}

في رحيل حسين نازك: فنان الشعب الفلسطيني

راسم المدهون 27 مايو 2023
هنا/الآن في رحيل حسين نازك: فنان الشعب الفلسطيني
حسين نازك (1942 ـ 2023)
حياة حسين نازك، الذي رحل عن هذه الدنيا الأسبوع الحاليّ، لا تنفصل عن الموسيقى التي شغلته، وكانت تعبيره الحر عن تفاصيل التراجيديا الفادحة التي حلت بوطنه وأهله. حسين نازك الذي ولد في القدس عام 1942 جمع فنه فطرة التراث الشعبي لوطنه فلسطين، ولبلاد الشام، ومهاراته الكبرى في التوزيع الأوركسترالي على نحو تعبيري فيه كثير من عناصر الإبهار والتعبير السلس والمتدفق، والذي حققه في كل ما قدمه "المسرح الوطني الفلسطيني" من مسرحيات، من دون أن ننسى بالطبع أعماله لفرقة "زنوبيا"، التي أشرف على تأسيسها لوزارة الثقافة السورية، وبالتأكيد قيادته فرقته الشهيرة الناجحة "فرقة العاشقين"، التي قدمت كثيرًا من الأغاني الوطنية الفلسطينية العابقة بالفولكلور الفلسطيني ، خصوصًا الأغاني التي كتبها الشاعر الراحل أحمد دحبور.
حياته هي الموسيقى، منذ تتلمذه في بداياته الأولى على يدي الموسيقار المعروف يوسف خاشو. انحاز إلى إبداع موسيقى تمزج التراث بالحداثة وفنون الموسيقى العالمية، وهي ميزة رأيناها تتحقق في صورة إبداعية جميلة بجمل موسيقية بالغة البساطة، ولكن بالغة الجمالية والتعبيرية، كما في أغنيات "عود اللوز الأخضر"، أو "يا ديرتي حمَلو"، ثم في لحنه الآخر "أبو ابراهيم"، وهي الأغنيات التي قدمها الراحل لمسلسل "عز الدين القسام". هذه "النكهة" الموسيقية العذبة والحارة سنعثر عليها في صور أكثر سخونة وحدّة في أغنيته التي انتشرت بشكل واسع وعاصف بعد اجتياح لبنان عام 1982 "اشهد يا عالم علينا وعا بيروت".
حسين نازك في أغنياته تلك يبدو كمن "لا يؤلف"، إذ هو يقدم للمستمع ألحانًا يشعر أنه يعرفها وتعرفه، فيألفها ويعود إليها ويكتشف كل مرة أنها تقترب من روحه أكثر بما تحمله من بساطة تعبيرية عميقة. نتحدث عن هذا ولا ننسى لحن الشارة الرئيسية لمسلسل الأطفال الشهير "افتح يا سمسم"، وما فيه من قوة غناء الأطفال على ذلك النحو الأشد براءة، والمضمخ بروح التفاؤل والأمل.




تولى حسين نازك مهمة جمع وإحياء وإعادة تأهيل الفلكلور الفلسطيني المكتوب والمسموع والمرئي لصالح المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، وقام في الوقت نفسه بوضع موسيقى مسلسلات تلفزيونية عديدة، وأيضًا بوضع موسيقى أربع دورات رياضية كبرى في سورية، وموسيقى عشرين مسرحية قدمها "المسرح القومي" السوري، و"المسرح الوطني الفلسطيني". أما على الساحة الدولية فكان نازك عضوًا في "المكتب التنفيذي للمجمع الموسيقي العربي"، وعضو "الجمعية الأميركية للمؤلفين والملحنين". حصل على جوائز عديدة، منها الجائزة الأولى لأفضل توزيع أوركسترالي لنشيد (بلاد العرب أوطاني)، وجائزة أفضل استخدام موسيقي للتراث العربي من "مهرجان قرطاج السينمائي" (1980)، وجائزتين ذهبيتين من اليابان لأفضل عرض موسيقي ياباني من موسيقي غير ياباني، وأيضًا "شخصية العام" في عام 2023 من وزارة الثقافة في فلسطين.
في تجربة حسين نازك الموسيقية استلهام فني بديع ومؤثر لروح الشعب الفلسطيني، كما تحققت في ثوراته المتعاقبة. ولعل هذه الروح بالذات ظلت حاضرة في التصاق نازك بالجملة اللحنية البسيطة التي تنتمي للريف الفلسطيني في كثير من الحالات، فتنجح في ملامسة ذائقة مستمعيه. وهو منذ سبعينات القرن الماضي ظل مواظبًا على استقصاء كل مفردات التراث الفلسطيني، وبالذات الأغنيات والأهازيج الشعبية التي عرفها الفلسطينيون عبر تاريخهم الطويل، وحملوها معهم في شتاتهم. ولعلي أراه في هذه الميزة بالذات النصف الآخر لرائد الفن التشكيلي في فلسطين الراحل إسماعيل شموط، وبالذات في تأكيدهما على حضور المناسبات الشعبية الفلسطينية واستنطاقها وإعادة صياغتها فنيًا. هي مسألة أراها الأهم في تجربته، فنازك هو بمعنى عميق أستاذ المزج الموسيقي البارع للجمل اللحنية الفلكلورية البسيطة والسلسة مع الصياغات اللحنية الحديثة، الأوركسترالية، من دون بهرجة، أو ادعاء.
في تجربة حسين نازك ولع لا يخفى في الرغبة على روح التفاؤل والفرح التي طبعت أغلب ألحانه وأعماله الموسيقية، ومن يستمع اليوم إلى تلك الأعمال سوف تدهشه تلك الروح التي تجعل الموسيقى والغناء يحثان على الحياة، ولعل ذلك يتحقق في صورة أكبر وأوضح في استفادته العميقة والذكية من فولكلور الأفراح والمناسبات الوطنية والاجتماعية في وطنه فلسطين، وقوّة حضور ذلك الفولكلور في حياة الفلسطينيين بعد خروجهم الكبير، وربما من هنا بالذات كنت أطلق عليه طيلة الوقت لقب "فنان العودة" الذي عاش في المنافي وبلدات الشتات، ولكنه ظل حاضرًا بانتمائه للمكان الأول باعتباره حاضنة الأبناء وحاضنة تراث الآباء والأجداد.
برحيل حسين نازك عن عالمنا نفقد موهبة كبرى عاشت معنا ومن أجلنا، وندعو إلى الاهتمام بتراثه الفني الموسيقي الغني والمتنوع، الذي يحمل في ثناياه وتفاصيله روح البقاء والتحدي، ويحثنا على مواصلة السير في اتجاه فلسطين، خصوصًا أن كل ما قدمه من أغنيات كان نتاجًا مباشرًا وحيويًا لروح الناس البسطاء والعاديين، وإن تميز بقوة الموهبة وقدرتها على التفاعل مع الناس، ومنحهم المتعة والإصرار على الصمود والصبر في درب الآلام والكفاح الوطني الشاق والطويل.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.