مِرو" العاشق الشيقة، ويدخل إلى أعماق وأقوال وأفعال الكاتب المهرطق "جِحوتي"، ويغوص في حياة وأسرار عشيقته المثيرة "حتحور"، وتأخذه فيلسوفة الحب الغانية الجميلة "تي" في رحلة إلى عالمها السري وبيوت الهوى التي تمتلكها في طول البلاد وعرضها، ويعرف الملك المسن اللاهي "مِيكو" وعالمه، ويراقب تصرفات زوجته الداهية الملكة "سِخمت"، ويضحك من أفعال ابنه وولي عهده الأمير الأبله "جمني"، ونراقب أفعال الوزير الشرير "سُوبك" ورجله الثعلب رئيس البلاد الملكي "عِبو"، ونعجب بالأعمال البطولية لنائب قائد الجيش "مِسحتي"، كما نقابل كبير كهنة الإله "بتاح" في "منف" "خِنتي" المشغول بالأوضاع في البلاد، ويعرف مغامرات مساعده الكاهن "إنتف"، ويسعد بوجود حاكم الجنوب "أميني". ويشاهد سوء الأحوال في البلاد ويسمع صرخات العباد. وتؤثر عواقب غياب العدالة وانتشار الفساد والظلم والفقر والقهر على الملك "ميكو" وعرشه. ويطالب الحكيم "إيبوور" بضرورة إقامة العدل في البلاد والعودة إلى التقاليد المصرية القديمة الراسخة.

عبد النور المزين 



الروائي والقاص والطبيب عبد النور مزين (المغرب):

مهنة الطبيب قريبة من مهمة الكاتب

بدأت بكتابة القصة والشعر قبل التخرج من الجامعة وبداية الاشتغال كطبيب. لذلك أعتبر بأن الكتابة كانت سباقة إلى الأخذ بتلابيبي قبل مهنة الطبيب لتعرف كيف تتجاور معها لاحقًا لتصبحا معًا رفقة طريق على دروب الحياة. كتابة القصة والرواية أصبحت مع مرور الزمن حاجة حياة حقيقية لا غنى عنها تمامًا كالماء والهواء والأنثى والرغيف. تمارس غوايتها باحترافية تامة فتخلق لها طقوسًا تندس في حياتي كشظايا حارقة ولذيذة عصية على الفراق.

مع مرور والوقت وتراكم التجارب المهنية التي هي بطبيعتها لصيقة بمعاناة الناس الناتجة عن مختلف العلل النفسية والجسدية، تصبح مهنة الطب في تلك المحاولة الدائمة للتخفيف من الألم وإعادة ذلك التوازن الذي اختل داخل الجسد، أقرب إلى مهمة الكاتب في تجسيد علل المجتمع وإعادة صياغتها فنيًا وسرديًا كنوع من الترياق الشخصي المحتمل لتلك العلل أو على الأقل منارات على طريق مارستان ما، لا بد أنه موجود في أفق ما. هكذا ومع تشابك وتقاطع تلك الأشكال المختلفة من المعاناة وبحكم تجاور المهنتين، أصبح لزامًا عليّ التعامل بشكل جدي مع تلك العدوى النشطة التي لا تعرف الحدود المعترف بها اجتماعيا بين الكتابة والمشرط، بين السرد والإنصات لأنين المرضى.

هكذا صارت المساحات السردية لا تخلو من فضاءات وأحداث يجد فيها المرض متسعًا للتمدد والعدوى تمامًا كما يتمدد في الأحياء الفقيرة وهوامش المدن الكبرى، وأعني تمامًا كما في الحياة. حدث ذلك في العديد من قصصي المنشورة ضمن مجموعة "قبلة اللُّوست" وكذلك في روايتي "رسائل زمن العاصفة" التي وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية سنة 2016.

الآن وقدر مرّ وقت كاف على تجاور المهنتين، أقصد الطب والكتابة السردية، أجدني أميل إلى نقل تلك العوالم الطبية إلى عوالم سردية لما فيها من عناصر الحياة المليئة بالبطولات والهزائم أيضًا تماما كالحياة. هكذا تمارس مهنة الطب أيضًا غواية ما لنقل تلك العوالم ضمن سرديات فنية إلى عوالم الكتابة والإبداع.

علي لفتة سعيد 



الأديب علي لفتة سعيد الذي عمل بائعًا متجولًا ثم صحافيًا (العراق):
الواقع يمنح المخيّلة طاقة تعبيرية

الجواب سينقسم إلى  قسمين.. الأول يوم كنت بائعًا جوّالًا في الطفولة بين المقاهي ومرائب السيارات، ثم في الحصار جوّالًا في الأحياء الصناعية لبيع الأدوات الاحتياطية، وكان الوقت يتطلب السفر إلى مدنٍ قريبة وبعيدة.. لكن الكتاب كان يرافقني، كانت السيارة ملاذ القراءة وقطع الطريق وتفهم وتفحّص النصوص التي أقرأها. كنت أتصيّد الوقت لكي أصيد به معلومة ومعرفة ووعي، كي لا تنزلق مني موهبة الكتابة التي بدأت منذ كان عمري 14 عامًا، يوم نشرت أول نصّ شعري في جريدة الراصد عام 1976.. كان الحال يشبه مجنونًا يبحث عن فسحةٍ في كومة غيومٍ محتشدةٍ، فتغطي الشمس والسماء، وكانت يدي تسابق عيني في الخروج من أزمة الوقت. النهار قراءة والليل كتابة بعد أن تحوّلت الهواية إلى إنتاجٍ سردي وشعري.. لم يكن أمامي إلا تخليق الوقت وصناعته. لا شيء يعتصر الألم غير الألم ذاته، ولا شيء يفوق الوقت غير صناعته، ولا شيء يعطل الصناعة غير ظلمة الروح التي نستسلم لها في لحظات الضعف.

أما القسم الثاني فكان بعد عام 2003، بعد الاحتلال الأميركي، حين تحوّل العمل من الميدان الخاص والجوّال بين السيارات العاطلة ومحال زيوت السيارات إلى الصحافة.. تلك المهنة التي جعلتني أقرب من أيّ وقت إلى الحرف والكتابة، وكأنها اللحظة التي كنت أبحث فيها عن فسحةٍ بين الغيوم.. ليس من أجل أن أرى السماء، بل لأطير مع الحروف. أحلق حيث أشاء من صناعة المخيلة، فجعلتني الصحافة قادرًا على مزاولة إنتاج الحرف، ومن ثم صناعة أخرى في كيفية الولوج إلى المخيلة التي تنطق بالواقع، أو الواقع الذي يمنح المخيّلة طاقة تعبيرية. كنت أمكث بين صناعة الخبر وصناعة النصّ الإبداعي، فكانت المهنة الأقرب لي من الضياع الذي كنت فيه، فالصحافة مثلما هي محرقة للأدب لمن لا يعرف كيف يستغل الوقت الذي يأتي بعدها، فهي مهنة الممارسة الأقرب إلى الأدب الذي كنت أتطلع لأبلغ مداه، خاصة وأني في القسم الأول أنتجت ثلاث مجموعات قصصية وروايتين.. لأن الاستسلام والوقوف على تلّ الحيرة التي صنعها الزواج والأولاد الخمسة في البحث عن لقمة العيش، لن يمكنني من أكون مواكبًا لنمو الحرف وتنميته، ومراقصًا له. وعلى الرغم من أن السنوات الأولى التي تلت تاريخ التغيير والاحتلال، كانت عبارة عن لهاثٍ بين الصحف والوكالات الصحافية، للبحث عن لقمة العيش وتوفيرها لبطون خمسة وزوجة، فإن القراءة لم تنته، وكان شراء الكتب أسهل من أيام الحصار. فما بين البائع الجوّال للأدوات الاحتياطية التي أطلق عليه ِأحد الشعراء صفة سندباد الأحياء الصناعية، وبين العمل في الصحافة، كانت الفارقة الزمنية التي صنعتُ منها أنهرَ الحرف، وحفرت من تعبها منبعا لأفكار، ليكون المصب حتى الآن 29 كتابًا.

إن المهنة لا تعني إيجاد الموهبة، لكن الموهبة تعني كيف تصنع من مهنتك مجالًا لكي لا تضيع منك المخيّلة والقدرة على صناعتها من خلال تطريز الحروف وخياطة الأفكار.. بمعنى إن المهنة لم تكن مجرّد حافزٍ للأدب، بل كانت حافزًا لكي أبقى في هذا الطريق، لأنها مهنة الرؤية إلى العالم الخارجي، سواء كنت جوّالًا أو صحافيًا.. فثمة أعمال أخرى عملتها ما بين الحالتين كانت أيضًا تخلق مني صانعًا للزمن، كي لا أتيه في المكان.

عيسي بن محمود 



القاص والفنان التشكيلي ورئيس مصلحة إدارية

عيسى بن محمود (الجزائر): علاقة الإبداع بالوظيفة نسبية التأثير

الكتابة الإبداعية عمومًا إعادة تأثيث للواقع سواء بنقده، أو تهشيم المشهد الموجود وإعادة بنائه، أو عدم إعادة بنائه، لذلك تبقى علاقة الإبداع بالوظيفة نسبية التأثير، أو بالأحرى تختلف من فن إلى فن، ومن وظيفة إلى أخرى. وفي حقل الوظيفة الإدارية بقدر ما تمر المشاهد في يوميات المبدع، وكل مشهد قد يفي قصة، وكل من يمرّ يمكنه أن يكون داخل المتن السردي بطلًا، أو بطلًا ثانويًا، بقدر ما يفقد المبدع زخم الكتابة لرتابة وروتين الوظيفة، واستعمال لغة إدارية جافة بعيدة عن المحمول الفني والجمالي، وقد يكون لهذا دوره في توقفي عن كتابة الشعر وممارسة الفن التشكيلي، وجمع الحزمة الإبداعية خالصة نحو القصة، التي تكون قد فضحت في بعض نصوصها هذه الوظيفة الإدارية سواء من حيث التأثيث والمشهدية، أو حتى على مستوى الاشتغال على اللغة. أما ما تعلق باختيار هذه المهنة فقد جاءت محض صدفة حيث كانت يومها الهيئة المستخدمة تعاني من نقص في التأطير فكانت هي من اتصلت، وكان القبول مؤقتًا في البدء، ليستمر لاحقًا بعمر مواطن يحاول أن يوفق بين زاوية نظره الفنية بما تتطلبه من حرية والوظيفة الممارسة بما تتطلبه من انضباط والتزام، ولن أخفي القارئ سرًّا أني خلال كتابة هذه الأسطر أجبت عن انشغالات أربعة مواطنين وثلاثة موظفين.

  

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.