}

بيير دريدا ألفيري: عن جراح الاسم الشخصي

فريد الزاهي 25 نوفمبر 2023
هنا/الآن بيير دريدا ألفيري: عن جراح الاسم الشخصي
لم يحظ بيير دريدا ألفيري بشهرة منذ بداياته
تلفتنا دومًا الأسماء الشهيرة التي وسمت تكويننا الثقافي، حين نصادفها هنا وهناك، فتثير في ذهننا استمرارية الاسم الأصل، الذي طبقت شهرته الآفاق. ترك كارل ماركس وراءه ثلاث فتيات، لورا، وإليانور، وجيني. ولا يذكر التاريخ من البنات الثلاث إلا لورا، التي تزوجت ببول لافارغ، صاحب كتاب "الحق في الصحافة" الشهير الذي صدر عام 1883. كما لا يعرف المهتمون بهذه التواريخ الهامشية إلا المراسلات التي نُشرت بين النساء الثلاث، وبين أبويهما. كانت إليانور أصغر بنات ماركس، وكانت قريبة من أبيها، تصاحبه في حله وترحاله، بحيث إن نشاطها الفكري والنضالي كان فوارًا. كما أن حساسيتها الأدبية قربتها من المسرح، وكانت ترغب في أن تجعل منه نشاطها الأساس. وعُرف أيضًا عن إليانور ماركس ممارستها للترجمة الأدبية، بحيث أنها نقلت إلى الألمانية بعض أعمال فلوبير، وإبسن. كانت إليانور ماركس إحدى مؤسسات النسوية الاشتراكية. وللأسف، لم يُترجم من أعمالها إلى الفرنسية سوى كتاب "القضية النسوية". وسوف يكشف عن الحياة المضطربة لهذه المرأة مؤخرًا فيلم روائي طويل بعنوان: "السيدة ماركس"، عُرض في القاعات في مايو/ أيار من العام الماضي، من إخراج سوزانا نيكياريللي.
وبالصدفة، وجدت نفسي من مدة قصيرة أتفرج على برنامج في إحدى القنوات الفرنسية يحاور ثلاثة أشخاص سليلي أسماء شهيرة طبعت حياة جيلنا: الممثلة سيمون سينيوري، والمغني جو داسان صاحب الأغنية الشهيرة: "وإذا أنت لم توجدي... قولي لي لمَ كنت سأوجد؟"، وشخص آخر لم أعد أتذكر اسمه. كان أحد الشخصين يمارس المسرح، والثاني مقدم برامج ترفيهية في التلفزيون. هكذا ننتقل من الشهرة المطبقة للآفاق إلى أدوار ثقافية قد تعرف بعض البروز من غير أن تبلغ مبلغ الأب، أو الأم.




وكنت قد نشرت (هنا في "ضفة ثالثة") حكاية ريجيس دوبريه وابنته، والصراع الذي طبع علاقتهما، والكتاب الذي نشرته عن أبيها من سنوات قليلة تكشف فيه اختلافهما ونقدها لعلاقتهما. فأن يحمل الابن، أو البنت، اسم أب شهير ليس فقط إرثًا ثقافيًا، وإنما هو أيضًا قدر اجتماعي ينوء تحت وزره الشخص، ساعيًا إلى التحرر منه، أو التخلص منه تمامًا (كما كانت حال بنت ريجيس دوبريه)؛ وقد تكون حياة الخلف استمرارًا لحياة السلف، في الاهتمامات كما في المشوار الثقافي. ولنا في التاريخ الثقافي العربي، كما الغربي، سطوع لنجم الابن، أو الحفيد، بعد شهرة الأب، فيضطر المؤرخون، نظرًا لتشابه الأسماء، إلى إضافة التعين: ابن رشد الحفيد، أو الابن، مثلًا، تمييزًا لبعضهما عن البعض ودرءًا للخلط واللَّبس طبعًا.

ابن جاك دريدا: حكاية الاسم المنبوذ
بيد أن لابن الفيلسوف الفرنسي الشهير جاك دريدا حكاية أخرى.
لم يعرف كثيرون أن للفيلسوف جاك دريدا، المتوفى عام 2004، ابنًا يمارس الفلسفة والكتابة؛ لسبب بسيط أن بيير دريدا ينشر منذ بداياته باسم بيير ألفيري. كيف تخلص الابن من اسم أبيه، وهو الذي اتبع تكوينًا فلسفيًا، وناقش أطروحته فيها ونشرها في الثمانينيات بعنوان: "غيوم دوكام المتفرد". والمعروف عن هذا الفيلسوف والمنطقي الإنكليزي (1285 ـ 1347) مقولته عن الموسى، أو ما يسمى "موسى أوكام"، وهو مبدأ فلسفي يقول بأن الحل الأبسط هو الأمثل والأكثر نجاعة، أي أن من الأفضل لنا سلوك سبيل البساطة عوض تعقيد الأمور.
فهل كان هذا الاختيار تعبيرًا عن رفض التعقد الذي تتسم به فلسفة دريدا التفكيكية، التي تجعلها مستغلقة أحيانًا على الفهم؟ يأتي اختيار بيير ألفيري لغيوم أوكام طريقة لمساءلة مصائر الفلسفة المعاصرة (ومن ضمنها فلسفة أبيه). فأوكام آخر الفلاسفة السكولائييين، كان في حاجة، في نظر ابن دريدا، إلى إعادة التأويل، للكشف عن مزايا هذا الفيلسوف المثير للجدل، وعن الجوانب الأكثر أهمية وحسمًا، والتي يمكن تلخيصها في أن مهمّة الفلسفة التي عليها القيام بها تتمثل في: التفكير في فرادة الأشياء، كل شيء على حدة، ووصف اشتغال اللغة انطلاقًا من مضمون التجربة. إنها فلسفة تجعل من توكيد فرادة الأشياء منطلقًا لعملية التفلسف. فمهمة التفلسف من ثم تكمن في الفرادة والتسلسل والمرجعية. هكذا منح بيير ألفيري لفيلسوف من العصر الوسيط وجهًا حداثيًا يتمثل في محسوسية الفلسفة من جهة، كما في قدرتها على البساطة وبلورة الفرادة انطلاقًا من هذه العلاقة الحسية بالتجربة، من جهة أخرى.

كان الأب جاك دريدا مصابًا بالميلانخوليا (Getty)


هل كان الفيلسوف الشاب ينزاح بهذا التصور الوجودي، البعيد عن اهتمامات أبيه، عن الفلسفة الألمانية، باتجاه تجريبية الفلسفة الإنكليزية؟ أو بالأحرى هل كان بذلك يعبر عن تجربته الوجودية والفكرية المتمثلة في الانحجاب وراء النشاط الثقافي اليومي؟ لقد مارس الرجل كتابة الشعر والسينما والتصوير الفوتوغرافي والرسم والموسيقى. وكان يجد ضالته بالأخص في التعامل والتعاون مع الموسيقيين والمسرحيين. وأنشأ بعض المجلات التي كانت تعبر عن تصورات جديدة في ممارسة الكتابة بجميع أشكالها. كتب عنه أحد المعجبين بكتاباته وتجربته الثقافية: "كان يحب الاشتغال مع الآخرين. ولم يكف عن البرهنة على أن ثمة دومًا مجالًا لكل من يرغب في التحرر من الأشياء الجاهزة. ومعه كان الهامش هو ما يتبلور ويتطور. فالاستقلال الذاتي ليس عزلة. وعلاقة الصداقة الطويلة التي ربطته بالشاعر والمترجم والمسرحي أوليفييه كاديو برهان على ذلك: فقد ربطا بين اسميهما كي يحفرا بشكل أعمق أعمالهما المشتركة، الشفافة والذكية والحسية، وإن المختلفة". إنه ليس المثقف المتخصص (جاك دريدا)، بل المثقف "الكلي" الذي ينغمس بكليته تلك وببلوريته المتعددة في حمأة الممارسة الثقافية العينية.
لم يحظ بيير دريدا (ولنسمه كذلك) بما حظي به أبوه من شهرة منذ بداياته. وأعماله، بالرغم من أن البعض يعتبرها ذات وقع هام في الأدب الفرنسي، إلا أنها لم تجعل منه أديبًا يضاهي فليب صولرس صديق أبيه. هل يعود ذلك إلى حبه للممارسة الثقافية باعتبارها جزءًا من سيولة الحياة؟ أم إلى أن أنماط الفعل الثقافي تغيرت بدءًا من التسعينيات، وتشذرت واتخذت لها مسالك جديدة؟ الحقيقة أن بعض روايات بيير دريدا، وخاصة رواية "سينمات العائلات" (1999) رواية ساحرة تستحق أن تجد لها مكانًا في الأدب الفرنسي المعاصر. كما أن روايته الأخيرة "خارج التراب" التي تستشرف التواصل في المستقبل، تسائل مصائر الكتابة. أما كتابه الشعري الأخير "سدائم متنوعة"، فيحاور صمت اللغة، ويعيد حقنها بالصمت، من خلال استعادة نفَس اللغة اليومي المدجج بالتردد والتأتأة والصمت.

عودة الاسم الضال
كان الأب جاك دريدا مصابًا بالميلانخوليا. وكان مسهلًا في الكتابة. فقد ترك أكثر من سبعين كتابًا، ما بين النصوص والمقالات والحوارات والمحاضرات، والكتابة عن الفن. أما بيير دريدا الابن، فإنه أقل إسهابًا، وأكثر ممارسة وحركية وتعددًا في المواهب. فقد مارس أغلب الفنون، أو جاورها. وكان أشبه بالسينمائي الذي يحتاج في إبداعه إلى السيناريست والمصور ومهندس الصوت... الكتابة لديه كانت تتنفس بالفنون الأخرى، وتتساكن في ذاته لتحوله إلى فاعل ثقافي متكامل ولولبي... فهو حين يكتب، يقاطع بين الشعر والحكي والرسم والصورة... وكأنه بذلك كان يروض في ذاته تلك الذوات الأخرى التي لم يرغب في أن تحجبها الفلسفة، عشقه الأول الذي هجره لارتياد مكنونات ذاته. هو ربما لم يرغب في أن تحجب عنه الفلسفة الشاعر والروائي والفنان الذي يختزنه في بواطنه؛ وربما لم يرغب في أن يعيش تحت ظل فلسفة أبيه التي بدت له كترسانة ضخمة لا يمكنه أن يصنع جناحيه إلا بالتحليق بعيدًا عنها.




توفي بيير ألفيري في منتصف أغسطس/ آب الماضي عن عمر الستين. وإذا كان قراؤه، في حياته، لم يلقوا بالًا لعلاقته بجاك دريدا، ولم يربطوا بينه وبين أمه المحللة النفسانية مرغريت أوكوتورييي، التي توفيت ثلاث سنوات قبله، فإن الاسم الذي غيبه الابن البكر للفيلسوف سوف يعود لملاحقته عند الإعلان على وفاته. هكذا ستكتب عدد من الصحف اسم أبيه مع الاسم الذي اختاره لنفسه، مستعيدة للابن الضال اسمه المنبوذ.
لم يخصص الأب جاك دريدا للصراع الفلسطيني الإسرائيلي مقالًا كاملًا. لكن موقفه ظل دومًا ثابتًا، ويعبر عنه بشكل موارب. فالمجازر يمكنها أن تحول مواقعها. وعلاقته باليهود كما بالفلسطينيين ظلت متوازنة. أما ابنه بيير فإنه قد عبر مرارًا عن مواقفه من إبادة الفلسطينيين وكافة المهمشين مناهضًا السلطة العسكرية والبوليسية. وقد كان في 2018 من الموقعين، إلى جانب الراحل جان لوك غودار، على عريضة تندد "بالعملية التي تجعل من الثقافة واجهة تخدم دولة إسرائيل وسياستها التي تغدو يومًا عن يوم أشدّ قسوة ضد الفلسطينيين". وهكذا لم يكن انزياح فكر الابن عن الأب فقط ثقافيًا، بل أضحى يطول أيضًا أمور الفعل السياسي...

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.