}

بعضُ ما كشفته الملحمة الغزّاوية: نحنُ محكومون بدكتاتورية الخوارزميات

لطفية الدليمي 16 نوفمبر 2023
هنا/الآن بعضُ ما كشفته الملحمة الغزّاوية: نحنُ محكومون بدكتاتورية الخوارزميات
(gettyimages)


حياةُ كلُّ كائن بشري لا بدّ أن تنطوي على جانب صراعي. وهذه حتمية وجودية نعيشها كلّ آن. هل يمكنُ نفي وجود الحقيقة الصراعية من حياتنا؟ أبدًا. المضادات الحيوية هي نتاجُ صراعنا مع البكتيريا الممرضة، ووسائل التدفئة والتبريد هي نتاجُ صراعنا مع الطبيعة القاسية، وثمة منتجات كثيرة هي نتائجُ صراعية مع كائن بيولوجي أو كينونة طبيعية أو أفكار أو سياسات... إلخ. إن الصراع هو حقيقة وجودية قد تخفى أشكالها المتعددة علينا.

الحربُ (أو الاصطراع المسلّح كيفما كانت درجته وشدّته) هي الشكل الحديث لبقايا الحتميات الصراعية التي وجد فيها الإنسان ذاته يتصارعُ مع نظيره البشري وكائنات أخرى للحفاظ على وجوده البيولوجي. لنتفقْ إذًا على أنّ الصراع حقيقة لا يمكن تجاهلها في هذه الحياة، وأنّ بعض أشكال الصراع تقودُ إلى ارتقاء الحياة البشرية على المستويين الفردي والجمعي، وأنّ بعض أشكال الصراع غير مرئية ولا محسوسة، وبعضها الآخر مرئي ونتائجه محسوسة، وقمّةُ تلك الصراعات هي صراعُ النوع البشري مع نظيره المضاد، وأحسبها تمثلُ رأس هرم المأساة البشرية في كلّ العصور والأزمان.

غبارُ الحرب، أيّة حرب، يُعمي العيون ويُخرِسُ الألسنة ويصدّ العقول عن التفكير الهادئ. الحشد التعبوي له الكلمة العليا التي لا تُردُّ وبخاصة وأنت ترى مشاهد القصف والتدمير والقتل تطاولُ المدنيين وكل ما يديم الحياة في المدينة الباسلة. للحرب ألف لون ولون، وتبعاتُها اللامرئية أكبر بكثير ممّا تراه العيون وتلتقطه الكاميرات. الموتُ قرين الحرب وتوأمها البشع؛ أما أشقّاؤها المكروهون فيتوزّعون بين معاناة رهيبة وخفوت مناسيب الأمل في إعلاء شأن الكرامة البشرية وسقوط فكرة أنّ الانسان أثمن الكائنات.

                                        ***

الدكتاتورية كذلك حقيقة وجودية حالها حال الحقيقة الصراعية. سيسوّغ كثيرون هذه الدكتاتورية بأنها ضرورة مفروضة في زمن الحرب أو الطوارئ؛ لكنّ أزمان السلم لا تختلف كثيرًا عن أزمان الحرب: الفارق الوحيد هو أنّ أزمنة الحرب تقترن بدكتاتورية خشنة معلنة لإيقاع أعظم قدر من الرهبة في المناوئين والمعارضين؛ أما دكتاتورية أزمنة السلم فملساء ناعمة كما الأفعى التي تنسلّ بين أكوام القش.

الديمقراطية ليست نفيًا موضوعيًا للدكتاتورية. هي نفيٌ للدكتاتورية الخشنة والمعلنة. ثمّ إنّ الديمقراطية هي أقلّ أشكال الحكم السيئ سوءًا (تبعًا للمقولة المنسوبة إلى تشرشل) وليست القمّة المرتجاة في نمط الحكم، والدكتاتورية متعشقة فيها كما الروح في البدن الحي.

كلّ سلطة تنطوي على دكتاتورية مضمرة أو معلنة. هذا اقتران شرطي لا مفرّ منه. كيف تمارس السلطة أدوارها المرسومة لها؟ عبر القانون. وما القانون؟ أليس دكتاتورية؟ أنت ترتضي – عبر مدوّنة قانونية اسمها الدستور ومتفرّعاته من القوانين – التنازل عن بعض حريتك نظير الحفاظ على أمنك وممتلكاتك من أن تكون عرضة للافتئات أو التعدّي أو الاستلاب من قبل آخرين. لا وجود لديمقراطية متفلتة من القانون؛ وبالتالي لا وجود لديمقراطية تخلو من بعض قبضة دكتاتورية مقبولة وإلّا صارت حياتنا ملعبة يفوز فيها الأقوياء بدنًا أو جاهًا أو مكانة اعتبارية أو مادية.

كلّ شيء في الغرب – على العكس من بلداننا – محسوب بقانون، وثمّة دكتاتورية مضمرة تبسط ذراعها الثقيل؛ لكنّ الغربيين أشطر منّا. عرفوا كيف يجعلون الدكتاتورية (وهي دكتاتورية القانون مع قدر محسوب من دكتاتورية بعض الأفراد) تتسلّل إلى الفضاء العام من غير استعراضات درامية. رئيس الولايات المتحدة هو الدكتاتور الأكبر على مستوى العالم إذا حسبنا الأمور بمنطق عناصر القوة (الناعمة والخشنة) التي يتيح له القانون استخدامها وإن كان قيّده بموجبات الدستور وطبيعة تشارك السلطة، والولايات المتحدة نفسها هي المثال الأجلى للدولة الدكتاتورية ذات الصبغة العالمية: تعاقبُ من تشاء بغير حساب، وتجزل العطاء لمن تشاء بغير حساب أيضًا وخارج أي غطاء قانوني.

الدكتاتورية الذكية لها شروطها. أولًا: أن تكون دكتاتورية القانون لا دكتاتورية الأشخاص. ثانيًا: أن تكون ناعمة غير مرئية ولامحسوسة ولا يدَ ثقيلة لها على البشر. شيء أقرب إلى كاميرات المراقبة في الشوارع: أنت لا تراها وهي تراك دومًا وتحصي عليك كل أفعالك.

العلم – وذراعه التقنية – صار يُستخدمُ في كلّ المواضع من قبل الأفراد والحكومات، وقد ساعد الحكومات في تليين دكتاتوريتها وجَعَلَها أكثر نعومة وقدرة على التسلّل إلى أماكن معيشنا اليومي. صرنا رغمًا عنّا محكومين بدكتاتورية الخوارزميات Algorithms. تكتبُ عن الملحمة الفلسطينية والمعاناة الرهيبة للمدنيين والصمود الملحمي في المدينة المقاومة، فلا يلقى منشورك سوى بضع انتباهات، وقد تكون محظوظًا لو نال منشورك تعليقًا يتيمًا أو تعليقين في أقصى الأحوال. تنشرُ موضوعًا لا علاقة له بالمواجهة الغزّاوية مع قوات الاحتلال فترى القراءات وقد عادت لطبيعتها السابقة قبل هذه الملحمة. انشُرْ عن بريتني سبيرز أو أحدث خصام بين فنانتين عربيتيْن سيحلّق عدّاد القراءات وعلامات الإعجاب. تدققُ في منشورك فتعرف أن ذراع التقنية الفائقة تتحكم في كلماتك لتحجب الحقائق وتديم التعتيم حول ما يجري على الأرض.

غبارُ الحرب يُعمي العيون ويُخرِسُ الألسنة ويصدّ العقول عن التفكير الهادئ (Getty, Gaza) 


يعلم كلّ من له شيء من معرفة أولية بالذكاء الإصطناعي أنّ تطوير الخوارزميات الخاصة بنظم الذكاء الإصطناعي إنما تحصلُ بطريقتين: تطوير برامج حاسوبية (سوفتوير) من قبل المبرمجين، أو الاستفادة من البيانات الكبيرة المستحصلة من التطبيقات الشائعة (فيسبوك على سبيل المثال) لغرض تطوير خوارزميات تكيّفُ نفسها تبعًا للمؤثرات السائدة. نحنُ هنا إزاء دكتاتوية خوارزمية مصوّبة بدقّة نحو تمرير خطاب أيديولوجي محدّد في بيئة مكثّفة من الاستعمار البياناتي Data Colonialism. هنا سنكون بمواجهة معضلة الانحياز Bias الذي قد يتخذ أشكالًا متعدّدة: انحيازٌ لعرق أو دين أو لون بشرة أو خلفية اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية، وقد يقود هذا الانحياز الناجم عن تأثير البيانات الكبيرة إلى إشكاليات مؤذية تمثلُ تحديات للمنظومة القانونية السائدة وحقوق الإنسان، وأعتقدُ أنّ كلّ من تابع البرنامج الوثائقي المسمّى الانحياز المشفّر Coded Bias على شبكة نيتفليكس سيتعلّم الكثير عن مثل هذه الإشكاليات المؤذية.

لنتصوّر الآن كيف ستكون عليه الحال عندما يتضاعف حجم البيانات الكبيرة آلاف المرات (وربما ملايين أو مليارات المرات. لا أحد يعرف اليوم)، وصارت هذه البيانات مخزّنة في آلة فائقة الذكاء تجاوزت مرحلة الذكاء الاصطناعي العام وولجت طور الذكاء الاصطناعي الفائق للذكاء البشري؟ هل نمتلك القدرة على تخيّل حجم التحيّز الذي قد تلجأ إليه الآلة؛ إذ قد تعتبر الآلة أنّ الآلات مثيلاتها يجب أن تكون لها حقوق أعلى من حقوق الكائن البشري، أو قد تحكم على فئة من الناس لها خصائص بيولوجية أو قومية محدّدة بالإعدام؟ ما العمل حينئذ؟ هذه مشاهد من سيناريو حقيقي وليست تجوالًا ذهنيًا في مملكة خيالية منعزلة، وليس هذا التعتيم القسري على الملحمة الفلسطينية سوى تمرين عالمي مرئي على بعض مفاعيل الدكتاتورية الخوارزمية في عالم ما بعد الحقيقة الذي صار فيه التضليل الإعلامي وتزييف الأخبار بوسائل التزييف العميق قواعد عمل مُعْتَمَدة. 

صارت أصواتُ بعضنا صرخات في برية موحشة، لا يسمعك فيها أحد. أتخيلُ القيّمين على تخليق مثل هذه الخوارزميات سيجيبونك عن تساؤلاتك: ماذا فعلنا لكي ننال غضبك وسخطك؟ نحن نحجب صوتك فحسب. أليس هذا أفضل ممّا قد يصنعه دكتاتوريون لا يجيدون سوى لغة الدماء؟ لعلّ هؤلاء (التقنيين الرقميين) يتغافلون عن حقيقة أنّ الغضب المكتوم في الصدور ما هو إلا موت مؤجّل.

قد تخنق الخوارزميات الدكتاتورية أصوات بعضنا؛ لكنْي أوقنُ أن حتى الهمسات الخارجة من قلب موجوع لها مفاعيل في تحديد مخرجات أية حالة صراعية فيها استخدامٌ مفرط للعنف وأدوات القتل بدم بارد. هذا شكل من الإيمان الميتافيزيقي. نعم بالتأكيد. ولكن متى كان بوسعنا إسقاط القيمة الميتافيزيقية في الحياة من الحساب وردّ كلّ شيء إلى حسابات مادية اختزالية باردة؟

أحلمُ دومًا بيوتوبيا فلسطينية تليق بالفلسطينيين، وهم قادرون على تحقيقها؛ فهم شعب ذكي وصبور يتّسم بالجَلَد والعمل المنظّم. أطمحُ أن أرى فلسطين الحرة مكانًا آمنًا وجميلًا يليق بدولة عصرية مرموقة تمتلك بنية تحتية راسخة في التقنية المعلوماتية التي تتيحُ لها أن تكون أقرب لِـ (سليكون فالي) فلسطيني. هل تتخيّلون ماذا يمكن أن يحصل حينها؟ ستكون (فلسطين التقنية المصغّرة) هذه مثالًا تنمويًا صالحًا للاقتداء كتجربة ناجحة على مستوى العالم، وحينها سيضطرُّ أي عدوّ إلى تعديل قوانين الصراع. ليس بالسلاح وحده تتحقّق الأهداف.

ليس السلاح وحده ما يحقّقُ الغلبة في معركة الإرادات وبخاصة مع عدوّ يتفوّق عليك بقدراته التسليحية النوعية. لا بدّ أن يقترن فعل السلاح الذكي مع تحريك مكامن القدرة (الناعمة) Soft Power، وفي هذا الشأن يمتلك الفلسطينيون منجمًا كبيرًا لا ينضب من العقول المبدعة والقدرات المتفوقة.

                                         ***

كلّما أحسستُ بمظلمة واقعة على فرد ما أو على شعب شجاع سلبت أرضه، وكلّما تزايدت مناسيب الغيظ في القلب إزاء ما يجري من عدوان، أراني أندفعُ إلى سماع الترنيمة الفيروزية "أؤمنُ". وحينها تلفّني السكينة ويعمرُ قلبي هدوء عجيب:

أؤمن أنْ خلفَ الحباتِ الوادِعاتِ تزهو جنات

أؤمن أنْ خلفَ الليل العاتي الأمواجِ يعلو سراج

أؤمن أنَ القلبَ المُلقى في الأحزان يلقى الحنان

كُلي إيمان... إيمان... إيمان

أؤمن أنْ خلفَ الريحِ الهوجاءِ شِفاهْ... تتلو الصلاهْ

أؤمن أنْ في صمتِ الكونِ المُقفلِ... مَنْ يصغي لي

إنّي إذ ترنو عينايَ للسماء تصفو الأضواء

تعلو الألحان... كُلي إيمان... إيمان... إيمان.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.