}

مقولة "إذا أردنا فهي ليست خرافة" تُظلّل تهويد القدس

جورج كعدي جورج كعدي 17 يناير 2023
هنا/الآن مقولة "إذا أردنا فهي ليست خرافة" تُظلّل تهويد القدس
(القدس، Getty, 13/1/2023)



في البدء كانت الخرافة (لا الكلمة)، والخرافة صارت جسدًا (الكيان الصهيونيّ)، وأمست فعلًا أملته الإرادة المبنيّة بوعي تامّ على الخرافة الدينيّة التي دوّنتها مخيّلات بشريّة، تراكميّة، مَزيدَة ومنقّحة (التناقض فيها برهان قاطع) عبر القرون، من زمن بابل إلى مؤتمر بال ومشروع هرتسل الإحتلالي الإحلاليّ ورفاقه وأتباعه.

مناسبة هذا الكلام ما تنتظره القدس من استكمال تهويدها (مع الضفّة بالطبع) على نحو تامّ وناجز، على أيدي الصهاينة الفاشيّين الجدد المرحّب بهم لدى الفاشيّ العجوز بنيامين نتنياهو، وفي مقدّمهم اليوم إيتمار بن غفير، وزير "الأمن القومي الإسرائيلي"، فضلًا عن زعيم قائمة "الصهيونية الدينية" المستوطن الموتور بتسلئيل سموتريتش وزير "الشؤون المدنيّة في الضفة الغربية"، وهو منصب مستجدّ في وزارة الدفاع التي يتولاّها يوآف جالانت، مع سموتريتش (ظاهرة لم يعرفها العالمان القديم والحديث: وزيران لوزارة واحدة؟!). ومشروع هذه الحكومة الأول، بدفع مسعور من بِنْ غفير وسموتريتش، هو تهويد ما بقي غير مهوّد من القدس، والذي لا يتعدّى ربما العشرين في المئة من كامل سكان المدينة الفلسطينية التاريخية ومساحتها الإجماليّة، أي ما يسمّى بالاصطلاح المتهافت "القدس الشرقيّة"، فالقدس واحدة، هي القدس الفلسطينيّة العربيّة، بمسلميها ومسيحييّها ونفر قليل من اليهود الذين كانوا يعيشون فيها قبل الاحتلال والإحلال المشؤومين.

إنّ غدًا لناظره قريب، فأوّل الأفعال الإجراميّة التي ستُقْدم عليها حكومة الاحتلال الجديدة هو محاولة تهجير ما تبقّى من الأحياء العربية واقتلاعها وإعمال الجرّافات فيها هدمًا وتدميرًا، ومنها حيّ الشيخ جرّاح الذي يقاوم قاطنوه ببطولة حتى الساعة، وبلدة سلوان، وسفح جبل المكبر، وكرم الجاعوني، وحيّ البستان، وبطن الهوى، والعيسوية، ورأس العامود، والولجة، وسواها.

يهمّني دومًا الأصل والجوهر في أي مسألة. والجوهر لي، هنا، هو قول هرتسل "إذا أردنا فهي ليست خرافة"، فلو فكّكْنا مفردات هذا القول ودلالاته الساطعة ومعانيه، لتبدّى لنا أنّ ثيودور هرتسل، أبا المشروع اليهوديّ الصهيونيّ الاستعماريّ الاستيطانيّ الإحلاليّ العنصريّ، هو ملحد بامتياز، غير مؤمن بـ"الحكاية" الدينيّة الخرافيّة التي دوّنها بشر على مرّ العصور، ورغم يقينه هذا وإلحاده التامّ، فهو يعني ضمنًا وبوضوح: صحيح أنّ معتقدنا وديننا قائمان على الخرافة، لكن رغم ذلك فلنجعل الخرافة حقيقةً... بالإرادة. والمقصود بـ"الإرادة" هنا هو خلق وطن قوميّ لليهود، واستغلال إيمان الأفراد اليهود والجماعات اليهوديّة بالدين اليهوديّ بحسب ما ورد في التوراة والتلمود، لشدّ الأواصر والعصبيّات، كي تصير فلسطين ("يسرائيل" في التسمية اليهودية والصهيونيّة والمسيحية المتصهينة) قضيّتهم وكي يؤمنوا بها وبمبدأ العودة إليها واحتلالها واستعمارها وطرد سكّانها الأصليين، تبعًا لـ"الوعد الإلهي" (اليهوديّ) بمقولة "أرض الميعاد" المضحكة وما لفّ لفّها من خرافات وهرطقات وكلام مختلق عن لسان "إله" ما، قاتل ميّز شعبًا له دون سائر الشعوب! وصدّق إن كنتَ تستطيع أن تصدّق! إذًا، هذا اليهوديّ الصهيونيّ الملحد استغلّ سذاجة المؤمنين بالخرافة الدينيّة والبذرة العدوانيّة النامية في نفوسهم على مرّ العصور واضطهادهم من شعوب كثيرة لعلّة معروفة فيهم لا في تلك الشعوب (راجع مقالاتي عن فرويد ودوستويفسكي في هذا الموقع) لإثارة حماستهم لمشروعه الإجراميّ الذي دار جدال حوله وهل يكون في منطقة قطبيّة واسعة على حدود روسيا، أو في أوغندا، أو في الأرجنتين أو في قبرص... لينتهي "التصويت" في مؤتمر بال (1897) المؤسس للجريمة، على فلسطين، بكونها هي أرض "الوعد الإلهي" الخرافيّ، وهي الأرض التي عاشت فيها بضع قبائل منهم بين قبائل وشعوب كثيرة على أرض الكنعانيين، وبحجّة وجود "هيكل" قديم من أمتار قليلة طولًا وعرضًا وارتفاعًا يدعى "هيكل سليمان" الذي لم يبق منه حجر واحد أو فتات بحصة واحدة! والأركيولوجيّون الصهاينة يسعون يائسين إلى إثبات وجود آثار منه ويفشلون، وليس أبلغ من قول الدكتور شلومو ساند بأنّ اليهود لا يملكون حجرًا واحدًا، أو أثرًا من أي نوع، يدلّ على قيام "دولة" خاصة في تلك الحقبة التي يزعمون!

كتب هرتسل في يوميّاته عن الوسائل المتنوِّعة لانتزاع ملكيّة فقراء فلسطين ونقلهم


أعود دائمًا وأبدأ إلى العبث الكونيّ الذي جاءنا بهذا المحتلّ الغاصب الذي لا يملك حقًا تاريخيًا أو دينيًّا، أو كيانيًّا، أو قوميًّا، أو وطنيًّا على أرض فلسطين. هي فلسطين في ألوف الوقائع والمدوّنات والشواهد والأبحاث، التاريخية والدينية والأركيولوجيّة... ونقطة على السطر. بل ثمة دراسات عديدة جدًا لأكاديميين يهود متنوّرين انخرطوا لفترة من حياتهم في المشروع الصهيونيّ ثمّ تراجعوا ولفظوه جملةً وتفصيلًا، بل حتى أنّهم تعرّضوا للنبذ والمحاربة والاضطهاد ونُعتوا بـ"كارهي أنفسهم" فاليهوديّ "كاره نفسه" هو كلّ يهوديّ لا ينخرط بلا سؤال أو جدال في المشروع الصهيونيّ، حتى أنّهم تجرّأوا على العظيم فرويد ووصفوه بـ"كاره نفسه" إذ لم يقتنع بالمشروع الصهيونيّ وتنبّأ بزواله وانتهائه على أيدي المسلمين والمسيحيين الذين يملكون "الثقل التاريخيّ"، بحسب تعبيره، ولن يسكتوا على سلبهم أرضهم التاريخية ومقدّساتهم الإسلاميّة والمسيحية على السواء.

هي إذًا بالنسبة إلى هرتسل ليست مسألة حقّ بـ"شيء" أو "أرض" ما، بل مسألة إرادة. فلو أردنا أن نحوّل الباطل حقًا لفعلنا. المسألة مسألة إرادة فحسب. "تريد" تفعل. "تريد" تسطو وتغتصب وتستعمر أرضًا ليست لك وليست "بلا شعب" كما تزعم. معروفٌ عن هرتسل أنّه كان معجبًا بدول الاستعمار ومؤيّدًا للنماذج الاستعماريّة في أوروبا وفي الشرق، فهو من عشّاق بريطانيا، ومن عشّاق تركيا العثمانيّة، مستميتًا في خطب ودّ السلطان عبد الحميد الثاني ومقابلته ونيل موافقته على مشروع "إسرائيل"، لكنّ السلطان رفض طلبه (لقاء صفْقة اقترحها هرتسل بدفع الدَيْن التركي الخارجي ...).

علامَ ينطوي المشروع الصهيونيّ الإحلاليّ، استنادًا إلى هرتسل، وامتدادًا إلى عتاة الفكر الصهيونيّ من أمثال جابوتنسكي ووايزمان وبن غوريون، واللائحة تطول كثيرًا؟

نشأت الصهيونية في أحضان الاستعمار الغربي كظاهرة استيطانيّة إحلاليّة غير مختلفة جوهرًا عن أيّ حركة استعماريّة. ويمكن تعريف الاستعمار الاستيطانيّ بأنّه انتقال كتلة بشريّة من مكانها وزمانها إلى مكان وزمان آخرين، فتُقدْم الكتلة الوافدة المستعمرة على إبادة السكان الأصليين أو طردهم أو استبعادهم (تفعل إسرائيل الأمور الثلاثة معًا)، أو تعتمد خليطًا من ذلك كلّه (على ما حدث في أميركا الشمالية وفي فلسطين). وجوهر أيّ أسطورة ̸ خرافة استعماريّة استيطانيّة إحلاليّة هو إلغاء الزمان، أو تجميده، والانفصال عن المكان، فقد عرّف الأنتروبولوجيّ اليهوديّ الفرنسي كلود ليڨي ستروسّ الأسطورة بأنّها آلة لكبح جموح الزمن. ويأخذ هذا التوجّه منحى متطرّفًا في حالة الاستعمار الاستيطانيّ عامةً، إذ ينطلق من الإنكار الكامل للتاريخ على نحو متطرّف ويعلن نهايته. ويزداد الإنكار حدّةً وعنفًا في حالة المجتمعات الاستيطانيّة الإحلاليّة التي لا بدّ لها من تغييب السكان الأصليين على نحو تامّ. ويتضح هذا الجانب في أساس أسطورة ̸ خرافة الاستيطان الصهيونيّ الذي ينطلق من رفض تاريخ اليهود في المنفى، ومن ضمنه في العالم الغربيّ. ثم تطرح الصهيونية الحلّ النهائي: الاستيطان في صهيون بكونه نقطة البداية. ولا يتوقف الصهاينة عن اعتبار "دولتهم" واحة الديمقراطية الغربية في الشرق وقاعدة الحضارة الغربية فيه. ويتنكّر المستوطنون البيض لتاريخ السكان الأصليين في الأرض التي يستوطنون فيها، فهي بحسب زعمهم الباطل "أرض عذراء" بلا تاريخ وغير مأهولة بالبشر (أرض بلا شعب!)، على عكس الأرض التي يفدون منها والمكتظّة بالسكان.

يزعم الصهاينة، استنادًا إلى الأسطورة ̸ الخرافة التأسيسيّة أنّ فلسطين هي "يسرائيل" أو صهيون، وأنّ تاريخها (أي الزمان) توقّف تمامًا مع رحيل اليهود عنها! بل إنّ تاريخ اليهود أنفسهم توقّف هو أيضًا مع رحيلهم عنها ولا يُستأنف هذا التاريخ إلاّ بعودتهم إليها، وهو أقرب إلى "التاريخ المقدّس"! ولا تؤكد أسطورة ̸ خرافة الاستيطان الغربية نهاية التاريخ فحسب بل نهاية الجغرافيا (المكان) كذلك، فالأرض التي يستوطنها الإنسان الأبيض هي مجرّد أرض لا حدود واضحة لها، لذا هي تتّسع تبعًا لقوّة الإنسان الأبيض الذاتيّة، فكلما ازداد عدد المستوطنين واشتدّت قوتهم اتسعت الحدود (هذا يوضح تمامًا سبب عدم اعتماد إسرائيل حدودًا نهائية لها). من هنا نشأت فكرة "الرائد" والجبهة دائمة الاتساع، فالرائد هو مَنْ يرتاد أرضًا جديدة فلا يعرف حدودًا أو قيودًا أو سدودًا. وأسطورة ̸ خرافة الاستيطان الصهيونية قائمة بدءًا على التوسع، فـ"إيرتس يسرائيل" (أرض إسرائيل) بلا حدود واضحة إذ يحتوي "العهد القديم" على أكثر من خريطة، وأطلق المستوطنون الصهاينة على أنفسهم تسمية "حالوتسيم" أيّ "روّاد"! ولو حصل أنّ "الأرض العذراء" كانت مأهولة بالسكان فإنّ أسطورة الاستيطان الغربية تعمل على تهميشهم، فهم قليلو العدد، "متخلّفون" (وفق نظرتهم الاستعلائية العُظاميّة المريضة)، يفتقرون إلى الفنون والعلوم والمهارات المختلفة (وفق أي واقع يقرّرون ذلك، فيما يؤكد الواقع الحقيقي عكس ذلك تمامًا!)، يهملون الثروات الطبيعية الكامنة في الأرض (يشهد زيتون فلسطين وليمونها وزرعها الخصب على بطلان الادعاء الصهيوني). وهم عادة مجرّد رحّالة لا يستقرون في أرض ما (بالطبع، أكيد، وَلَوووووو... فمدن حيفا ويافا وعكا والقدس ونابلس والناصرة وبيت لحم، فضلًا عن أريحا أقدم مدينة حضريّة في التاريخ، وقرى الجليل وبلداته، إلخ... عاش فيها منذ آلاف السنين بشر رحّالة لا مدينيّون حضريّون!!!). هذا أوقح كذب ونفاق يمكن أن تتفتّق عنه مزاعم مجموعة بشريّة هي المترحّلة والقبليّة تاريخيًّا في سائر بقاع الأرض شرقًا وغربًا!!! عدا حقائق "الغيتو". بل يبلغ الفجور المنافق مبلغه الأقصى مع اعتبار هذا المستعمر المستوطن الإحلاليّ أن وجود هؤلاء الناس (أي الفلسطينيين في حالتنا) هو "وجود عرضيّ"! ومن الضروريّ وضع حلّ جذريّ ونهائيّ لمشكلته الديموغرافيّة، اي مشكلة وجود سكان أصليين في "الأرض العذراء" واجتثاث شأفتهم (قرحتهم الخشنة) منها على نحو ناجز وتامّ! فأسطورة ̸ خرافة الاستيطان الصهيونية تنظر إلى الوجود الفلسطيني في فلسطين على أنّه أمرٌ "عرضيّ هامشيّ"، والديباجات مليئة بالحديث عن فلسطين كأرض مهجورة مهملة، كما لو كان الفلسطينيون جزءًا من الطبيعة بلا تاريخ! وينتهي الأمر إلى تأكيد "حق اليهود المطلق في فلسطين" (عبر "قانون العودة") وينفون حقّ الفلسطينيين بأرضهم التاريخية (لذا كانت مخيّمات اللاجئين). ولوضع حلّ نهائيّ للمعضلة الديموغرافية اعتمدت مجازر الإبادة على طريقة دير ياسين وكفر قاسم وسواهما، مع اعتماد أسلوب الطرد والترحيل بالقوة والترهيب في أفضل الحالات. وبعد اتفاقيات أوسلو المشؤومة اتخذ "الحلّ النهائيّ" شكل عزل السكان الأصليين داخل مجموعة من المدن والقرى ومحاصرتهم بالقوات العسكرية والمستوطنات والطرقات الالتفافيّة.

كان طرد الشعب الفلسطيني من نطاق "الدولة الصهيونيّة" ضروريًّا كي تبقى يهودية خالصة! (Gettyimages)


يُطلق مصطلح "الاستعمار الاستيطانيّ الإحلاليّ" على الاستعمار الذي يتخلّص فيه العنصر السكّاني الوافد (الأبيض عادةً) من السكّان الأصليين، إمّا طردًا أو إبادةً حتى تفرغ الأرض منهم فيحلّ هذا المستعمر الوافد مكانهم. مثل هذا حصل في الولايات المتحدة وجنوب أفريقيا التي لا يختلف الوضع في فلسطين عنهما، فهدف الصهيونية إنشاء دولة وظيفيّة مقاتلة تستوعب اليهود الوافدين وتحمي المصالح الغربية. لذا كان طرد الشعب الفلسطيني من نطاق "الدولة الصهيونيّة" ضروريًّا كي تبقى يهودية خالصة. وأكد على هذا الأمر يوم صرّح بأنّ "الدولة الصهيونية" المحاطة بالعرب من كلّ جانب سوف تسعى دومًا إلى الاعتماد على "إمبراطورية قويّة غير عربية وغير إسلامية"، ولاذ مرّة أخرى بالخرافة الدينية واستغلّها مثل هرتسل بالقول إن هذه الإنعزالية الصهيونية هي "أساس إلهيّ لإقامة تحالف دائم بين إنكلترا وفلسطين اليهودية (اليهودية فقط)"، فأعضاء الجماعات الوظيفيّة يرون أنّ عزلتهم علامة من علامات "الاختيار الإلهي" ومن علامات تميّزهم عن سائر الآخرين. ومن أبرز مؤيّدي هذه الفكرة أيضًا وايزمان.

إنّ طرد الفلسطينيين من أراضيهم جزء عضويّ من الرؤية الاستيطانية الصهيونية، ولا تزال هذه السمة حتى اللحظة الراهنة السمة الأساسيّة لهذا الاستعمار الاستيطانيّ الإحلاليّ. إخلاء فلسطين من جميع سكّانها أو معظمهم (في أقلّ تقدير) هو من ثوابت الفكر الصهيونيّ. والعنصريّة الصهيونيّة ليست مسألةً عرضيّة، ولا قضيّة انحلال خلقي لدى مجموعة، بل هي خاصيّة بنيويّة، إذ ليتحقّق الحلم الصهيونيّ لا بدّ من أن يختفي السكان الأصليون. ولذلك فإنّ الصهاينة، بجميع توجّهاتهم، إن الدينيّة أو العلمانيّة أو السياسيّة، وبغضّ النظر عن القيم الأخلاقية – إن وُجدت – التي يدينون بها، يسهمون في البنية العنصريّة وينمّونها.

كان بن غوريون مدركًا تمامًا الفرق بين الاستعمار الإستيطاني والاستعمار الإحلاليّ. وقد أشار الفيلسوف التشيكي كارل كاوتسكي ̸  Kautskyفي أحد مؤلفاته المعروفة "هل يشكّل اليهود عرقًا؟" (1926) إلى السمة الأساسيّة للاستعمار الاستيطانيّ الصهيوني، متنبئًا بأن المستوطنين اليهود سيعانون كثيرًا في مرحلة النضال العربي من أجل الاستقلال، معتبرًا "أنّ الاستعمار اليهوديّ لفلسطين يدلّ على أنّهم ينوون البقاء فيها، ولن يستغلّوا السكّان الأصليين فحسب بل سيطردونهم نهائيًا". علمًا بأنّ التفسيرات الحرفيّة لـ"العهد القديم" تنشئ حالة ذهنيّة تسهّل فكرة نقل السكان بكونها أمرًا طبيعيًّا، فـ"الأوامر المقدّسة" (إحدى الخرافات الدينيّة وأفظع تجلّياتها) بتدمير الكنعانيين قد صدرت من "علٍ" ولا يمكن تفسيرها إلاّ على نحو حرفيّ. فمعظم ديباجات الاستعمار الاستيطانيّ الإحلاليّ مستمدّة من "العهد القديم". وكان هرتسل يدرك تمامًا الاعتراض الكاثوليكيّ على مشروعه، إلاّ أنّه كان يعتقد أنّ هذا الموقف ناجمٌ عن المنافسة المستعرة بين طائفتين عالميتين (اليهودية والكاثوليكية) تتنازعان القدس (بكونها قاعدة أرخميدس). كما أنّ أطروحة عالم الاجتماع الألمانيّ ماكس فيبر ̸ Weber حول علاقة الرأسمالة بالبروتستانتية قد تساعد في هذا المجال، شرط أن يأخذ الباحث في الاعتبار الأطروحات الخاصة بالحلوليّة والإحلاليّة والعلاقة بينهما.

كتب هرتسل في يوميّاته عن الوسائل المتنوِّعة لانتزاع ملكيّة فقراء فلسطين ونقلهم، وعن استخدام سكّانها الأصليين "في نقل الثعابين"(!) وما يشبه ذلك، وعن منحهم وظائف في دول أخرى يقيمون فيها بصورة موقّتة، إلخ. وحين كتب لجوزف تشامبرلين (وزير المستعمرات البريطاني) عن قبرص كموقع آخر ممكن للاستيطان الصهيوني لم يتردّد في أن يرسم له الخطوط العريضة لطريقة إخلاء الجزيرة من السكان: "سيُرحّل المسلمون، أمّا اليونانيّون فسيبيعون أرضهم مسرورين لقاء ثمن مرتفع ثم يهاجرون إمّا إلى اليونان أو إلى كريت". ما يعني أنّ المتحوّل هو اختيار مكان الاستيطان والثابت هو الفكرة الإحلاليّة في المشروع الصهيونيّ، أينما حلّ منفّذو المشروع. كما أكّد المفكر الصهيونيّ البريطاني إسرائيل زانجويل ̸ Zangwill في كتاباته الأولى على ضرورة طرد العرب وترحيلهم قائلًا: "يجب ألّا يُسمح للعرب بأن يحولوا دون تحقيق المشروع الصهيونيّ، لذا لا بدّ من إقناعهم بالهجرة الجماعية... أليست لهم بلاد العرب كلّها... ما من سبب خاص يحمل العرب على التشبّث بهذه الكيلومترات القليلة، فهم بدو رُحّل يطوون خيامهم وينسلّون في صمت وينتقلون من مكان إلى آخر". نظريّة عنصريّة بامتياز، واهمة بامتياز أيضًا.

لم يرَ وايزمان أيضًا بدًّا من نقل السكان الأصليين، ومثله أبو اليسار الصهيوني، اليهوديّ الروسيّ بير بوروخوف ̸  Ber Borochov (1881- 1917) الذي نقلت رفاته من روسيا لتدفن في فلسطين المحتلة، القائل: "إنّ نقل اليهود وتوطينهم في أرض خاصة بهم(!) لا يمكن أن يتمّ بلا نضال مرير وبلا قسوة وظلم وبلا معاناة البريء والمذنب على السواء (...) وإنّ تاريخ الاستيطان الصهيونيّ سيُكتب بالعرق والدموع والدم".

إنّه القليل القليل من الأقوال والشواهد التي تدلّ بوضوح على أنّ جوهر الصهيونيّة، فضلًا عن الاحتلال والاستعمار والاستيطان وارتكاب المجازر، قائمٌ على المشروع الإحلاليّ، أي طرد جميع السكّان الأصليين، أي الشعب الفلسطينيّ الكنعانيّ الأصيل، صاحب الأرض والحقّ التاريخيّ الذي يعود إلى ألوف السنين والذي كان فيه اليهود مجرّد قبائل وافدة وعابرة بين قبائل أخرى من مختلف الأديان والقوميّات، بل كانت مرحلة عبورهم التاريخيّ الموقّت قبل الشتات مليئة بالنزاعات الدمويّة بين قبائلهم. وها هم منذ نشوء مشروعهم الاستعماريّ الاستيطانيّ الإحلاليّ قبل نحو قرن من الزمن، وفي أسلوب "تسلّلي" متدرّج وخبيث، برعاية ودعم ووعد وتشجيع من دول عديدة على رأسها "شيخة" قوى الاستعمار بريطانيا، يدّعون "حقًا تاريخيًا" لا يملكونه في الأصل والجوهر والواقع تحت مظلّة العبث الكونيّ المضحك المبكي، خاصةً في ظلّ غياب قوّة دوليّة نافذة وفاعلة تمنع الاحتلال والتمييز العنصريّ وطرد سكّان وطن قائم يشهد التاريخ على تجذّرهم وأحقّيتهم المطلقة في الوجود والبقاء في أرضهم.

*ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.   

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.