}

رحيل ابتسام عبدالله: جمعت بين الكتابة ووعي هموم المجتمع

علي لفتة سعيد 10 مارس 2023
كانت تطلّ من على شاشة القناة العراقية التي أُطلق عليها الأولى والثانية، أو السابعة والتاسعة، بصوتٍ رخيم هادئ يشبه خرير ماء يهبط من شلالٍ بطيء كأنه روحٌ عازفة. صوتها معزوفة وهي تقدّم برنامجين مهمّين هما (نافذة على العالم)، والأشهر (سيرة وذكريات)، الذي أصبح أيقونة مثل برنامجي (الرياضة في أسبوع)، و(العلم للجميع). إنها ابتسام عبد الله، أشهر إعلامية وروائية عراقية رائدة، بل ومترجمة، وهي زوجة الصحافي العراقي المعروف أمير الحلو، وأم الفنانة ومدير متحف الإعلام العراقي، مينا أمير الحلو. رحلت ابتسام عبد الله عن الدنيا بصمتٍ كبير، كما رحل مبدعون آخرون من العراق.
ولدت ابتسام عبد الله الدباغ عام 1943 في كركوك. انتقل أهلها إلى بغداد في طفولتها. أكملت دراستها في معهد المدرسين العالي في قسم اللغة الإنكليزية، وتخرجت فيه عام 1964. نشرت أربع روايات: "فجر نهار وحشي"، و"ممر إلى الليل"، و"مطر أسود... مطر أحمر"، و"ميسوبوتاميا"، ومجموعة قصصية حملت عنوان "بخور". عملت محرّرة في مجلة "ألف باء"، ورئيسة تحرير مجلة "الثقافة الأجنبية"، التي توقَّفت عن الصدور في أعقاب الغزو الأميركي للعراق عام 2003. ترجمت أعمالًا إلى اللغة العربية، منها رواية جي. إم. كويتزي الحائزة على جوائز عدة: "في انتظار البرابرة"، كما ترجمت "مذكرات ميكيس ثيودوراكيس"، و"أنجيلا ديفيس". شغلت مناصب عديدة، منها مسؤولية قسم المتابعة في المؤسسة العامة للصحافة، ورئيسة قسم الأخبار والترجمة في التلفزيون العراقي، ومحرّرة ومترجمة في جريدة "الجمهورية".
قال عنها الصحافي والمعلّق الرياضي المعروف، مؤيد البدري، إنها "تتّسم بالذكاء والرقّة وحسن التعامل مع الجميع، فلم تكدّر أحدًا طوال عملها في التلفزيون، بل على العكس من ذلك كانت تمد يد العون للجميع، ولذلك نالت احترامهم وتقديرهم. كما كانت دائمة الابتسام".


سيرة عطرة
يتحدث عنها الفنان العراقي، عزيز خيون، فيقول إنها تمنح المتلقّي الطمأنينة والأمان، من خلال حضورها الإعلامي والثقافي، ونبرة صوتها، وابتسامتها الدائمة، والهدوء الذي يُوشِّحُ وجهها، والكاريزما التي حباها الله. ويضيف أنها رحلت، لكنها تركت خلفها سيرةً عطرة من الطيبة والنُبل والوفاء والتسامح والاهتمام بالثقافة الكونية، مشيرًا إلى أنها من نموذج المُتميزات النوادر بين النساء العراقيات، وعيًا ومشروعًا ثقافيًّا، وحركةً دؤوبةً.




إنها شخصية عراقية على درجةٍ عالية من التهذيب والكياسة. وذكر أن وفاة زوج الراحلة ورفيقها في الحياة والعمل، أمير الحلو، وما أصاب الوطن من دمارٍ، قلب أحوال بعض الناس حدّ التشوّه، من اختلال المعايير والقيم، وتسيّد الهامشي، وتنحية المُميّز، كل هذا أحزن قلبها، وأربكَ معنى حياتها، لذلك اعتكفت مُبكرةً في منزلها لا تُغادره. كان يَعزُّ عليها أن ترى بغدادها تُشَنُّ على مرائيها الجميلة حملات التدمير والإهمال والتشوية. هذا أتعبها، وحمّل قلبها حزنًا على حُزن.


تعدّد الأنشطة
الكاتب والصحافي علي حسين يقول إن الراحلة تمثّل نمطًا متميّزًا في الثقافة العراقية، فهي قاصّة وروائية وإعلامية ومترجمة قديرة، ومقدّمة برامج ستبقى في ذاكرة العراقيين. وأضاف أنها كانت من طراز فريد من المبدعين الذين تتعدّد مواهبهم وتتنوّع اهتماماتهم. وعن بداياتها، يقول حسين إنها بدأت بنشر أوّل أعمالها الأدبية منتصف الثمانينيات، ثم تتابعت لتشمل الرواية والقصّة القصيرة والترجمة، والاهتمام بالسينما، والفن التشكيلي، والموسيقى، مشيرًا إلى أن التعدّد في أنشطتها هو أوّل ما يلفت انتباه المتابعين لها، فإلى جانب التوقّد في الإبداع القصصي، والممارسة البارعة في مجال الترجمة، هنالك التحرّك المبدع الذي تنقلنا معها فيه من مجال إلى مجال، من نقدٍ فني، إلى ترجمة تحفة أدبية، ومن الشغف بتاريخ الفنون إلى الشغف بالحكايات. ويرى أنها كانت تسعى من خلال كلّ هذه المجالات إلى امتلاك مفاتيح الكتابة وأدواتها وأساليبها والتعريف بها، وهو التعدّد الذي يميّز النماذج الفريدة من مبدعات العراق، اللاتي جمعن إلى الكتابة والوعي بهموم المجتمع، التعرّف على أسرار الإبداع.

ابتسام عبدالله مع زوجها الصحافي الراحل أمير الحلو


فيما يقول الناقد السينمائي والصحافي علاء المفرجي: "كنت أحرص أن أقرأ ترجماتها في الصحف، وأنا ما زلت طالبًا في الإعدادية، وأتابع الحوارات الجميلة التي كانت تخوضها في تلفزيون العراق مع جمهرة من الرموز العراقية والأدبية، التي أصبحت ذخرًا وثائقيًا يعتدّ به". ويضيف المفرجي أنها كانت غالبًا ما تثير جدلًا واسعًا في أوساط المثقّفين العراقيين. ويشير إلى أن المصادفة كانت "حين زاملتها في القسم الثقافي في جريدة المدى، عندما تولّت رئاسة قسم الترجمة فيه، حيث جمعتنا صداقة جميلة، وكنا نتبادل الأفكار... إنها أيقونة إعلامية وثقافية في المشهد الثقافي العراقي، حيث تركت بصمات في الإعلام والثقافة في العراق لا يمكن بأيّ حالٍ تجاهلها... ولعلّ تجربتها كرئيسة تحرير لمجلة (الثقافة الأجنبية) كانت من التجارب المتميّزة في الصحافة والثقافة العراقية". ويعبر عن أسفه لرحيلها بقوله: "فقدت الثقافة والإعلام في العراق رمزًا مشعًّا ليس من السهولة أن يتكرّر".
الصحافي والشاعر صباح محسن قال، من جهته، إن الراحلة كانت أوّل امرأة عراقية تحوز على اهتمام الناس عبر تقديمها برنامجًا حواريًا مع شخصياتٍ ورموزٍ فكريةٍ وثقافيةٍ وفنيةٍ في برنامجها اللامع (سيرة وذكريات)... ويضيف أن من أبرز من التقت بهم المفكر والباحث الاجتماعي الدكتور علي الوردي، مشيدًا بحضورها، وصوتها الدافئ، ونبرة صوتها، التي كان لها تأثير على المتلقّي. ويشير محسن إلى أنه زامل الراحلة في صحيفة "الجمهورية"، التي كانت مميّزة ومقتدرة في عملها وكتاباتها، بإشرافها على الصفحة الأخيرة فيها. هذا بالإضافة إلى ترجمات عدّة في الآداب والفنون، فهي من النساء العراقيات المتقدّمات في فنّ كتابة القصّة، وأيضًا لها أكثر من رواية، مبينًا أنها نموذج للمرأة المدنية والتنويرية، وهذا ما كان منها عبر مسيرتها الطويلة في الإعلام والصحافة والأدب.
الصحافية المعروفة نرمين المفتي، زميلة الراحلة، تقول "كنت أناديها (بسمة). إنها مبدعة لا تتكرّر، خاصة في مجال التلفزيون والترجمة، وإن كانت رواياتها ومقالاتها لا تقل إبداعًا". وتشير المفتي إلى أن الراحلة تعاملت مع الدنيا بصوتٍ أقرب إلى الهمس، وبابتسامة هادئة، وبقلبٍ كبير... كانت في زمن ما شاغلة الدنيا، بقصّة شعرها، وسمرتها وحلاوتها. كنت أعرفها حتى قبل أن ألتقيها، فحين اشترينا تلفزيونا، وكان البثّ بالكاد يصل إلى كركوك، قبيل افتتاح محطّة تلفزيون كركوك، ووضع برج إرسال فيها، كان أوّل برنامج شاهدته برنامجها، وكان عن المرأة. تضيف المفتي: حدّثتني أمّي بأنها وابتسام عبد الله، التركمانية ابنة كركوك، كانتا معًا في المدرسة الابتدائية نفسها... لهذا السبب، أصبحتا صديقتين منذ أوّل لقاء في بداية عملي الصحافي، حين كانت نجمة كبيرة، وصاحبة أهم برنامج توثيقي للشخصيات، وهو (سيرة وذكريات)، الذي لن يصل إلى مستواه أيّ برنامج مشابه آخر، كما لم يتمكّن أي معدّ ومقدّم من تقديم برنامج مثل برنامجها القصير، الذي كانت تعدّه من الحقيبة الإخبارية، وتعلّق على المشاهد، وكان اسمه (10 دقائق)... تنهي المفتي شهادتها بالقول "إنها أيقونة الأدب والإعلام، وواحدة من أكثر مقدّمات البرامج جاذبيةً وثقةً لدى المشاهد".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.