}

"الطريق إلى عين حارود" وتحوّل إسرائيل إلى دولة استبداد

فخري صالح 26 يناير 2023
هنا/الآن "الطريق إلى عين حارود" وتحوّل إسرائيل إلى دولة استبداد
عاموس كينان


من يراقب التحولات السياسية والأيديولوجية، وحتى الديموغرافية، التي تحدث في الدولة العبرية، خلال العقود الثلاثة الأخيرة على الأقل، سيلاحظ منحنى صعود اليمين، وصولًا إلى اليمين الديني القومي المتطرف، الذي أوصل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، اللذين يعتنقان أفكار مئير كهانا المتطرفة الداعية إلى طرد الفلسطينيين، جميع الفلسطينيين، من أرض فلسطين التاريخية، إلى تسلم حقائب وزارية مهمة في الحكومة الإسرائيلية الأخيرة. ونحن نشهد الآن، وبعد عودة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، على رأس حكومة يمينية متطرفة متشددة، تضم إلى جانب بن غفير وسموتريتش، أرييه درعي (عن حزب شاس الديني)، تحولًا جذريًّا في بنية الدولة الصهيونية، وذوبانًا لليسار، وعداءً متناميًا للأفكار العلمانية، وسعيًا متواصلًا لبناء دولة استبدادية، لا تختلف كثيرًا عن الدول التي ادعت "إسرائيل"، منذ قيامها، بمعاداتها لها، وأنها تمثل واحة الديمقراطية في محيط الدكتاتوريات الحاكمة في المنطقة. ولا شك في أن هذا التحول في كيان الدولة العبرية، والانشقاقات السياسية والاجتماعية، ونمو النزعات المتطرفة الحادة، يثير في قطاعات اليسار الإسرائيلي، ودعاة الدولة العلمانية، وكذلك بين الفلسطينيين، داخل الخط الأخضر، وخارجه، خوفًا مما يمكن أن تلجأ إليه النخبة الحالية الحاكمة، فتبتدع قوانين وتتخذ قرارات لا ضد الفلسطينيين فقط، بل ضد اليهود العلمانيين الذين يعارضون تحوّل الدولة العبرية إلى واحدة من الدكتاتوريات الصاعدة هذه الأيام. وانطلاقًا من هذه التخوفات نشهد منذ عدة أسابيع تظاهرات حاشدة في تل أبيب والقدس وحيفا تدعو إلى إسقاط حكومة نتنياهو، والتمرّد والعصيان المدني.

استنادًا إلى هذه الخلفية تبدو استعادة دار "العائدون" للنشر في عمان لرواية الكاتب الإسرائيلي عاموس كينان (1927- 2009) "الطريق إلى عين حارود" (1984)، في طبعة ثانية بعد أكثر من ثلاثة عقود من الزمن، نوعًا من التذكير بالنبوءة التي أطلقها كينان قبل ما يقارب أربعة عقود بخصوص إسرائيل استبدادية، معادية للديمقراطية، لكل من يعترض على تطرفها القومي الديني من اليهود. ففي هذه الدولة الجديدة المنتظرة، فإن "اليهودون" (تعبير تحقيري لليهودي في مقابل "عربوش" الذي يطلق على العربي أو الفلسطيني) الميت هو "اليهودون" الجيد، كما هو "العربوش" الميت. ففي "الطريق إلى عين حارود"، التي تدشن بقوة تيار "الرواية الديستوبية" الإسرائيلية، كما يرى مترجم الرواية الكاتب الفلسطيني أنطوان شلحت، يتنبأ عاموس كينان بمستقبل الدولة العبرية، التي ادعت أنها بنيت على حلم طوباوي استمدته من فكر الآباء الصهيونيين الأوائل، مفترضة خلو فلسطين من السكان، وانتظار الأرض لأبنائها العائدين بعد ألفين وخمسمائة عام من النفي القسريّ!

لقد انتسب عاموس كينان إلى تيار الصهيونية العريض، الذي يضم قطاعات واسعة من اليمين واليسار والوسط الصهيوني، فهو يؤمن بالحلم اليهودي وبأرض الميعاد، حتى في أطروحات روايته التي تدعي العثور على مخزن أثري، في أثناء هروب البطل، يدل على حق اليهود التاريخي في فلسطين. ومن هنا، فإن نبوءته، وتصوره القياميَّ لمستقبل الدولة العبرية، نابع من التصورات الصهيونية الطوباوية نفسها، التي ادعت إسرائيل أنها قامت من أجلها.  إن كينان يساريٌّ منشق كان عضوًا في شبابه في الجماعة الكنعانية، التي دعت إلى عدم الدخول في صراع مع الفلسطينيين، كما كان شريكًا للكاتب الإسرائيلي المنشق الآخر أوري أفنيري (1923- 2018) في جماعة دعت في وقت مبكر (1957) إلى قيام دولة فلسطينية تقيم مع إسرائيل علاقة فيدرالية. وفي مسيرته المتعرجة، وحياته العملية والأدبية والفنية المضطربة، إذ كان رسامًا ونحاتًا وممثلًا وكاتبًا مسرحيًّا وكاتب مقالة ساخرة وروائيًّا، انتقل عاموس كينان من معسكر اليمين إلى اليسار، إلى اليسار الفوضوي، فاليمين، وصولًا إلى تأليف حزب مع أرييل شارون في نهاية سبعينيَّات القرن الماضي. وقد اعترف أنه شارك في مذبحة دير ياسين، لكنه يقول إنه لم يعرف ما حدث بالضبط، وإن المذبحة لم يكن مخططًا لها! كما أنه كان ضمن القوات الصهيونية التي شاركت في مذبحة قرية الدوايمة الفلسطينية. ومع ذلك فقد جعلته هذه التجربة الحياتية الغريبة، التي دفعته إلى ترك إسرائيل في نهاية خمسينيات القرن الماضي ليعيش في باريس بعد أن برأته المحكمة من محاولة قتل وزير ينتمي إلى اليمين الإسرائيلي، دعا إلى تعطيل المواصلات العامة يوم السبت، إلى كتابة أعمال مسرحية وروائية تحاول التنبؤ بمستقبل الدولة العبرية.

كان عاموس كينان شريكًا للكاتب الإسرائيلي المنشق الآخر أوري أفنيري (1923- 2018) في جماعة دعت في وقت مبكر (1957) إلى قيام دولة فلسطينية تقيم مع إسرائيل علاقة فيدرالية!


في روايته "الطريق إلى عين حارود"، التي ترجمها عن العبرية كما ذكرنا أعلاه أنطوان شلحت وقدم لها الشاعر الفلسطيني الراحل سميح القاسم (1939- 2014)، ونشرت لأول مرة في عدد مجلة الكرمل (13، 1984)، يصور كينان رحلة شخصياته في طريقها إلى نقطة النهاية بعد حدوث انقلاب عسكري يغيّر من مصائر العرب واليهود، ويدفع الإسرائيليين المعارضين للانقلاب إلى النجاة بأنفسهم من قبضة الدكتاتورية الوليدة. إنها رواية تتفق مع أسلوب عاموس كينان الهجائي وتيار أدب العبث الذي اعتنقه منذ كتب أعماله المسرحية الأولى، كما أنها تسعى لاختزال حبكتها في الرحلة التي تقوم بها شخصياتها ناجية من عمليات التصفية الجسدية التي لا ترحم. الشخصيات العربية في الرواية خفيضة الصوت، لكنها لا تختلف في مصيرها عن الشخصيات اليهودية التي تعترض على التحول الدراماتيكي من النظام الديمقراطي إلى دكتاتورية عسكرية تشبه دكتاتوريات أميركا اللاتينية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. لا شيء في الرواية يوحي بالأمل، والشخصيات القليلة الناجية بجلدها تسعى إلى عين حارود (هل هي عين جالوت؟) في طريقها نحو الشمال.

تبدو الرواية في هذا السياق وكأنها تذكِّر بمعركة عين جالوت التي دارت رحاها عام 1260 م في منطقة بالاسم نفسه تقع في السهل الواصل بين جنين وبيسان والناصرة وانتصر فيها المماليك على المغول واضعين حدًّا لاحتلال أحفاد جنكيز خان لبلاد الشام. قد لا تكون هذه الإشارات التاريخية في ذهن عاموس كينان عندما كتب روايته، وربما نشطح في التأويل عندما نقوم بتحريف عنوان هذه الرواية الشديدة الأهمية في الأدب الإسرائيلي الذي أهمل عملًا ديستوبيًّا من هذا النوع، لأسباب تتصل بتبعية المجال الثقافي الإسرائيلي للدولة. لكن الجدير بالتأمل هو القراءة المستقبلية لتحولات الكيان العبري على أرض فلسطين، ولربما للمآل الأخير لدولة تعد الدين قومية، وتقوم، رغم دعاوى الديمقراطية، على التمييز العنصري، وتطبق على مواطنيها قوانين مزدوجة، فتعامل اليهود بغير ما تعامل به العرب الفلسطينيين.

إن عاموس كينان يقرأ في "الطريق إلى عين حارود" مستقبل الدولة العبرية في ضوء التحولات السياسية الجارية، وصعود اليمين المستمر، وعجز اليسار الإسرائيلي ونفاقه، وازدياد سلطة الحاخامات، وبعد أن أصبح المستوطنون قابضين على صندوق الانتخابات يلجأ إليهم اليمين الإسرائيلي المتطرف للوصول إلى السلطة. ويبدو أن الأحداث الأولى من هذا الحلم الكابوسي الذي حلمه كينان في رواية قد بدأت في التحقق. ألسنا قريبين، بل على مرمى حجر، من دكتاتورية دولة إسرائيل المرعبة؟

بذلك تنبأ كاتب إسرائيلي شهدت حياته مسارًا متعرجًا يعكس حيرة المثقف اليساري الإسرائيلي (!) العاجز عن رفع صوته عاليًا في وجه الظلم التاريخي الذي مارسه بنو جلدته في حق الشعب الفلسطيني.  

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.