}

الحرب في غزة: كي لا يكون الموت عاديًا

رباب دبس رباب دبس 27 ديسمبر 2023
هنا/الآن الحرب في غزة: كي لا يكون الموت عاديًا
(غزة، Getty, 25/12/2023)

 

لا يبدو زمن الجماعات جاريًا على وتيرة واحدة، بل يتقطع مع الاحتفالات والأعياد والمناسبات والأحداث الكبرى، ولا سيّما الكوارث والحروب، فيبدأ تاريخ أو زمن آخر، ليس بعده كما قبله. أعظم فواجع الحروب قتل الناس، ونحن نشاهد بأم العين وعلى الشاشات استباحة دم أهالي غزة. بيد أن هذا الموت المعلن ليس عاديًا كما يبدو، وعنفه غير مسبوق.

تصف فيلسوفة السياسة، الأميركية اليهودية ذات الأصل الألماني، حنه أرندت، العنف بالمعضلة، حتى أن أي إدانة له، برأيها، لم تمنع من حصوله على مدى التاريخ، ورغم أن لا أحد يدعم العنف، إلا أنه يسود، وأي تبدل في أنماطه، سيكون تبدلًا في اتجاه عالم أكثر عنفًا.

أنواع العنف

منذ بدء عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/ تشرين الأول (2023)، لا يمر يوم ولا ساعة ولا دقيقة، إلا وترتكب بحق الفلسطينيين في غزة (والضفة الغربية أيضًا) جرائم قتل تطاول الأطفال والنساء والرجال والعجّز والصحافيين والمعوْقين والأطباء. وما يترسّخ مع استمرار هذه الحرب، أن ليس عدد القتلى هو ما يزداد يوميًا فحسب، بل إن فعل القتل نفسه يتنوع وتظهر مفاعيله على الضحايا، إذ يحيلهم أشلاءً وأوصالًا فاقدة المعالم، وهو ما يفعله جيش الإحتلال الإسرائيلي الذي قام مؤخرًا بجرف جثث قتلى ومصابين أحياء كانوا قد لجأوا إلى مستشفى كمال عدوان، على مرأى العالم كله.

في غزة يتوالد العنف، أنواعًا وطرائق، نراه في صور المدنيين والأطفال، ومع تكرار هذا العنف وتنوعه تظهر تدرجاته، عنف أقدم وعنف أحدث، عنف همجي وعنف أكثر همجية.  الفلسطينيون وحدهم من يقع عليهم هذا العنف، وحدهم يعيشون الفاجعة. أما العالم فهو شريك في مشاهدة هذا العنف من وراء الشاشات، حيث لم يعد هناك من محرّمات في هذه الحرب المعلنة على أهل غزة، بعد أن فشلت دول العالم في وضع حدّ للجرائم التي يرتكبها جيش الإحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطينيين.

ثمة دعوات كثيرة حذرت من خطورة عادية مشهد الموت والمجازر، وإن كانت كل من هذه الدعوات تختلف من حيث توجهاتها، إلا أنها في عمقها تحمل بعدًا إنسانيًا، عبر عن نفسه في مظاهرات الشعوب الغربية والعربية الداعية لوقف العدوان على الشعب الفلسطيني.

لا تعتد المشهد

حذرت منظمات عالمية للصحة النفسية من الانعكاسات الخطرة التي تسببها مشاهد القتل المتكررة على اليافعين والأطفال والبالغين، فيما أطلقت مجموعة من الناشطين تغريدة على وسائل التواصل الإجتماعي تحت عنوان: "لا تعتد المشهد"، حثت فيها المتابعين على نشر صور المجازر التي يرتكبها الاحتلال على أوسع نطاق. إحدى الناشطات، "نسيبة"، كتبت على صفحتها "لا تعتد المشهد"، ونشرت رسمة أظهرت فيها تراجع التفاعل مع الأخبار المفجعة، مع مرور الوقت.

الناشط "خليل" من غزة ناشد على صفحته: "أوعوا تتعودوا على صور أشلائنا وريحة دمنا. أوعوا تتعودوا على صور بيوتنا المهدمة، أوعوا تكملوا حياتكم طبيعي وإحنا أهلكم بننباد! ضلوا انشروا، ضلوا إحكوا، ضلوا افضحوا ما بدنا نكون أرقام بتمر عليكم ولا مواقف عابرة بتنسوها. غزة فيها كثير أشيا لسا، لو سكتوا مش هيضل ولا إشي".

الشاعر ناصر رياح من غزة نشر في موقع "رصيف": "نحن في غزة مصابون بهستيريا/ الشهادة، فلم يعد لدينا شيء نقدمه لحياتنا البائسة سوى الموت، لذا نذهب إليه باحتفالية كبيرة/ وبضجة مبالغ فيها/ لقد اعتادت الحرب علينا واعتدنا عليها".

مناشدات الفلسطينيين الآنفة، لم توقف مشهد الموت الذي بات يتكرر، كل لحظة وكل ساعة وكل يوم، ليضعنا أمام تساؤل حول إذا ما كان الموت، لشدة تكراره، قد اكتسب عاديته في حياة الغزيين، فيما فطر البشر منذ الولادة، على أن الموت فاجعة للإنسان.

هكذا هو الموت في غزة، جمعي أكثر مما هو فردي. تقول سيدة من غزة: "ننام مع بعضنا البعض حتى نموت كلنا مع بعضنا البعض" (Getty, 25/12/2023)


حكايات من أرض غزة

التعامل مع الموت في غزة استثنائي، كما هي حربها، وقد شاهد العالم كله على شاشات التلفزة، كيف تلقى مراسل قناة "الجزيرة" القطرية، وائل الدحدوح، خبر استشهاد زوجته وعدد من أولاده على الهواء مباشرة. بدوره فقد الصحافي مؤمن الشرافي والده وعشرين فردًا من عائلته، والصحافي محمد العالول فقد أبناءه الأربعة. امرأة فقدت زوجها وأبناءها، ورجل فقد زوجته وأولاده، وثلاثة من أخوته، وأصهرته، وستة من أبناء عمه. شاب حكى كيف أعدم الجيش الإسرائيلي أشقاءه أمام عينيه. أيضًا هناك سيدة قالت إنها شاهدت إعدام ابنها وزوجها وصهرها وعدد من جيرانها، وثمة من يبحث عن عائلة طفل يقف وحيدًا في أروقة المستشفى، وناجيان وحيدان من عائلة كبيرة.

تابع وائل الدحدوح، كما تابع زملاؤه، عملهم كمراسلين صحافيين. فيما تحدث المفجوعون عن أولادهم، ذكروا أسماءهم وأعمارهم وأعياد ميلادهم، كما حكوا أيضًا عن شكل موتهم.

هؤلاء هم الفلسطينيون، الذين أصبحوا لا يملكون تعبيرًا آخرًا للحزن على موتاهم. تخبرنا حكاياتهم الكثيرة عن أسر أبيدت بأكملها، أثناء هروبها على الطرقات، فبقيت الجثث في المكان حيث القصف، حيث لا وسائل نقل ولا إسعاف. كثر لقوا حتفهم على باب المستشفيات، وفي مدارس الإيواء، وفي الخيم التي نزحوا إليها، تلبية لنداءات جيش الإحتلال بالإخلاء فتم قصفها أيضًا.


فرادى وجماعات

في هذه الحال، نحن أمام شكل جديد للموت فرض على الفلسطينيين، حيث للكل نصيب منه، وما يعزيهم أنهم يموتون جماعات أكثر منهم فرادى، وهم في هذا الموت اليومي يتشابهون في فضاء، الكل فيه يشبه الكل، الناجون منهم يدفنون قتلاهم، ثم يستمرون في حياة ليست أقل من الموت بكثير.

هكذا هو الموت في غزة، جمعي أكثر مما هو فردي. تقول سيدة من غزة: "ننام مع بعضنا البعض حتى نموت كلنا مع بعضنا البعض"...

لا عادية للموت في غزة، الا أن الفلسطينيين لا يملكون، في هذه الحرب الشرسة التي غطت كل شبر من القطاع، ترف إقامة مراسم الجنازات على ضحاياهم، ولا ترف وداعهم كما هي الأعراف والتقاليد، ولا حتى ترف دفنهم. كتب أحد الناشطين على صفحته: "سحقتنا الحرب دون رحمة، حتى أصبحت بديهيات الحياة الطبيعية في عداد الرفاهيات، بالنسبة لنا. الرجال في الحرب يبكون، فقد توقفوا عن تصنع القوة والخشونة، فلا بيوت للعزاء في الحرب ليجلسوا فيها في الصفوف الأولى لاستقبال الناس. أهل غزة جميعًا يمارسون حقهم في الانهيار وهم ينحتون الصبر في آن واحد". هكذا هم الناجون من المجازر المستمرة، يعيشون حياة أقل من الموت بقليل ربما.

حياة أقل من الموت بقليل

يفقد الغزيون حياتهم كل يوم، وهم في هذا الفقد يصنعون في كل لحظة من اللاشيء حياة. ورغم أن مصابهم من الأحزان مفجع وكبير، كما هو الموت، فهم يجدون وسائل لصمودهم الذي يبدو نادرًا. يخترعونه للبقاء، مع من نجا من أولادهم، خارج منازلهم التي دمرها الاحتلال. أمام مستشفى الشفاء وضعت امرأة قدرا كبيرا لطهي الطعام، أشعلت النار تحته. ليس هناك من حطب سوى بعض الأوراق المتناثرة ونتف من الخشب التي جمعها الأطفال من الجوار. رجل صنع من قصاصات قماش غطاء لطفلته يقيها من البرد. امرأة خلعت عباءتها، لتلفها حول أطفالها الأربعة. أطفال يثبتون أطراف الخيمة التي يجلسون تحتها بما تيسر من أحجار، امرأة سبعينية تخيط خيمتها. ما بقي من غالونات بلاستيكية يستخدمه النازحون لتوزيع الحساء، علب من التنك حولها الغزيون الى صاج ومواقد يخبزون عليه ما توفر لهم من عجين.

ها هم الغزيون اليوم، في ظل حرب كهذه، لا يملكون ترف الحزن على قتلاهم، ولا ترف إقامة الجنازات، والحداد. بل يؤجلون حزنهم وفجيعتهم الى زمن آخر، زمن تنتهي فيه الحرب. ونحن نرى ما بدا لنا أنه عادية موت. نرى شظف عيش الناجين كشكل نادر من الصمود، كإحدى الأساطير التي نسجتها شعوب في غير زمن، وما الغزيون اليوم أقل منها، فلنسمهم شعب الجبارين.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.