}

عن النزوح والموت السوري البطيء: مشقة الأخوة

رباب دبس رباب دبس 25 مايو 2023
هنا/الآن عن النزوح والموت السوري البطيء: مشقة الأخوة
عمل للفنان السوري نزار علي بدر
يخبرنا التاريخ عن وجوهه الملطخة بدماء الشعوب، وقهرها وتشردها، ومن بينها الحرب السورية التي أدت إلى نزوح آلاف مؤلفة من السوريين إلى بلدان مختلفة من العالم، ومن بينها لبنان. حيث عاش النازحون في ظروف صحية ومعيشية مزرية، ووفقًا لدراسة أعدها معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت، اعتبرت أزمة النزوح السوري أكبر مأساة إنسانية، وأضخم أزمة نزوح في التاريخ الحديث منذ الحرب العالمية الثانية.
انطبعت أخبار النزوح السوري المأساوية في الفضاء الاجتماعي والإعلامي العالمي. وقد هزت صورة الفتى "إيلان"، الذي لفظه البحر إثر غرق الباخرة التي كانت تقله مع أهله، العالم وأصبحت بمثابة أيقونة تجسد عذاب النازحين السوريين، التي وثقت بدورها كسرديات وقصص وروايات عن القهر والموت والتشرد الذي يعيشه هذا الشعب.

شهادات النزوح: حق الناجين من الحرب
لم تعد مشاهد وأخبار الحرب بين المتقاتلين في سورية منذ اندلاع الثورة في العام 2011 تقتصر على ما بثته وسائل الإعلام المرئية والمسموعة. بل إن الآلاف المؤلفة، التي نزحت إلى بلاد الله الواسعة، حملت في ذاكرتها ووجدانها فظائع تلك الحروب. إذا ما تساءلنا اليوم عما إذا كانت تلك القصص التي رواها الناجون السوريون من الحروب جسّدت ما عانوه من وحشية إبان الحرب العبثية التي حلت في بلادهم، تبرز أمامنا إشكالية هذا الماضي بكثافة أحداثه، وما الناجون الذين خبروا الفظائع سوى ضحايا أحداث ذلك الماضي الذين لم يعودوا كما كانوا قبله.
"لقد باتوا حقيقة من لحم ودم" بعدما كانوا يظهرون في "فيديوهات مسرّبة تبثها وسائل الإعلام، أو أصواتًا في مكالمات هاتفية مع الفضائيات"، هذا ما تذكره الأديبة اللبنانية جميلة حسين في مقدمة كتابها "في انتظار ربيع آخر"، الصادر عن دار النهضة 2019، والذي جمعت فيه قصص النازحين السوريين الذين قابلتهم وسمعتهم عن قرب في أماكن مختلفة من لبنان. قصص تعتبرها حسين جديرة بالكتابة والتسجيل، بل إنها "حق" للناجين من الحرب كي يتمكنوا عبرها من البوح بمآسيهم، فصوتهم هو صوت "الضحية" التي يجب على العالم بأسره أن يسمعها. أولم يغص عالمنا اليوم بالضحايا الذين لم يكن لهم يومًا صوت؟!
تشكل قصص السوريين في كتاب حسين سلسلة من حيث مراحلها الزمنية، ومعظمها يبدأ بالحرب ثم الهروب منها، والنزوح إلى بلدان أخرى، وخوض حروب جديدة من نوع آخر. قصص تعكس همجية الحرب في عالم يخلو من الرحمة، بل إنها أحداث لا توصف إلا بأنها الملحمة التي تعد الأكثر وحشية في القرن العشرين. ما الحكايات التي وثقتها حسين في كتابها، عن تلك الوحشية، سوى "قصص منتقاة من بين آلاف القصص والحكايات"، تتناول أوضاع السوريين في لبنان، فالكثير منها بقي أسير الذاكرة، ومنها ما ذهب مع من رحلوا عن هذه الدنيا.

ذاكرة ممهورة بالدم
تحوّل فظاعة الأحداث الشاهدين عليها، إلى بشر أشبه بمجانين تائهين. إذ أن هول المجازر التي ارتكبها تنظيم الدولة الاسلامية "داعش" ما زال ماثلًا في ذاكرة الكثير منهم: رزان، حسام، أيمن، خالد، رامي، حليمة.  قصة كل من المذكورين، ليست أقل من اغتصاب، قتل، تشويه جثث، حرق، ذبح.
ها هي "حليمة" تروي كرهها للروائح، التي تذكّرها برائحة الجنود الذين تناوبوا على اغتصابها أمام والدها وأخيها، ثم قاموا بقتلهما، وقد تركوا والدتها تشهد على فعلتهم. حليمة التي تاهت في دروب القرى هربًا من القصف والدمار، فقدت شقيقتها ذات السبع سنوات في الطريق. تلك الطفلة التي كانت تتسلل كل ليلة إلى سريرها، لتنام في حضنها "عائلات بأكملها أبيدت من دون أن يعرف بها أحد".
"لعلها من أصعب اللحظات في الحياة، أن يموت أقرب الناس إليك، دون أن تجد وقتًا للحزن عليه"، هذا الوصف، الذي يبدو لشدة حقيقته سورياليًا، هو واقع العديد من القصص التي رواها أصحابها: "أب يحاول العثور على ابنه"، "زوجة تقتفي أثر زوجها الذي اختفى فجأة"، "الكل يبحث عن الكل"، "أنين بشر يلفظون أنفاسهم الأخيرة" أحدهم وجد نفسه واقفًا أمام جثة أمه وابنه يعترف "لم أملك ترف البكاء عليهما". امرأة تحتضن جثة ابنها وتصرخ "مات ابني الوحيد"، "حياة بكاملها جرى محوها"، قسوة ما بعدها قسوة، وموت ما بعده موت، وهمجية لا مثيل لها.

ينهي السوريون معظم قصصهم، في كتاب جميلة حسين، بما يكنونه من شوق إلى قراهم وأهلهم... يتضرعون أيضًا إلى الرب لينهي معاناتهم


نحن على قيد الحياة.. وهذه أسماؤنا
لم تكن الأحداث التي وقعت في الطرقات، في أثناء هروب النازحين، أقل خطرًا من الحرب نفسها التي كانت تدور في القرى. لا ينسى "أيمن" الفتحة الضيقة التي كانت الملاذ الوحيد، الذي عليه أن يقصده هو وأبناء بلدته. تحول هذا الملاذ، كما يصفه إلى "مطهر يفرزنا بين ناجين وقتلى". كان على كل واحد من الهاربين أن يصرخ باسمه حتى يتأكد رفاقه أنه على قيد الحياة. طريقة يقول عنها أيمن أنها كانت "تساعدنا على تثبيت وجودنا"، "الجثث المنتشرة حولنا خسرت أسماءها، وهذا ما يميزنا عنها".
تحكي بدرية بدورها، عن شقيقيها اللذين قتلا في المعارك بعد التحاقهما بالجيش الحر، كما قتل زوج أختها وعائلة عمها، "كان أفراد عائلتي ينقصون كل يوم، الحرب ابتلعت أكثرنا، ومن بقي منا صار نهشًا للخوف والتهجير".
قصص طريق الهروب، التي وثقتها حسين لا تحصى، فظائع وقتلى وروائح لحم بشري تنتشر في كل مكان. يتمنى أيمن أن تتعطل لديه حاسة الشم بعد أن استوطنتها "رائحة الأجساد المشوية".
خديجة، التي شاهدت في طريق الهروب "جثث الرجال في كل مكان"، أخذت تتفقد أطفالها الخمسة. تنادي كلًا منهم باسمه حتى تتأكد من أنهم سالمون، كلهم ما عدا محمد ذو العشر سنوات الذي لم يرد عليها، "مات محمد في حضن خديجة" وهو ينزف بعد إصابته.


اللامكان خارطة لقبور الأحباء القتلى
شكلت الأماكن التي دفن السوريون فيها أبناء لهم سقطوا إبان هروبهم من قراهم، خارطة جديدة، عليهم أن يحفظوا أسماءها ودروبها وطرقاتها كي يعودوا إليها، و"يؤنسوا من هم تحت ترابها". أي مأساة حلت على عائلة حليمة، التي أصبح لعائلتها، كما تقول: "مدفنان، واحد لأبي في مسقط رأسنا، وآخر لأخي في مكان النزوح". يصف فريد ما شاهده على الطرقات إبان هروبه: "جثث لم تجد من يدفنها، شاهدناها ونحن نعبر إلى قرية قريبة". أحمد بدوره دفن والدته وإبنه في قبر واحد، حفره في أحد الأحراش، بعد أن قام بتنظيف جثتيهما موقنًا أن هذا القبر "قد يكون الأحب إلى قلبيهما"، "جيد أن أدفنهما في مكان يحبانه"، ثم وضع حجرًا كشاهد على القبر.

مقابل خطاب الكراهية الذي تعرّض له السوريون، ارتفعت أصوات تدين الاتهامات ذات الطابع العنصري التي طاولتهم، وقد رفضت هذه الأصوات تحميل النازحين كل أزمات البلد

النزوح حرب أخرى
لم تنته عذابات السوريين بهروبهم من جحيم القصف الذي كان يلاحقهم أينما هربوا في بلادهم. تنضح القصص التي نقلتها حسين بالمعاناة الكبيرة التي كابدها النازحون. تبتدئ هذه بتأمين الأوراق الثبوتية، فصعوبة إيجاد منزل وعمل يؤمن حدًا أدنى من المعيشة لكل عائلة وفرد. إذ وقعت الغالبية العظمى منهم في براثن العوز والفقر المدقع والتشتت العائلي والرضوخ لشتى أنواع الاستغلال.
تحكي رزان في شهادتها عن رب العمل الذي كان يستغلها جنسيًا، وقد هددها بالطرد إذا ما قاومته، أو رفضت طلبه. لاحقًا انخرطت رزان في عالم الدعارة. سعاد، هي الأخرى، وقعت ضحية شبكة تتاجر بالأطفال، دفعتها لأن تحمل مقابل عشرة آلاف دولار أميركي شرط أن تتخلى عن طفلها فور ولادته. النهايات المأساوية تتكرر في معظم قصص السوريات. رزان ساءت حالتها النفسية وأصبحت تعيش على المهدئات. أما سعاد فقد ماتت جراء إصابتها بمرض، يقول الجيران إنهم لم يعرفوا طبيعته، ويتكهنون أنها كانت تنزف، ولم تجد دواء أو أجرة طبيب.
ينهي السوريون معظم قصصهم، في كتاب حسين، بما يكنونه من شوق إلى قراهم، أهلهم، أصدقائهم، أقاربهم، أشجار حدائقهم، حيواناتهم الأليفة. يتضرعون أيضًا إلى الرب لينهي معاناتهم: "الله كبير تخلص الحرب ونرجع ع بلادنا. النزوح بهدلة وقهر وجوع"، تختم بدرية شهادتها.

خطاب العنصرية
وكأنه كتب على السوريين أن يعيشوا المأساة أينما حلوا، فلم تكفهم وحشية الحرب والقتل والدمار في بلدهم، وقد عانوا في نزوحهم إلى لبنان فقرًا وعوزًا، وسكن معظمهم في خيم، تفتقر إلى أدنى مقومات العيش في بيئة مناخية صعبة.
واجه السوريون تبعات احتقان الشارع اللبناني تجاه وجودهم. انبرت أطراف تطالب بترحيلهم، وقد تضمن مطلبها خطابًا عنصريًا وتهجميًا أحال أسباب التدهور الاقتصادي، الذي يعاني منه لبنان منذ سنوات طويلة والتفلت الأمني، إليهم. أما اللغط الكبير والتخوف، فكانا من الخلل الديموغرافي، الذي يتسبب عن عددهم، والذي من شأنه، وفقًا للأطراف، أن يهدد التوازن الطائفي. رغم أن بعض الديموغرافيين دحضوا، عبر دراساتهم ما يشاع عن هذه الزيادات، واعتبروها مضخمة.


صحافيون وروائيون في مواجهة خطاب الكراهية
مقابل خطاب الكراهية الذي تعرّض له السوريون، ارتفعت أصوات تدين الاتهامات ذات الطابع العنصري التي طاولتهم، وقد رفضت هذه الأصوات تحميل النازحين كل أزمات البلد، وهم الذين يعانون القهر والظلم والتشرد. من بينها روائيون وشعراء وكتاب وصحافيون. فقد نشر الروائي الياس خوري على صفحته: "أنا لاجئ سوري… علينا أن نصير سوريين تمامًا كما صرنا فلسطينيين في دير ياسين وشاتيلا وحوارة ونابلس وجنين… وكما صرنا سيريلانكيين وملونين في زمن البحبوحة والبطر…عندما استبيحت الحرمات وجرى التعامل مع العاملات المنزليات بصفتهن سلعة تباع وتشترى". فيما وجهت علياء جريج، على صفحتها، تحية إلى العمال السوريين، الذين كما ذكرت: "عمّروا بيوتنا، وينكشون أرضنا، ويزرعون سهولنا وأديرتنا، ويحرسون بناياتنا، ويشغلون مصانعنا... وعليهم تقوم شركاتنا".
حملة التضامن مع النازحين السوريين، شملت مواقع وصحفًا إلكترونية ومن بينها "ميغافون"، و"العربي الجديد" التي سلطت الضوء على أوضاعهم، وصعوبة سكنهم، وما يعانيه معظمهم من تأمين أوراق ثبوتية، أصبح تحصيلها مستحيلًا بعد أن تهدم معظم منازلهم.
وردًا على ما يشاع عن أن السوريين يتقاضون أموالًا بالعملات الأجنبية من جهات دولية متعددة، أوضح موقع "الساحة" الإلكتروني، استنادًا إلى بيان مستمد من مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، عن أن ما تحصل عليه العائلة السورية المقيمة في لبنان، لا يتعدى المليوني وخمسمائة ألف ليرة لكل سوري أو سورية. فيما نشر موقع "رصيف"، بيانًا جاء فيه: "رفقًا باللاجئين واللاجئات السوريين/ات فهم لم يتولوا قيادة الدولة اللبنانية لمدة 30 سنة، وليسوا هم الذين خربوا البلد".


"النار بالنار": الحب والحرب
عكس التوتر بين فئة من اللبنانيين والنازحين السوريين، أثره على الساحة الفنية الدرامية، فكان مسلسل "النار بالنار" الذي عرضته قناة ال. بي. سي. في شهر رمضان الماضي، وقد استقطب نسبة مشاهدة كبيرة، واستعرض موضوعه ما يكنه كل من السوريين واللبنانيين تجاه بعضهم بعضًا، ابتداء من خطاب الكراهية، والاستعلاء، والتنمر، ومعظمها يعكس التصورات التي بناها كل من الطرفين، والأسباب التي ولدت مشاعر العداوة بينهما، ومنها ما يعود إلى الحرب الأهلية، وقضية المخطوفين اللبنانيين في السجون السورية.
رغم الطابع العنفي الذي اتخذه المسلسل، إلا أن الحب ينتصر أخيرًا متغلبًا على كل ما عداه من حقد وكراهية وتعصب. هذا الحب الذي جمع بين من كانوا ألد الأعداء، عزيز اللبناني الذي يجهل مصير والده المخطوف، وكاريس بشار السورية الهاربة من جحيم الحرب الدائرة في بلدها. حب ذلل الحواجز الطبقية والاجتماعية وكسر النظرة النمطية التي يحتفظ فيها كل من الطرفين عن الآخر.
الحب ينتصر لم لا! ألا يكفي اللبنانيون والسوريون الحروب العبثية والهمجية التي كانوا ضحايا لها طوال سنين عديدة، وقد دمرت بلادهم وقتلت أهلهم وشردت شعوبهم، فليكن الحب في "النار بالنار" درسًا لنا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.