}

نصرالدين ديني أو رمز بوسعادة التي أسلم فيها

بوعلام رمضاني 13 فبراير 2024
استعادات نصرالدين ديني أو رمز بوسعادة التي أسلم فيها
صورة ذاتية لنصر الدين ديني

القيام برحلة ثقافية انطلاقًا من بوابة الصحراء الجزائرية في عز الشتاء بعد فقدان الأم، يعني حتمًا البحث عن منافذ روحية تنسي الابن اليتيم تداعيات الوجع الأبدي الأكبر والأقسى ولو لأيام معدودة. منافذ تدخلك عالم مناجاة الصمت والهدوء والسكينة، والعيش المنافي بكل المعايير لشمال غرق في بحر الضجيج والسرعة والإرهاق، وأسر مدنية صاخبة أتت على الأخضر واليابس. تتجسد هذه الحقيقة، وتتجلى مظاهرها الكثيرة، عندما يدخل الزائر متحف الرسام نصر الدين ديني أو ألفونس إتيان ديني (1861ـ 1929) الذي يرقد ببوسعادة الحالمة في ضريح لم يأخذ حقه من الرعاية الكافية. إنه الضريح الذي وقفت عنده خاشعًا ومترحّمًا على فنان تشكيلي مات مسلمًا وسط بوسعادة الحالمة التي خلدها في لوحات يحتضنها بيته المتواضع الذي تحول إلى متحف يحمل اسمه. في بوسعادة التي يستضيفك فيها أهلها على الغذاء أو العشاء ردًا على سؤال بحثك عن فندق، قمت بتحقيق ثقافي ساعدني على إنجازه كتاب وفنانون وإعلاميون ومسؤولون يتنفسون الإنسانية والجود والكرم والأصالة والإخاء بالشكل الذي يترك الزائر يتمنى الموت بينهم مثل سفيرها المبدع نصر الدين ديني. من بوسعادة السحر، قادني القدر إلى  باتنة، مدينة الشهيد البطل مصطفى بن بولعيد والرئيس السابق زروال الذي تمنى له الشفاء العاجل. في باتنة حدث لي ما لم أعشه في حياتي المهنية، وما لست مستعدًا لنسيانه حتى ألقى الله. بفضل الصديق الصحافي المتقاعد عبد الرزاق دكار، وجدت نفسي أتحدث عن تضليل مثقفي الشاشات الفرنسية التي ما زالت تستضيفهم على مدار الليل والنهار لتشويه مقاومة شعبنا في غزة العزة والبطولة والحرية. قبل حلولي بالمدينة التاريخية راح عبد السلام، أحد مسوؤلي جمعية "كفيل اليتيم" يتواصل مع مثقفيها لتنظيم ندوة فكرية انطلقت بعد صلاة المغرب لتنتهي قبل منتصف الليل بقليل.

لوحة تدشين وزير الثقافة والاتصال شوقي حبيب حمراوي متحف نصرالدين ديني ومدخل المتحف


هنا فصول مسلسل جولتي الثقافية التي  تضاف إلى سجل رحلات سابقة أعطت أسمى المعاني لوجودي المهني:

بوسعادة الجنة حسب ديني

خلافًا لأوروبيين قلائل أعجبوا بالإسلام دون اعتناقه (فيكتور هوغو ونابليون وغوته ولوي ماسينيون الذي يقال إنه أسلم مثل نابليون دون التأكد من ذلك، عكس ما قيل عن روجيه غارودي الذي قضى حياته ماركسيًا)، لم يتردد الراحل ديني في اعتناقه، متأثرًا بقيم أبناء بوسعادة الشاهدة على تجذره في الذاكرة الجمعية لأهلها الطيبين والكرماء مثل الإعلامي الكبير عبد القادر مام. مام الذي اشتهر بأفلامه الثقافية والتاريخية والحضارية التي بثتها قناة الجزيرة الوثائقية. يتناول في فيلمه الجديد "الجزائر... سقوط الأسوار" ـ فترة الجزائر العثمانية وعقود الجهاد البحري، وعامل قوة الجزائر البحرية وسيطرتها على الحوض الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط ـ  وعدنا بحوار من منطلق تنوير القراء بأهمية الأفلام الوثائقية التي استغلتها إسرائيل لتكريس الهولوكوست كآخر إبادة تعرضت لها البشرية في زمن إبادتها لشعبنا في غزة. مام الذي انتهى مؤخرًا من إرسال فيلمه الوثائقي الجديد للقناة "العربية"، كان مرشدنا الأول، ولم يسهر فقط على راحتنا في بيته الذي ينطق بالأصالة التراثية والتاريخية والعمق الروحي والعبق الحضاري، وبتوجيهنا ثقافيًا، وقام بجهد كبير لربطنا بالمسؤولين عن النشاط الثقافي في بوسعادة لؤلؤة بوابة الصحراء.  من بينهم الكاتب جمال محمدي، والفنان التشكيلي توفيق لبصير خريج مدرسة الفنون التشكيلية بالاتحاد السوفياتي ومنتج أفلام رسومات متحركة للأطفال، والكاتب عبد الكريم قذيفة الذي يترأس أكاديمية الذاكرة الجزائرية التي اتخذت من مآرب مقرًا لها كما سنرى لاحقًا في الحلقة الثانية من هذا التحقيق. بحضور الإعلامي مام والصديق عبد الرزاق دكار الإعلامي الرياضي الذي يتنفس الفنون والتمثيل بوجه خاص، وقفنا عند لوحات الراحل نصر الدين ديني في جو كله سكينة وهيبة ووقار. في بيته الذي تحول إلى متحف دشنه وزير الثقافة والاتصال السابق حبيب حمراوي شوقي يوم الثامن عشر من مايو/ أيار 1993، ارتمينا في أحضان نخيل واحات وعادات وتقاليد دين إسلامي أبهر الراحل ديني الذي أوصى بلغة عربية دارجة كتبها بخط يده بنقل رفاته إلى بوسعادة التي قال عنها في لوحة بديعة "إذا كانت الجنة في السماء فإنها تضلل بوسعادة، وإن كانت على الأرض، فستكون في بوسعادة ذاتها".

نصرالدين ديني في صورة مزخرفة خزفيًا


ميتران الزائر الموّقع

بتوجيه من المرشد الخدوم الفنان عبد القادر سالمي الذي فتح لنا رواق لوحات الرسام نصر الدين ديني، تجولنا عبر أرجاء متحف ديني على مرأى والديه اللذين رسمهما، كما توقفنا عند الطاولة الزجاجية المغلقة التي تحتوي على دفتر توقيعات الزوار، ومن بينهم الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران. طاولة زجاجية أخرى مغلقة تتضمن الأدوات البسيطة التي كان يستعملها الراحل ديني بالشكل الذي كان يعكس زهده وتصوفه اللذين ميزا حياته في لؤلؤة الجنوب الجزائري. الطاولة الأولى التي تتضمن شهادة ميتران، تتضمن أيضًا مؤلفات الفنان ديني، والوثائق التي تؤرخ لكتابات عن أثره الفني وتأثره الروحي في بوسعادة ومن بينها كتب "لوحات من الحياة العربية" (1908) و"الشرق في نظر الغرب" (1921) و"حياة محمد" (1928) وكتاب " خضراء" راقصة أولاد نايل (1926) و"الحج إلى بيت الله الحرام"(1930)، ورافقه إلى الحج الحاج سليمان بن إبراهيم، وترجم الكتاب الأخير حسب الزميل المرشد الأول الإعلامي عبد القادر مام  شيخ الأزهر حليم محمود. العلاقة الحميمية والأخوية التي ربطت الراحلين ديني بسليمان بن إبراهيم، تضحى شامخة أكثر من أي وقت، لحظة وقوف الزائر عند ضريحيهما اللصيقين ببعضهما البعض إلى جانب زوجة سليمان الشاهد الأول والأخير على كل جوانب شخصية وأعمال وأثر ورمزية إيتيان ديني الذي أسلم، وأصبح يدعى نصرالدين. لأن الجزائر فشلت فشلًا ذريعًا في استثمار ثقافتها وتاريخها وحضارتها سياحيًا، على عكس ما قامت به دول شقيقة لا تملك طاقات الجزائر السياحية. يشعر الزائر لضريح الفنان دينييه بالأسى الذي يمزق الأحشاء. ضريح بارد ودون روح، ولا تسبقه إشارات توجه السياح بسهولة للمكان المعزول الذي يرقد فيه أهم فنان تشكيلي خلدّ بوسعادة الساحرة، ولا رعاية داخلية وخارجية ترقى إلى مستوى الرمزية التاريخية التي ينطق بها المكان، ولا إشهار في فندق كركادة الموريسكي التصميم بالطريقة التي تدفع السياح إلى زيارة متحف وبيت وضريح ديني. اللوحة الحديدية المثبتة على الأرض عند مدخل الضريح، خير دليل على رعاية مقززة لا تشد الناظر حتى وإن اقترب منها.

المرشد المتخصص عبد القادر سالمي و المرشد المتطوع الإعلامي عبد القادر مام


بن نبي الشاهد الآخر

في متحف الفنان التشكيلي لا نقرأ مقولة ديني الشهيرة المذكورة فقط، ونقرأ أيضًا ما كتبه المفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي عنه جنب اللوحات التي يحفظها متحفًا ليس ككل المتاحف. كتب بن نبي يقول: "ديني هو في اعتقادي الريشة التي أضفت على الأشكال والتعابير المسحة الأكثر تأثيرًا. سيظل اسمه خالدًا كأفضل رسام صوّر حياة الجنوب". من جهتها، كتبت لين تورنتون، المؤرخة الفنية الإنكليزية، عن ديني قائلة: "إنه أحد أبرع من صوّر أعماق الجزائر من الفنانين، وتمحورت بداياته حول البحث عن تأثير الضوء أسفل سماء ملتهبة تقع أشعة شمسها السخية على على كل شيء فلا تترك مكانًا للظلال". المعماري الفرنسي الشهير والكاتب والناشر فرنان بويو، الذي صمّم حي ديار المحصول الذي يطل على مقام الشهيد في القلب الجزائر العاصمة، كتب يقول عن ديني: "يمثل الفنان التشكيلي ديني الاستشراقي النزعة وجهًا بارزًا في الإشتغال على الإسلام الجزائري، وحتى يكون أكثر قربًا من موضوعه، اتخذ خيارًا شجاعًا في أوج الحقبة الاستعمارية بأن يستقر في واحة صحراوية، ثم سرعان ما اعتنق الإسلام، وهو ما ساقه إلى مكة حاجًّا بيت الله قبيل وفاته".
    

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.