}

في جحيم المحرقة... ليس كالموت سوى الموت

راسم المدهون 15 أكتوبر 2023
هنا/الآن في جحيم المحرقة... ليس كالموت سوى الموت
عمليات إنقاذ لجرحى قصف قوات الاحتلال بغزة (14/10/2023/ Getty)
يريدها أعداء الفلسطينيين "لحظة الموت"، فيستدعون من التاريخ "محارق النازية"، وأقبية موت الحرب العالمية الثانية، ليس من أجل السلام، ولكن لمنح القتلة شهادة براءة من أية جرائم يرتكبونها حتى ولو كانت من النوع الذي لا يخطر ببال القتلة المحترفين. غزة تباد بأهلها وبيوتها، بشوارعها وبأطفالها وبناتها الصغيرات، في ظل "شهادات" مزورة يرددها كالببغاوات رؤساء دول ووزراء خارجياتهم الذين يقسمون أن الفلسطينيين "قطعوا رؤوس" الأطفال في "مستوطنات السلام" التي تحيط بقطاع غزة بأولئك "الأبرياء" الذين يتحدث وزراؤهم الرسميون عن الفلسطينيين بوصفهم "حيوانات بشرية".
سيقول قائل إن الكذبة ستنكشف، ألم يحدث هذا في كذبة الكيماوي العراقي؟ بلى، ولكن بعد فوات الأوان، والأمر يتعلق بأن الفلسطينيين يصممون اليوم على أن يظلوا أحياء حتى "بعد فوات الأوان"، الأوان الذي تحدده عواصم القوة والبطش الهمجي، والتي لا يعنيها أن تنكشف الكذبة الكبرى إذا انكشفت بعد مرور المذبحة الكبرى.
في المشهد العام تعقيدات لا تحصى، لكنها كلها تظل بسيطة وشديدة الوضوح: قيادة إسرائيلية تجد الوقت مناسبًا للخلاص من النقيض الفلسطيني، صاحب الأرض وصاحب الحكاية الأصلية، الحقيقية وذات الجذور الطبيعية بالأرض والانتماء، وفي سبيل أن تتحقق رغبة حكومة المستوطنين ومحترفي السطو على أوطان الشعوب لا وسيلة سوى "الإزاحة" القسرية، أي بكلام واضح لا بد من ذبح أولئك الفلسطينيين الذين يفوق عددهم المليونين وربع المليون، فلا مكان لهم في الأرض التي هي أرضهم، ولا حاجة أيضًا لسلام يحرم سارقي الأوطان من أرض يحلمون بإضافتها إلى ما سرقوه قبل ذلك.
يبدو الأمر فظًا، ولكنها الحرب، أو ما يريدون تصويره على أنه حرب، فالأمر هنا في غزة لا علاقة له بالحروب التي يعرفها البشر والتي لها قوانينها الناظمة مثلما لها حرماتها ومحظوراتها. القاتل هنا سبق لآبائه، أو حتى أجداده، أن واجهوا محرقة ارتكبها حاكم أوروبي ضد مواطنين أوروبيين، وذلك يكفي في تقديرهم لمنح أحفاد الضحايا امتياز فعل أي شيء، يخطر في بالهم، ويمكننا أن نرى هذا في تباكي الزعماء والمسؤولين السياسيين الكبار الذين لا يرون ما يحدث للفلسطينيين على أيدي أولئك المستوطنين المدججين بأحدث الأسلحة ووسائل القتل، وهم لا يلحظون ذلك الكم الهائل من العنف الدموي الذي تلقيه الطائرات فوق قطاع غزة، بل هم لا يعيرون انتباهًا لتصريحات المتحدث العسكري الإسرائيلي التي يتباهى فيها بأنهم ألقوا على غزة ما يزيد على أربعة آلاف طن من القنابل. ذلك كله "عادي"، أو أنه يتم "نصرة للمظلوم" الإسرائيلي الذي يحق له ما لا يحق لأحد في العالم، والذي لا يخفي أفعاله كما لا يخفي نواياه.




في قلب الحديث الخارجي عن الحرب على غزة، تبدو لغة الساسة الغربيين عودة إلى لغة وتعبيرات ومصطلحات المستشرقين الاستعماريين الذين رسموا للشرق صورة من خيالهم تنسجم مع رؤاهم ومخططاتهم عن كيف يتوجب على الشرق أن يكون. هي صورة مخترعة، ولأنها كذلك تنتهي كل مرة بالسقوط أمام أول امتحان حقيقي مع شعوب المنطقة، فالغرب الذي "يهرول" اليوم بحاملات طائراته ودموع ساسته الكبار لدعم العدوان وتبريره سيعود بعد أن تنتهي المعارك ليعترف بنفسه أنه لم يحقق مبتغاه ولم تصدق نبوءاته ومخططاته لأنه ببساطة لا يفهم ـ وربما لا يريد أن يفهم ـ أن رؤية شعوب الشرق لحاضرها ومستقبلها لا تنسجم بالضرورة مع الرؤية الغربية إلا بقدر انسجام الرؤية الغربية مع ما تزعمه من شعارات كبرى عن حقوق الإنسان والحريات، فلا يستقيم عندنا أي حديث عن تلك الشعارات في دول صناعية تذهب اليوم أكثر فأكثر نحو "ابتلاع" مفاهيم الحرية خشية أن تقوم شعوبها بالتظاهر استنكارًا للمذبحة الإسرائيلية للفلسطينيين.

فلسطيني يسعف ابنته الجريحة جراء قصف قوات الاحتلال لقطاع غزة (14 /10 /2023/Getty)

هنا بالذات تبدو فلسطين وقضيتها قضية رأي عام عالمي بين من هم حقًا مع حرية التعبير واستقلالية الشعوب وبين من يعودون إلى الوراء، أي تمامًا إلى المرحلة الاستعمارية، وكثر منهم يرون إسرائيل نموذجًا تم اختراعه في مختبراتهم، ووفقًا لمصالحهم وأهوائهم، وقد بدأت منذ اليوم ملامح رفض أوروبيين لسياسات بلادهم في قضم حرياتهم الشخصية من أجل عيون كيان استيطاني عنصري لا علاقة له بأية حقوق تاريخية قدر اعتماده على روايات شبه دينية عن وعود وهبات إلهية لشعب لا يستطيع أحد إثبات أنه شعب واحد يمتلك قوام الشعوب والأمم.
فلسطين التي هي قضية منذ نكبتها عام 1948 هي في الوقت ذاته تكثيف بليغ لكل مشكلات الشعوب العربية وأزمات بلدانها، فهي الحرية والتنمية والحداثة، مثلما هي التصنيع، وحقوق النساء، وتكافؤ الفرص، ودولة القانون، بل أكثر من كل ذلك إن انتصار دولة الاستيطان يعني مزيدًا من الإحباط لكل الشعوب العربية، ويخلق مزيدًا من التوترات والانفجارات بين وقت وآخر.
نرى هذا كله فيما نرى الدول العظمى ترى حل قضية فلسطين في تكرار النكبة ذاتها، حيث تندفع الدول الكبرى المؤيدة للعدوان للهروب من استحقاق منح الشعب الفلسطيني حق تقرير مصيره بالتخلص من الفلسطينيين كشعب ودفعهم بالحديد والنار للخروج من بلادهم إلى اللجوء للبلدان العربية المجاورة، أي إلى النكبة ذاتها تحت ادعاءات سخيفة تتحدث عن الإرهاب ومكافحة الإرهاب، وهي تصر على تجاهل حتى الاتفاقات الدولية التي وقعت في المحافل الكبرى، بل وقع بعضها في "حديقة البيت الأبيض"، كما هي حال "اتفاق أوسلو" بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل.





هل نقول إن الأمر برمته بات مملًا وسخيفًا؟
ما إن بدأت عملية "طوفان الأقصى" حتى نسي القادة الغربيون، ومعهم وسائل إعلامهم، جرائم المستوطنين التي لا تحصى ضد المواطنين الفلسطينيين، والتي شملت القتل المباشر بالرصاص الحي، وحرق المزروعات حين تنضج المواسم، وحرق البيوت في المدن والقرى، وغيرها، وأخذوا في الحديث عن شيء واحد هو محاولة شيطنة حماس وتصويرها على صورة داعش، من دون أن يتذكروا أن في إسرائيل حكومة تتشكل من ألفها إلى يائها من غلاة التكفيريين، حتى أن المسؤولين الكبار لا يرون أن البصق على أصحاب الديانات الأخرى جريمة، بل مجرد طقس ديني يهودي، مثلما يرى وزير دفاعهم أن الفلسطينيين ليسوا سوى حيوانات بشرية لا أكثر. هم ذاتهم يتحدثون عن إرهاب غزة، ويتسلحون بالوعد الإلهي، وهدايا الآلهة، فيراهم الغرب علمانيين يقدسون السلام حتى حين تقطر أصابعهم بدمنا.
في هذا الأتون الذي ينفث ناره، كيف نرى التطبيع؟
سؤال يبدو كوميديا دموية لا تستحق الإشارة ناهيكم عن النقاش.
هي قنابل الطائرات تعيد تذكيرنا بما لم ننساه، أي تمامًا بالنوم في ظلال القذائف، وعبثية البحث المضني عن أشلائنا في عتمة الشوارع والأزقة.
ستمضي الحرب لنهاياتها،
سيستيقظ الشهداء بين وقت وآخر،
سيطلقون تنهيدة، ويطلقون غناء خفيفًا يعلنون من خلاله انتماءهم إلى البلاد التي ينامون فيها مطمئنين أن فتية يخرجون من الرماد وينشدون مع الشهيد عبد الرحيم محمود:
فإما حياة تسرُ الصديق          وإما ممات يغيظ العدى.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.