}

حاشية على الترجمة والأدب المكتوب بالإسبانية وصالح علماني

فخري صالح 7 أبريل 2023
آراء حاشية على الترجمة والأدب المكتوب بالإسبانية وصالح علماني
نقل صالح علماني أدب أميركا اللاتينيّة إلى العربية

لا شكَّ في أن ترجمة عمل أدبي بعينه، أو أعمال كاتب من الكتاب، بعضها، أو كلها، إلى لغات أخرى، تعكس في المقام الأول حاجات قراء تلك اللغات، والثقافات، وتفضيلاتهم، ورغبتهم في التعرف على عمل أدبي محدد، أو عوالم كاتب معين. ثمَّة بالطبع عوامل أخرى تلعب دورًا أساسيًّا في الترجمة، من بينها الأهمية الأدبية، والشهرة التي يتمتع بها كاتب ما، أو عمل أدبي في عينه، وكذلك اهتمام بعض الدول والمؤسسات بترجمة أعمال كتابها إلى لغات أخرى، فتعمل على دعم ترجمات كتابها إلى لغات أخرى. ولكن الترجمة قد تكون أيضًا مدفوعة بأسباب بحثية، سوسيولوجية، وأنثروبولوجية، أو أيديولوجية، أو جيوسياسية، للتعرف على طرق التفكير، والتصورات التي تحملها جماعات إثنية، أو عرقية، أو قومية، أو دينية، كما يحدث في حالات اندلاع التوترات السياسية، وانفجار النزاعات، وقيام الحروب، فيرغب الناس في التعرف على آداب الأمم والشعوب المتقاتلة، لفهم أسباب تلك النزاعات. ويمكن أن نردَّ، مثلًا، ازدياد ترجمة الأدب العربي إلى لغات الغرب، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول عام 2001، وأحداث الربيع العربي (2011)، والحرب الأهلية السورية، إلى الرغبة في التعرف على هذه المنطقة من العالم، المهمة استراتيجيًّا بالنسبة لأوروبا وأميركا. والشيء نفسه يصدق على تسارع ترجمة الأدب الأوكراني إلى كثير من لغات العالم في السنوات الأخيرة، للتعرف على ما يدور في الحرب الروسية ـ الأوكرانية ـ الغربية، والغوص في الخلفيات السياسية والثقافية، والجيواستراتيجية والأيديولوجية والقومية التي تقيم في أساسات هذه الحرب. فالأدب يكشف عن الأعماق، ويعطي صورة، أو صورًا، للمجتمعات أكثر عمقًا، وغورًا، وكشفًا عن جوهر المشكلات، في العادة، مما يقدمه الإعلام، وربما الأبحاث والدراسات. إنه يسعى إلى تصوير مشاعر الأفراد، وعواطفهم، وطرق تفكير الجماعات، وعاداتها، وأتواقها، وآمالها، وتخوفاتها، في الوقت نفسه.





لكن بعض الأعمال الأدبية، أو منجز بعض الكتاب، يتخطى كل هذه الشروط، وسياقات الترجمة، ويجذب القراء، ودور النشر، والمترجمين، ليصبح من الكلاسيكيات العالمية التي تحظى باهتمام كبير على مستوى الترجمة، حتى إن بعض هذه الأعمال يتمُّ نقله إلى لغة معينة أكثر من مرة، وعلى أيدي مترجمين من أزمنة مختلفة، أو في الحقبة الزمنية نفسها، كما هي مثلًا حال أعمال الكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز (1927ـ 2014)، التي نقلها إلى العربية أكثر من مترجم. ويمكن، أيضًا، أن نضرب مثلًا على ذلك رواية "دون كيخوته" للكاتب الإسباني ميغيل دي سيرفانتيس (1547ـ 1616)، التي يقول معهد سيرفانتيس، في دراسة إحصائية قام بها أخيرًا، إنها الأكثر ترجمة إلى لغات العالم خلال العقود الثمانية الماضية. أما غابرييل غارسيا ماركيز فهو الكاتب الإسباني اللغة الأكثر ترجمة إلى لغات العالم خلال القرن الأخير. وقد عمد معهد سيرفانتيس، الذي يسعى إلى تعزيز مكانة اللغة والثقافة الإسبانيين، حول العالم، ورسم خريطة ترجمة الآداب الإسبانية، إلى رصد ترجمات أعمال كتاب إسبانيا وأميركا اللاتينية في عشر لغات: العربية، والصينية، والإنكليزية، والفرنسية، والألمانية، والإيطالية، واليابانية، والبرتغالية، والروسية، والسويدية. وقد حاز كتاب أميركا اللاتينية قصب السبق، وخصوصًا ما يسمى جيل "البوم" el boom، أو ثورة الأدب الأميركي اللاتيني منذ نهايات خمسينيات القرن الماضي، وهي المرحلة التي رصدتها القراءة الكشفية لترجمات الأدب الإسباني إلى اللغات العشر المذكورة، من عام 1950، وحتى الآن. وإلى جوار صاحب "مئة عام من العزلة"، هنالك التشيلية إيزابيل ألليندي، والأرجنتيني خورخي لويس بورخيس (1889 ـ 1986)، والبيروفي ماريو فارغاس يوسا، والتشيلي بابلو نيرودا (1904 ـ 1973)، والمكسيكي كارلوس فوينتيس (1928 ـ 2012)؛ وكذلك الشاعر الإسباني فيديريكو غارسيا لوركا (1898 ـ 1936).
من الواضح أن جاذبية أعمال كتاب أميركا اللاتينية، وما يسمى كتاب "البوم"، من جيل ستينيات القرن الماضي، تنبع من العالم الغريب، والمدهش، والطازج، والنابض بالحيوية، والمفعم بالواقعية السحرية (التي طبعت أعمال العديد من كتاب أميركا اللاتينية، وانتشرت كالنار في الهشيم إلى آداب العالم وثقافاته ولغاته المختلفة)، الذي تقدمه أعمال هؤلاء الكتاب، لقراء متعطشين للاطلاع على آداب جديدة مختلفة، ذات عمق إنساني، تتوافر عليه، من دون أي شك، أعمال غابرييل ماركيز، وماريو فارغاس يوسا، وكارلوس فوينتيس، وخوليو كورتاثار، وبابلو نيرودا، وقبلهم سيرفانتيس، ورائعته "دون كيخوته".




يعود الفضل الكبير في نقل أعمال كتاب أميركا اللاتينية إلى العربية، بصورة أساسية، إلى المترجم الفلسطيني الراحل صالح علماني (1949 ـ 2019). هنالك، بلا أي شك، مترجمون عرب آخرون ساهموا في ترجمة بعض تلك الأعمال إلى العربية، مثل سامي الجندي، وإنعام الجندي، اللذين ترجما عن الفرنسية "مئة عام من العزلة" لماركيز، ومحمد علي اليوسفي الذي ترجم "الحب في زمن الكوليرا" لماركيز أيضًا، وطلعت شاهين، الذي ترجم له عددًا من الأعمال: "حكاية إيرنديرا البريئة"، و"أنت تعيش لتحكي"، و"ذكريات عن عاهراتي الحزينات"، والمترجم السوري الراحل رفعت عطفة (1947 ـ 2023)، الذي ترجم معظم أعمال إيزابيل ألليندي، كما ترجم "ذكرى عاهراتي الحزينات" لماركيز. وثمَّة مترجمون عرب آخرون نقلوا عن الإسبانية مباشرة، أو عن لغات وسيطة، الإنكليزية والفرنسية غالبًا، أعمالًا لكتاب من أميركا اللاتينية، ومن ضمنهم ماركيز، ويوسا، وخورخي لويس بورخيس. لكن صالح علماني وحده هو الذي قدم للقارئ العربي خارطة واسعة ممتدة لأدب أميركا اللاتينية، خصوصًا لأعمال كتاب جيل البوم الكبار: ماركيز، وفارغاس يوسا، وخوان رولفو، وكذلك ميغيل أنخيل أستورياس، وإيزابيل ألليندي، وإدواردو غاليانو، من بين آخرين كثر وأغنى بترجماته لهم حضور الأدبين الأميركي اللاتيني، وكذلك الإسباني، في اللغة العربية. فقد ترجم الأعمال الأساسية لماركيز: "مئة عام من العزلة"، و"الحب في زمن الكوليرا"، و"ليس لدى الكولونيل من يكاتبه"، و"قصة موت معلن"، و"الجنرال في متاهته"، و"ذكريات غانياتي الحزينات"، و"عشت لأروي"، و"خبر اختطاف"؛ ولفارغاس يوسا "حفلة التيس"، و"في امتداح الخالة"، و"من قتل بالومينو موليرو"؛ ولإيزابيل ألليندي: "ابنة الحظ"، و"صورة عتيقة"، و"باولا"، من بين أعمال أخرى لهؤلاء الكتاب، إضافة إلى عدد كبير من الروايات والأعمال التي نقلها لكتاب آخرين من الجيل التالي من كتاب أميركا اللاتينية، وكذلك من الكتاب الإسبان المعاصرين. وهو بهذا المعنى، قدم للثقافة العربية بانوراما لأدب أميركا اللاتينية، في الأساس، والأدب المكتوب باللغة الإسبانية بصورة عامة. ولعل علماني أن يكون، بغزارة ترجماته عن اللغة الإسبانية، هو من جعل اللغة العربية واحدة من اللغات الأساسية في العالم التي يتمتع فيها الأدب، المكتوب بالإسبانية، بحضور كبير فيها. فهو إلى جانب كثرة الأعمال التي نقلها إلى العربية، جعل لهذه الأعمال نكهتها العربية الخاصة، بلغته العربية السلسة، المحلقة، وقدرته على جعل القارئ لا يشعر بأنه يقرأ عملًا مترجمًا. فمشكلة الترجمة إلى العربية، في عدد لا يحصى من الأعمال المنقولة من لغات عديدة، أنها عصيَّة على القراءة أحيانًا، ضعيفة، في كثير من الأحيان، ولا تغري القارئ بمواصلة القراءة، فضلًا عن سوء فهم اللغة الأصل، والضعف البيِّن في التعبير باللغة العربية. فالترجمة، إلى جانب كونها معرفة باللغة الأصل، واللغة المترجم إليها، هي موهبة واستعداد، وثقافة، تمكِّن المترجم من أن يجعل ما ينقله يتمتع بالمقروئية، والحيوية، والإبداع. وهذا ما فعله صالح علماني، في كثير من الأعمال التي ترجمها.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.