}

عاصي الرحباني: صائغ ذهب الكلمة والأغنية

جورج كعدي جورج كعدي 7 مايو 2024

أستأذن غزة وفواجعها وآلامها التي ما بارحتني منذ اندلاع المأساة وما بارحتُها ولا استطعتُ كلامًا إلّا عنها، لكي أضيء استثنائيًا على مبدع من لبنان هَامَ بفلسطين شعرًا وكلامًا غنائيًّا وموسيقى، هو الخالد عاصي الرحباني، بين دفّتي كتاب الناقد والباحث والمسرحيّ وشاعر أغاني الالتزام عبيدو باشا، تحت عنوان "تعا ولا تجي – مائة عام على ولادة عاصي الرحباني" الذي صدر عام 2023 في منشورات "دار نلسن"، بيروت، في 554 صفحة قطعًا وسطًا ولوحة غلاف للفنان حسن جوني.

بدَفْقِ الأسلوب والمعاني ينسج عبيدو باشا دراسته – التحيّة للرائد الراحل واصفًا إيّاه منذ السطر الثاني بالسلسلة اللا نهائية، للقول بدءًا إنّه في صدد الكتابة عن رجل لا حدّ لتنوّعه وعطائه وإبداعه، وليُسبغ عليه، بلا انتهاء أيضًا، الصفات والنعوت التي يستحقّها "صائغ ذهب" الأغنية اللبنانية والعربية، الثابت في الأسماع والأفئدة، وفي صوت فيروز السماوي. من صورة عاصي، ومن عبقريته، يرخي باشا العنان للصور والاستعارات الملائمة لعوالم الحلم والشجن والحزن والفرح والوطن التي شكّلت الكون الرحبانيّ ومفردات موسيقاه وقصائده المغنّاة ونصّه المسرحيّ. حياةٌ ثرّةٌ، مملوءة اللحظات، حتى لحظة الموت الذي لا يُميت عاصي وأمثاله لأنّ "عاصي لا يموت ولو مات لم يذهب" يقول الكاتب بتعبيره غير التقليديّ الذي يسم الكتاب من السطر الأول إلى الأخير، بفرادة ورهافة لا يجاريهما إلّا من يسعى إليهما، علمًا أنّ الكتاب مفعم بالحبّ والافتتان بشخصية عاصي وبالتماهي مع قيمة إبداعه والانتماء الوجدانيّ إلى عالمه.

لا يدع عبيدو باشا تفصيلًا أو ملمحًا أو جانبًا في حياة عاصي الرحباني وفنّه من دون أن يتوقف عنده ويحيط بأهميته من كلّ صوب، بل يحاصره بالمعرفة والتقدير والوجدان وجذالة الأسلوب. واضحٌ أنّ مرسل هذه التحيّة الفيّاضة بالحب والمعاني وتصويب النظر كان طوال حياته شاخصًا إلى هذا المثال، مفتتنًا بسحر عبقريته. لم أقرأ يومًا رسالة إعجاب وحبّ بهذا السيل الممتدّ من التوصيفات التي يستحيل عدّها أو حصرها. المعاني الثقافية مباشرة ومواربة بالسويّة عينها، جليّة ومستترة، علنيّة ومضمرة، تتدفّق مثل نهر يهدر بدفع ذاتيّ ولا يتوقف قبل أن يستريح في سهل أو يبلغ مصبّه النهائي، وبالدورة عينها على امتداد أحد عشر فصلًا منحها الكاتب عناوينه الفريدة: فصلٌ لا مقدمة، "أكتينغ"، لغة، الدهني، إيكوس، الخاتم والبحيرة، القفلة الحرّاقة، الخلاف، عالم آخر، لكن، إذا احمرّ الفجر. عناوين تمرّ على مختلف اللحظات، أعظمها فرحًا وأشدّها إيلامًا (خلافات عاصي وفيروز المتكررة ثم التلاقي مجدّدًا)، أكثرها مجدًا (الوقوف الأول على خشبة الأولمبيا) وأعمقها حزنًا (العطب الدماغي الذي أصاب عاصي ونجا منه إنّما ليس مثلما كان في الوعي التام).

يأسف الكاتب في أحد سياقاته لبقاء عاصي خارج المناهج المدرسية فلا يطّلع الأولاد والفتيان والفتيات على لذة لم يمتلكها سوى من جلس على الأرض غير باحث عن عرش "إنّما لا خشية من أن يُفقد في شوارع الذكرى والذاكرة" ذاك الذي احتلّ العالم بذكاء منجزه "ملكًا على مملكة لا يراها أحد بالعين وحدها". لا بأس، بالنسبة إلى الكاتب "نجا عاصي ومنصور وفيروز من الكلام الدمل (القيحيّ) على الصفحات المدرسية" إذ لا يصل أحد إلى نوافذ أرواحهم المفتوحة على العالم. حياة هذا الثلاثيّ تحتاج صبرًا، لا قفزًا مسرعًا في بحرها، ولا اندفاعًا وراءها، بل إعادة اكتشاف التفاصيل ثم وضعها في التذكّر. ولا تغيب صورة عاصي الجدليّ، بل قل المجادل عاشق الميتافيزيقا ومناقشة وجود الله: "غامض نظام الحياة عنده. الوَرَع ليس كل شيء، النقاء ليس كل شيء". أمّا الدراما فلا يؤلّفها عاصي بل "تنساب عبر أذنيه إلى نفسه المرهقة أو الناسية تعبها وألمها. يؤلّف بعيدًا عن التعطير. ما يريد قوله يقوله، على أرضه من أجل المجتمع والعائلة وهو على عتبة زمانه، مزاجه، قناعاته". في الجدال حول الوجود يعرف عاصي أنّ الطريق سيبقى غامضًا ولن يتكشف إلّا مع بداية الرحلة. مسرحية "لولو" مثال حين تؤخذ الشخصية (فيروز)، حاملة هذا الإسم، بفكرة الانتقام ممن دفعوها إلى السجن. ففي هذه التراجيديا المغنّاة تُطرح الفكرة أمام الجمهور بنحوها الجدليّ. نَحْلُ عاصي لا يهدأ وهو يقطف الورد "لكي لا تموت الملكة". جدل عاصي فطريّ، بسيط، لكنه حقيقي كنظرة الشجرة إلى الثمرة أو الثمرة إلى الشجرة. كلام يذكّر بالفطرة (الفطريّ جدليّ بالفطرة والجدليّ فطريّ بالجدل). هكذا أخرج عاصي أعماله من دوامات التعليم إلى المحاكاة كمادة أساس لحبكة مسرحه وشخوصه.

لا يدع عبيدو باشا تفصيلًا أو ملمحًا أو جانبًا في حياة عاصي الرحباني وفنّه من دون أن يتوقف عنده


يقف ناسج هذه التحية الغنية منبهرًا أمام عاصي الممثل في "سفر برلك" و"بنت الحارس" حيث الأداء العالي الذي لا تخفت ملامحه ولا ينتهي "أداء يسبقه الصدق إلى العينين والكتفين. لعبٌ داخليّ من طراز رفيع. ربطة زهريّة على لحظات الوجود". يمتدّ افتتان الكاتب بعاصي على شاشة السينما لصفحات وصفحات. ويلفتنا صاحب التحية إلى عاصي "الهمجيّ في عيون الإكليروس" مثل جبران خليل جبران، في حين أنّه باحث دائم عن الله، لصيق بأرثوذكسيته التي لطالما استقى من موسيقاها البيزنطية.

بعد شرحٍ وافٍ لـ"اللغة البيضاء" في المسرح الرحبانيّ، نطلّ على مسألة القرية والريف، فالأخوان عاصي ومنصور تمنّيا لو بقيا في الريف إثر انتقالهما إلى المدينة. "الريف في رأسيهما لا حول الرأسين" يقول الكاتب. الأفلام الرحبانية الثلاثة مولعة بالريف. إنّه جرم في حياة الأخوين، خيارهما العاطفي. تبع الأخوان تقاليد الطبيعة الريفية، ربيّاها ولاعباها في المدينة حتى اعتادها أبناؤها. تلك الحال "الفصامية"، بحسب باشا، "لا علاقة لها بالحال الفصامية لوزير الدفاع في دولة الاحتلال أرييل شارون، مَنْ بدا (في اجتياح عام 1982 للبنان) كخادم عجوز وهو يقف على أبواب منزل عاصي في إنطلياس (إحدى ضواحي مدينة بيروت) لكي يخاطبه بطريقة مباشرة مؤكدًا أنّ أغنية القدس أضحت ذابلة بعد احتلال بيروت وطرد الفلسطينيين من لبنان. شكّل شارون كلامه بطريقة أرادها حاسمة. ولكنّه خسر أمام عاصي مرتين، مرة أولى لأنّ {يا قدس يا مدينة السلام} اختبأت في رأسه بصوتها العالي كأثر فني̸ ثقافي̸ سياسي̸ فكري، ثم حين أراد الانتصار على مَنْ غاب منذ أعوام وهو على رأس قوة عسكرية مدمرة. الأغنية في مواجهة الآلة العسكرية. لا تزال الأغنية مزهرة أمام هذا الجبانْ مَنْ أراد أن يصارعها بعد أن صرعته".

يرسم عبيدو باشا أجزاءً متفرّقة من بورتريه عاصي الرحباني الخاص والحميم، كما حين يقول: "ما أخفق عاصي في شيء، سوى في حياته. حيث كلما تقدم العمر ما عاد بمستطاعه أن يكون ما يكونه كزوج وأب. ما أخفق، لأنّ المنطق شمسه العالية، لعبه، عذابه... ولأنه كذلك أُرهق كما يُرهق مثال من كثرة الاستعمال. إنّه مثل الملك لير، أهدى مملكته بعد أن ترك رائحة المكان في أنفه. لا أحد يهدي مملكته، ولكنّه أهداها. حين فعل طاف في عقله محاولًا التخلّص من ظلاله القديمة. حين يؤلّف لا يقيس. حين يلحن لا يقيس. مؤلفاته موعد غراميّ، جلوس أمام الصباح، جلوس خلف الصباح. يؤمن بالفأل السيّئ والفأل الطيّب. لا يضحك حين تسقط الفكاهة على أوراقه. يحزن إذا سقطت الدراما على أوراقه. مؤلّف صفوة. كأنّ الإبداع ماله. الإبداع رحلة، تدفعه وتدافع عنه، توسّع روحه وعالمه، تحميه وهو يجني ما يجنيه في هذه الرحلات. حين يؤلّف يقوم برفقة نفسه يلغي العالم. ولا يقوم من الكتابة، إلّا بعد أن يُدخلها بدلة العرس". جميلٌ هذا الوصف، منقّب في روح عاصي بفطنة وغوص عميق.

لصوت فيروز حضور المقدّس في حياة عاصي "لأنّه يجد ابتسامه فيه. ولأنّه اكتشف أمره. اكتشف أن لا مثيل له ولو ظلّ يضرب في أطناب الأرض شهورًا وأعوامًا. لأنّ المطلق في صوتها. لأنّ صوتها هو المطلق. بصوتها بهجة عاصي ومداه". وفي عمل عاصي وفيروز معًا مشقّة وصعوبة: "لم تصل فيروز إلى صوتها كسيدة فلورنسية تستضيف الناس في بيتها الريفي ثم تتفرّغ للتنزّه في دغل لطيف بعد الغداء، لتأتي مجموعة ترفيه في فترة بعد الظهر للتسرية عنها. بروڨات عاصي وفيروز جملة دغلية جرى المرور فيها بكل الطرق. الأغنية خيوط من التواصل، المحطات، المفاصل. عالم من السحر حيث تجتمع اللغات وتغتني". صوت لا يخون، لا في الأغاني ولا في الموشحات ولا في التراتيل. ورغم "شراسة" عاصي و"عناد" فيروز ومشاداتهما المستمرة، ثم التمامهما مجدّدًا كل مرة، فإنّ الأسطورة تكوّنت من كليهما، ودخل عاصي نومه الأخير وهو لا يزال في غرامه الباهر لفيروز التي لا ترى أنّ رَجُلَها مات "فهو لا يزال ينهض ليمرّر عينيه من وراء الستار ليرى، ليسمع. فيروز تفيض غناءً وتعرف أنّ أجزاءً من فيضها هو من فيض رَجُلِها"، مَنْ اختفت ضحكته ولكنه لم يختفِ.

علاقة عاصي بابنه زياد، وتكاملهما أو افتراقهما موسيقيًا، تحتلّ صفحات طويلة من هذه الدراسة – التحية، والكثير الكثير من التفاصيل المهمة في حياة عاصي الرحباني وفكره وفنّه، ومواقفه من السياسة والأيديولوجيا، يمينًا ويسارًا، فضلًا عن طقوس حياته (المقهى أساس فيها) وما كان يحبّ ولا يحبّ، وعن مزايا فيه ومثالب، وعن عمقٍ وروحِ دعابة وهواجس ما ورائية دائمة الحضور في حياته، حتى في المقهى وبين الأصدقاء، إلى ما هنالك من خفايا يعرفها الكاتب بحكم قربه من البيت الرحبانيّ. يوقظ عبيدو باشا عاصي الرحباني من "وادي النوم" ليُسمعه رسالة حبّ وتقدير، وليؤكد له أنّه حيّ دائمًا في قلوب أجيال من محبّيه. والكتاب لائق بمئوية ولادة عاصي الرحباني، لكنّه معدّ لزمن آتٍ كي تُدرَك فرادة أسلوبه وبلاغة معانيه.

٭ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.  

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.