}

في تفنيد خرافة "ألبير كامو المناهض للاستعمار"

بوعلام رمضاني 22 أكتوبر 2023
هنا/الآن في تفنيد خرافة "ألبير كامو المناهض للاستعمار"
يعيش الباحث الفرنسي أوليفييه جلوج في الولايات المتحدة
مقولات مرجعية ورمزية تصدرت فصول كتاب يجسد الروح الاستعمارية والعنصرية والاستشراقية البغيضة لألبير كامو، الذي يعد من أشهر الكتاب الفرنسيين أوروبيًا وعالميًا (1913 ـ 1960). إنه كتاب "نسيان كامو" الصادر أخيرًا عن دار "لافابريك" الجريئة والمتحررة من قوى المال والأعمال المحددة لتوجهات دور يقال إنها كبيرة وشهيرة في معظم وسائل الإعلام الفرنسي. والعنوان الاستفزازي الذي اختاره المؤلف الفرنسي أوليفييه جلوج زاد من رمزيته وبعده وخلفيته، عبر مقولات لصيقة بفصول اختارها بعناية ثاقبة ولافتة، وبمقاربة فكرية تفسر العداء الإعلامي العام الذي قوبل به كتابه في فرنسا الأنوار المروّج لها بألبير كامو كسجل تجاري مربح أيديولوجيًا، وليس أدبيًا فقط. المقولات التي تؤكد سلامة طرح واستخلاص المؤلف الفرنسي لا تطعن حتمًا في أدب كامو، صاحب تحفة "الغريب"، على حد قوله في الندوة الهامة التي احتضنها المركز العربي للأبحاث والدراسات السياسية في باريس يوم 19 سبتمبر/ أيلول الماضي. إنها الأهمية التي شهد عليها فرنسوا ميتران الحي الذي يرزق من خلال مكتبة بنيت في شكل أبراج زجاجية شفافة، والجار للأستاذ سلام الكواكبي، مدير مركز فكري عربي يحاذي شارعين يخلدان المفكرين ريمون آرون، وفرنان بروديل. وقبالة المكتبة التي تسمح للطلبة بإطلالة ساحرة على نهر السين البديع، شهد جمهور لم تسعه المساحة المخصصة للمحاضرات والندوات على حدث ثقافي هو أول من نوعه عن كامو، الذي كاد أن يتحول إلى نبي غير مرسل ليس في فرنسا فقط.
الباحث الفرنسي الذي يعيش في الولايات المتحدة أستاذ في جامعة أشفيل بكارولينا الشمالية (نورث كارولينا)، وتركز أبحاثه بشكل خاص على التمثيل الاستعماري في الأدب الفرنسي والثقافي خلال القرن العشرين، وهو مؤلف كتاب "مقدمة قصيرة عن ألبير كامو"، الذي صدر باللغة الإنكليزية عام 2020 عن مطبعة جامعة أكسفورد.

مقولات تعني الفلسطينيين أيضًا
مقولات ومضامين فصول كتاب أوليفييه جلوج الآني أكثر من أي وقت مضى تضع حدًا نهائيًا ومفصليًا للخرافة الحية "ألبير كامو القديس العلماني"، الذي أصبح يؤمن به يساريون ويمينيون ويمينيون متطرفون، كما آمن ويؤمن كتاب خرجوا من معاطفهم الفكرية بإسرائيل الاستعمارية والاستيطانية في فلسطين المحتلة، تمامًا كما آمن كامو بفرنسا الاستعمارية والاستيطانية في جزائر شهداء أضحوا إرهابيين كالفلسطينيين في نظر من باع 9 ملايين نسخة من رواية "الغريب" التي ترجمت إلى سبعين لغة، وقرابة 5 ملايين من رواية "الطاعون". نلفت انتباه قراء "ضفة ثالثة" في البداية إلى أن كتاب "نسيان كامو" يعني الفلسطينيين أيضًا بحكم عيشهم تحت استعمار إسرائيلي استيطاني، كما عاشت الجزائر التي اختفت كشعب مقاوم في أدب كامو لغزو أجنبي رآه إرنست رينان، وتوكفيل، وجول فيري، "ضرورة حضارية أوروبية حتمية في بلد مسلم متخلف". ونقصد المقولة الأولى التي تصدرت الفصل الأول "من أجل استعمار بوجه إنساني"، وهو الفصل الذي يؤكد إيمان كامو بإمكانية وسلامة الاعتقاد باستعمار عادل وإنساني في بلد يستوطنه أوروبيون أرقى عرقيًا وحضاريًا من أبناء وطن سكنه عرب وبربر مسلمون وغير مسلمين يؤمنون بالقدر الذي يراه كامو عبثًا. كامو هو المثقف الأوروبي الأكثر تجسيدًا لحداثة رثة ومعطوبة، على حد تعبير المفكر برهان غليون، في سياق كشفه بشكل غير مسبوق عن المثقفين العرب الذين اعتنقوا حداثة غربية أضحت دينًا يبرر استعمارية جيو أيديولوجية، وليست كذلك ثقافيًا، في كل جوانبها حتمًا. الحداثة السياسية الغربية، والمفروضة على شعوب عربية وإسلامية عنوة باسم عالميتها الإنسانية المزعومة، هي الحداثة المزيفة التي فنّدها الكاتب جلوج في فصل أول أسقط من خلاله خرافية كامو ـ ليس ككاتب كبير وموهوب، وسيد لغة فرنسية يطوعها كما يريد للتغطية على فكره الاستعماري جوهريًا ـ ولكن كقديس علماني وإنساني مناهض للاستعمار، كما سمع كثيرون يرددون في الأوساط الطلابية والأدبية في الولايات المتحدة التي يعيش ويعمل فيها. تناقضات كامو الصارخة هذه أكدتها مواقفه التاريخية النهائية الموثقة في كل فصول الكتاب، وخاصة في الفصل الثالث الخاص بصراعه مع جان بول سارتر، الذي أضحى عدوه الأول والأخير، بعد صداقة لم تدم طويلًا بسبب موقفيهما المتنافرين من الجزائر الفرنسية.




الشيء نفسه ـ أضاف يقول الكاتب جلوج ـ حدث مع جان سينياك، الذي لم يناهض استقلال الجزائر، ورفض مبررات وحجج كامو الذي لفظه في الأخير كصديق ولد مثله في الجزائر الفرنسية، وهو الصديق الذي أضحى عدوًا بعد أن طال نفاقه، وتأكدت مناوراته وتردداته حيال قضايا مبدئية متعلقة بموقفه من استقلال الجزائر، بحسب المناضلة الكبيرة جيزيل حليمي، التي شهدت على ذلك كما جاء في الكتاب. الوجه الإنساني المزيف للسياسي كامو أكده الكاتب جلوج منذ البداية، من خلال مقدمة فردريك جمسون، التي جاء فيها: "الكتاب لا يطعن في كامو الكاتب بقدر ما يطعن في كامو الرجل السياسي الذي جاهد لإخفاء تناقضات لم يعد يسيطر عليها بعد الحرب العالمية الثانية، وانتقاله إلى فرنسا". تحليل كامو الأيقونة الخرافية أدبيًا لم يكن هدف الباحث الفرنسي ـ كما كان يتمنى من يريدون التغطية على حقيقته الأيديولوجية التي تعود للواجهة الفرنسية والعالمية في عز مواجهة غير مسبوقة مع إسرائيل الاستعمار الاستيطاني غير الإرهابي في نظر كامو استنادًا لما قاله عن الاستعمار الفرنسي في الجزائر، وعن جبهة التحرير المعادلة لحماس وفق شرحه للإرهاب. في تقدير جمسون كاتب المقدمة اللافتة، "فإن استراتيجية كامو السياسية كانت متقاطعة مع كتاباته في شكل مناورات تكتيكية كشفت وجهه الحقيقي الاستعماري المبدئي بعد أن لبس ثوب اليساري الإنساني والتقدمي المدافع عن الجبهة الشعبية الفرنسية ومكاسبها العمالية". سقط قناع الكاتب الإنساني نهائيًا بعد رفضه للإعدام في مرحلة أولى قبل أن يصبح مؤيدًا له، من منطلق مناهضته لمقاومة الشعب الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي، ووصفها بالإرهاب كما وصفت المقاومة الفلسطينية اليسارية العلمانية والوطنية قبل بروز حماس بعقود. أخيرًا، وليس آخرًا، رفض كامو، خلافًا لأندريه مالرو، وفرنسوا مورياك، التنديد بتعذيب كبار جلادي العساكر الفرنسيين الكبار غير الإرهابيين لجزائريين إرهابيين كما يقال في هذه الأيام العربية القاتمة بشكل غير مسبوق عن الفلسطينيين.

ألبير كامو  (Getty)

نماذج عن التمثيل الاستعماري في أدب بديع
"أسلوب كامو الذي يسمح بوصف دقيق ومبهر للحالات الاجتماعية يخفي تناقضات غير قابلة للحل، وذات تعقيد هائل، وهو الأسلوب الأدبي الذي أكد من خلاله وفاءه للجزائر الفرنسية". بعد نشر هذه المقولة مباشرة تحت عنوان الفصل الثاني المذكور (تمثيلات استعمارية)، راح المؤلف جلوج يشرّح التوظيف الروائي الخلاق لكامو في بلد يعتقد أنه بلده مثل الجزائريين المسحوقين من العرب والأمازيغ، إنه البلد الذي غَيّب فيه المستعمَرين ـ بفتح الميم ـ كشخصيات غير مرئية ومن دون هوية إنسانية، واستبدلها بشخصيات الطبيعة الخلابة في كوكتيل بديع مكّون من شمس سخية على مدار العام، ومن بحر لازوردي يستولي على الألباب والمشاعر، ورمال ذهبية ساحرة يفترشها الكولون تحت النجوم والقمر أيضًا. في الفصل الثاني، زاد المؤلف جلوج من وتيرة إسقاط خرافة كامو الذي يجب نسيانه كمناهض للاستعمار، وتذكّره كاستعماري مؤكد على حد تعبيره، أسوة بالمستعمرين الأوروبيين والأميركيين الذين يدعمون في هذه اللحظة إسرائيل التي تحارب عدوًا إسلاميًا حضاريًا يرفض حداثتهم بحسب تعبير إريك زمور. وكما كان منتظرًا منهجيًا ومنطقيًا، أعطى المؤلف عشرات الأدلة التي تنضح باستعمارية وعنصرية كامو منطلقًا من روايتيه الشهيرتين، ألا وهما "الغريب" (1942)، و"الطاعون" (1947)، المرادفتين لتغييب متعمد لشعب أراده أن يبقى تحت نير استعمار يمكن أن يكون عادلًا وإنسانيًا في تقديره، وهو الشعب الذي لم يعترف بحقه بالتمتع بشمس وطنه المستلب كما تجلى ذلك في رواية "الغريب" التي يبدو فيها الجزائري العربي من دون هوية واسم.
لتأكيد استمرار خرافة كامو، كما مر معنا، أضاف جلوج يقول: إن أغلب النقاد الأدبيين المتخصصين قفزوا عن استعمارية كامو المبدئية والمكرّسة في كل إبداعه رغم كتابته عن بؤس فقراء القبائل من منطلق نزعته الاجتماعية والإنسانية التقدمية، لكن في إطار استمرار الاحتلال الاستيطاني الفرنسي الذي كان ينعم بخيرات الجزائريين من قبائل البربر والعرب على السواء. غياب العربي كإنسان في روايات كامو المدافعة عن الجزائر الفرنسية مسكوت عنه في فرنسا حتى اليوم إلا في حالات قليلة. وتأكيد طروحاته المناهضة لثورة الجزائريين من أجل استقلالهم، والترويج لحداثته الاستعمارية الجوهر، حقيقة عاد إليها أحد النقاد عند نشر دار "غاليمار" الأعمال الكاملة لكامو. وخلال ذلك أعاد خطاب كامو الذي وصف الفرنسيين المكافحين ضد ألمانيا النازية بالإرهابيين مثلهم مثل جميلات الجزائر الثلاث، جميلة بوحيرد، وجميلة بوباشا، وجميلة بوعزة، وبطلات أخريات طواهن النسيان تحت وطأة شهرة البطلات الثلاث.
وأشار إلى أن الفيلسوف ميشال أوفري أعاد إلى الواجهة الإعلامية والأدبية والفكرية عام 2012 في سيرة ذاتية نشرتها دار "فلاماريون" صاحب رواية "الغريب"، المناهض للاستعمار منذ صغر سنه على حد تعبيره. ولم يتوقف أوفري في كتابه لحظة واحدة عند عنصرية نموذجه الفكري الأعلى حيال العرب الذي كان يقصد بهم الجزائريين في الوقت نفسه مثله، لكن كفرنسي ولد في وطنهم، وعند قوله عام 1958: "مطلب الجزائريين بالاستقلال يعبر عن الإمبريالية العربية الجديدة التي تتزعمها مصر الواقعة تحت التأثير الروسي". ردًا على أوفري، الذي وصف المثقفين الجزائريين الذين ينتقدون كامو بالعبيد الفكريين التابعين للسلطة، وبأشباه المثقفين الذين لم يقرأوا بالضرورة روايات كامو، راح الكاتب جلوج يسرد أسماء الكتاب الجزائريين الذين فندوا مزاعمه. وأضاف مؤلف كتاب "نسيان كامو" يقول في الفصل الثاني الذي يصلح وحده عنوان كتاب بقوله: "لا يعرف أوفري أن كامو يحظى في الجزائر ببحث جامعي متنوع ومتناقض المشارب"، الأمر الذي أكدته الأستاذة عفيفة برارحي في مداخلتها تعقيبًا على محاضرة المؤلف. والروائي محمد مولسهول المعروف روائيًا باسم ياسمينة خضراء كان ممثلًا للنظام الجزائري حينما أصبح مديرًا للمركز الثقافي الجزائري، علمًا أنه من أكبر المدافعين عن كامو، لكن ليس بالكيفية الكاملة والشاملة التي يجسدها كمال داود، أشهر المدافعين عن صاحب "الغريب"، والذي حاول تبييض كامو حسب جلوج في روايته "ميرسو... تحقيق مضاد" (دار "البرزخ" في الجزائر عام 2013، و"أكت سود" في باريس عام 2014. ونالت جائزة غونكور عام 2015).

كامو وسارتر أو الصداقة المستحيلة
في الفصل الثالث "سارتر وكامو غير منفصلين"، والفصل الرابع "المضاد لسارتر"، وكما كان منتظرًا، عرّف الأستاذ جلوج كيف يربط مجددًا بين الخصومة التاريخية التي تمت بين أشهر كاتبين تشاجرا فكريًا وسياسيًا وأدبيًا وشخصيًا، وبين مسار مقاربته الدقيقة منهجيًا بهدف وضع حد نهائي لخرافة كامو المناهض للاستعمار. تنافر موقفي كامو وسارتر الجذري من استقلال الجزائر لم يكن وحده السبب الذي دفع أنصار الأول إلى تكريسه إعلاميًا وأدبيًا وفكريًا على حساب الثاني الذي ما زال يلقى التعتيم والتشويه المطبقين.



سارتر الذي التقى كامو لأول مرة في يونيو/ حزيران 1943 في مناسبة تقديم العرض الأول لمسرحيته "الذباب"، لم يقّدر ـ في نظر الكاتب جلوج ـ صعوبة ربح معركته مع كامو على خلفية أيديولوجية عميقة تصب في صلب مقاربتين عدائيتين على الصعد الفكرية والأدبية والشخصية، الأمر الذي حال دون ربطهما بصداقة أضحت مستحيلة. بعد سنوات تبادل الاثنان خلالها الإطراء المتبادل كتابة وقولًا بهدف التقرب من بعضهما بعضًا في لقاءات شخصية، أضحى الانفصال حتمية تاريخية بينهما، بعد اتهام كامو سارتر الذي كتب مقدمة كتاب "معذبو الأرض" لفرانتز فانون، بالتنظير للعنف المضاد، أي الإرهاب (كما قيل عن كل المقاومين للإستعمار ليس في فلسطين فقط، وقبلها في الجزائر، وفي أنحاء أخرى من العالم)، وبالانحياز للشيوعية التي أكد مقته لها في كتابه "الرجل الثائر" (1951)، وقارنها بالنازية على طريقته، فضلًا عن ربطها بالستالينية. سارتر أضحى في النهاية كاتبًا سيئًا مقارنة بكامو، وعدوًا مطلقًا، بعد أن تحول في نظر مؤيدي كامو، من دون شرط أو قيد، إلى مشجع على الإرهاب، ومتعاون مع الإرهابيين، وأحد المعادين للسامية، كما يقال في هذه اللحظة عن كل من يرفض الاستعمار الإسرائيلي في فلسطين. في نظر سارتر، كامو عنصري واستعماري واستشراقي. بعد أن عرى سارتر تناقضات كامو قولًا وكتابة، حسب الكاتب جلوج، كما فعل كامو حياله، أكد أن الثاني "كان ينوي الاعتداء على سارتر جسديًا، وقامته القصيرة هي التي حالت دون ذلك". إن كامو عنصري في نظر الأستاذ جلوج، وغرسه في الذاكرة الفرنسية عنوة بشكل استراتيجي ممنهج، هو غرس لذاكرة استعمارية ظاهرها أنوار إنسانية، وباطنها ظلامية استعمارية واستعلاء عنصري.
ولا أدل على ذلك من قوله "لأن العرب يتواجدون هناك" عندما رد على جان غرونييه الذي سأله في باريس: "لماذا لا تشتري بيتًا في الريف، أو على ضفاف البحر، ما دمت متعلقًا بالجزائر؟" (كتاب "جان غرونييه، ألبير كامو... ذكريات" الصادر عن دار غاليمار عام 1968. صفحة 170).

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.