}

معرض الكتاب العربي ومهرجان باريس للكتاب: القراءة حاجة وجودية

بوعلام رمضاني 31 مايو 2023

مساحته لا تتجاوز 60 مترًا مربعًا، ويقع في الدائرة الباريسية العشرين الشعبية بعيدًا عن شوارع باريس المخملية والمثقفين النخبويين المنتشرين في ربوع "سان جرمان دي باري" والحي اللاتيني، وفي أحياء المدمنين على الجلوس في المقاهي الخرافية مثل "لي دو ماقو" و"الفلور" تكريسًا لعادات جان بول سارتر والكتاب الفرنسيين الكبار. السيد راشد حموش رفع التحدي المفروض في مكان ليس مرادفًا لشهرة ثقافية نخبوية، ولا يجلب الانتباه وأقرب إلى مفهوم المأرب، وتجاوزه السوري المنفي والمقيم في مدين "إيسن" الألمانية بطريقة تنم عن وعي كامل بالهدف المنشود. في يوم مهني استثنائي شعاره مطاردة الكتاب، سعدت بمعرض الكتاب العربي الذي نظم في نهاية أسبوع 21 و22 الشهر الماضي تزامنًا مع تنظيم الدورة الثانية لمهرجان باريس الدولي للكتاب في طبعته الثانية التي احتضنها القصر الكبير "إفيمار" (مساحة معرض مؤقتة) الواقع في الدائرة السابعة عشرة التي يقطنها قوم الأصقاع العليا، وهو المهرجان الذي سبق أن قامت "ضفة ثالثة" بتغطيته حينما كان ينظم في أقصى جنوب غربي باريس، وتحديدا في بورت فرساي.

إقبال عطشى الكتاب العربي

قبل منتصف النهار بقليل، وجدت زائرين ينتظران فتح المعرض العربي للكتاب قبل أن يصل زوار كثر أكدوا تعطشهم للكتاب العربي الذي أصبح يجوب أوروبا منذ سبعة أعوام فقط بفضل عزيمة منفي ترك ديار الحنين الأول هربًا من بطش مبرمج بإتقان تاريخي. حاجة المهاجرين الباريسيين للكتاب العربي تأكدت، وأنا أتجول عبر طاولات عرض عليها 700 كتاب فقط، ولم يخطئ راشد حموش، مدير مكتبة العرب الألمانية، حينما راهن على عرض كتب هامة ومتنوعة رغم قلة عددها. في أثناء جولتنا عبر أرجاء المعرض الصغير والأول من نوعه أوروبيًا، تأكدنا من تعطش الجالية العربية المهاجرة للكتب الأدبية بوجه عام وللرواية بوجه خاص، متبوعة بكتب الأطفال التي خصصت لها مساحة معتبرة. الكتب الفكرية الأجنبية المترجمة إلى اللغة العربية كانت حاضرة بقوة لافتة على يد دار عبيكان، فضلًا عن الكتب الدينية التي أصبحت تعري نيات جهات عربية ناشرة بالغت في المراهنة عليها طمعًا في كسب تجاري محض. في حديث خص به "ضفة ثالثة "، تحدث حموش عن هويته وعن أسباب وتاريخ انطلاق المعرض بقوله: "أنا خريج تجارة واقتصاد ومولع بالقراءة، ولاحظت مباشرة بعد مغادرتي سورية عام 2015 نحو ألمانيا، عدم وجود مكتبات عربية رغم تواجد مهاجرين عرب ومسلمين كثر كما تعرفون. بسرعة فكرت مع زوجتي في إطلاق مكتبة عربية في مدينة "إيسن" التي نقيم بها، وخلافًا لما كنا نتوقعه، وجدنا إقبالًا كبيرًا في وقت وجيز، الأمر الذي شجعّنا على توسيعه إلى مدن ألمانية أخرى وأوروبية أخرى". انطلقت التجربة كمشروع أسري عام 2016 عبر الإنترنت قبل أن تصبح عملية في الواقع المعيش ملبية حاجة عربية كانت ناقصة ومنعدمة في ديار الغربة. على إيقاع موسيقى عربية، وتزايد إقبال الجمهور، أضاف حموش ردًا على أسئلتنا المتعلقة بمسار تجربته قائلًا: حدثت المفاجأة عام 2017 يوم أقبل الجمهور على معرضنا الجديد بشكل مخيف، على حد تعبيره. و"يومها، بعنا خلال ست ساعات أكثر من 3500 كتاب. من النشاط الإلكتروني، انتقلنا إلى الميدان العملي، وأصبحنا ننظم نشاطا ثقافيًا أسبوعيًا في ألمانيا وخارجها". عرض حموش كتبه في نهاية العام الماضي بباريس، ثم لاحقًا بمدينة ليون، و"كما كان منتظرًا، أقبل الجمهور العربي في باريس وفي ليون على معرضه"، أضاف يقول.

من المعرض


تنوع ممنهج

حرصًا على تلبية أقصى طلبات القراء، سعت المكتبة العربية في ألمانيا لتنويع عرضها، وهذا ما لاحظناه بعد جولة سريعة في معرض باريس. استطاع صاحب المكتبة أن ينجح في تحقيق التوازن المنشود ليس لهدف ثقافي محض فقط: "لولا تنويعي قدر الإمكان الكتب المعروضة من سنة لأخرى، لما ربحنا تجاريًا وبالتالي لما استطعنا الإستمرار، وكان علينا تحقيق الربح لمواجهة أعباء الإيجار والشحن والسفر والإشهار وغير ذلك من مستلزمات العمل". التنويع كان وسيبقى الهدف الأول والأخير بعيدًا عن خلفية أيديولوجية معينة كما هي الحال في المعارض العربية الرسمية. فعلًا، تنوعت العناوين في معرض الكتاب العربي، ولاحظنا مثلًا الأهمية الكبرى التي أعطيت لكتب الأطفال الصادرة  باللغة العربية وغير المتوفرة في فرنسا برغم الوجود الهائل  لأبناء المهاجرين العرب، ولا أدل على صحة ذلك تواجدهم في المعرض رفقة الآباء والأمهات، لأن صاحب المعرض لا يمثل مؤسسة رسمية تابعة لبلد ما. من الطبيعي أن لا يجد الزائر ضالته في كل مرة، وعن ذلك قال حموش: "من الصعب توفير كل الكتب التي يبحث عنها الزوار، ونحاول قدر الإمكان التعويض عن ذلك بأقصى قدر من التنويع والتركيز على العناوين الهامة". هدف الوصول إلى جمهور متنوع، هو هدف يسعى إلى تحقيقه حموش رغم الإمكانات المحدودة، ويهمه أن يتواجد في أماكن متنوعة اجتماعيًا. القراء أنواع حسب حموش كما هي الحال في كل البلدان بغض النظر عن طغيان نسبة ما منهم على أخرى، وعن نوعيتهم وفئاتهم العمرية وانتماءاتهم الاجتماعية قال: "يقبل على كتبنا القراء القدامى الذين يمثلون الفئة التي تبحث عن الكتب التي تحاكي الفكر والتاريخ، وهذه الفئة قليلة مقارنة بالنسبة الطاغية التي تمثلها الأجيال الجديدة المتأثرة بثقافة وسائل التواصل الاجتماعي. هذه الفئة تقرأ كتب التنمية الشخصية والأدب الخفيف إن صح التعبير. نحن نحاول المزاوجة بين الجانبين قدر الإمكان تجسيدًا لما سبق أن قلته عن التنويع".

في أثناء جولتنا عبر أرجاء المعرض الصغير والأول من نوعه أوروبيًا، تأكدنا من تعطش الجالية العربية المهاجرة للكتب الأدبية بوجه عام وللرواية بوجه خاص، متبوعة بكتب الأطفال التي خصصت لها مساحة معتبرة

بجانب برج إيفل

خلافًا لمعرض الكتاب العربي المذكور، يدخل الجمهور "الغريه باليه إفيمار" (القصر الكبير المؤقت) مهرجان باريس للكتاب بعد توقفه في طابور طويل على مرأى برج إيفل الشامخ. يصاب الزائر ـ حتى وإن كان متعودًا ـ  بدهشة غير متوقعة عند دخوله صالون باريس للكتاب (لا أحب شخصيًا صيغة أو تسمية المهرجان)، ويجد صعوبة كبيرة في أثناء الدقائق الأولى في شق طريقه نحو أجنحة دور النشر من شدة الازدحام. الزوار الذين يدخلون مهرجان الكتاب الذي استقبل خلال ثلاثة أيام أكثر من مائة ألف زائر، يعانون من ازدحام يتكرر بسبب كثرة الإقبال على دور نشر معروفة وغير معروفة في مرحلة أولى، والوقوف في طوابير طويلة للظفر في مرحلة ثانية بتوقيع الكاتب المفضل أو الكاتبة المفضلة. هذه المرة، استقبل مهرجان كتاب باريس حوالي 350 كاتبة وكاتبا وأكثر من 300 دار نشر من كافة أنحاء فرنسا ومن الجارة إيطاليا البلد الضيف بشكل يؤكد قوة شراكة ثقافية مذهلة بين وطني دانتي وميكيافيلي وموليير وبودلير. من الطوابير المذهلة التي تسببت في ازدحام كبير تطلب تجنيد العشرات من أعوان الأمن والمرشدين، طوابير البيع بالإهداء، كتب روزلين باشلو، وزير الثقافة السابقة والروائيات مليسا داكوستا وفرجيني فالون وفيرونيك أوفالديه وإميلي نوتومب، والروائيين داني لافيريير الكندي والأفريقي الأصل وكارل إيمانويال شميت الذي أصبح أحد أشهر الروائيين الفرنسيين في الأعوام الأخيرة، وخاصة بعد نشر روايته الجديدة "القدس" التي أكدت إيمانه الديني بعد تشكيك منهجي طويل، ومارك ليفي الذي باع أكثر من 50 مليون نسخة عالميًا في العشريتين الأخيرتين، ويحضر في مهرجان الكتاب بروايته الجديدة "أطفئوا كل شيء لتشتعل الحياة". في الدورة الثانية لمهرجان كتاب باريس، تأكد أمر تربع الرواية بمختلف أنواعها الشعبية صدارة المبيعات رغم عدم حصولها على إعجاب النقاد، متبوعة بكتب الأشرطة المصورة وخاصة نوع المانغا، وهو النوع الذي يفسر إقبال الشبان بقوة لافتة، فضلًا عن كتب الأطفال الذين اكتسحوا المهرجان، وشكّلوا مشاهد مثيرة للإعجاب لحظة انكبابهم على القراءة مفترشين الأرض رفقة الوالدين.

من المعرض


قراءة تخترق الصراع الطبقي

علاوة عن طوابير الإقبال على الكتاب المفضلين والكاتبات المفضلات، ثمة نشاطات فكرية وأدبية وفنية كثيرة تجذب الآلاف من الزوار المنتمين لكافة الفئات العمرية. لاحظنا ذلك، ونحن نحضر جانبًا من الندوة التي نظمتها إذاعة "فرانس كلتور" (قناة فرنسا الثقافية) حول الروائية الجزائرية الصاعدة سارة ريفنس، وهي الندوة التي قام بتنشيطها الصحافي الثقافي الجزائري المعروف توفيق حاكم أمام جمهور لم يسعه فضاء قناة "فرانس تلفزيون". فقرات "الحوارات الكبرى" التي احتضنتها أروقة " الأغورا"، نسبة إلى العادة الفكرية اليونانية التاريخية، والمقاهي الأدبية والورشات الفنية والندوات الفكرية والقراءات بأصوات ممثلين محترفين، كانت هي الأخرى بسبب ازدحام كبير أمام بنايات صممت بشكل بديع خصيصًا لتظاهرة يؤمها الأطفال والشبان والكهول والشيوخ والنساء والرجال في حلة تؤكد أن القراءة مسألة تخترق الصراع الطبقي. في بلد يتطلع فيه 12 مليون إنسان إلى نشر كتاب، حسب آخر استطلاعات صحيفة "لوفيغارو"، يلتف الآلاف حول كتّابهم المفضلين، ويجلسون ويقفون بالعشرات في قاعات تكتظ على آخرها لحضور لقاءات مع كبار المفكرين والأدباء والفنانين والناشرين لمناقشة قضايا مدروسة تضرب بجذورها في صلب الآنية.
"ضفة ثالثة" حضرت جانبًا من هذه اللقاءات التي جمعت إدغار موران، الذي تجاوز عمر 100 عام، وطبيب الأمراض العقلية الشهير سيرج تيسرون، والروائيين إريك إيمانويل شميت وفيليب كلوديل وفريدريك بغبيديه، والكاتب والإعلامي الشهير فرانز أوليفييه غيزبيرغ، والمحققين الحربيين ميمونة هيرترمان وبول ماري وطيب صديقي (ليس المخرج المسرحي الراحل الطيب الصديقي)، والروائي المغربي الطاهر بن جلون، والإعلامية الشهيرة التونسية الأصل صونيا مبروك، وغيرهم من الكتاب والإعلاميين والأدباء والباحثين الذين ينشرون بانتظام، ويدخلون البهجة في نفوس معجبيهم. عالج هؤلاء قضايا وإشكالات النشر التقليدي في ظل بروز النشر الإلكتروني الذاتي، واحتفوا بتجربة كتاب الجيب في ذكراها السبعين، وتأثير موقع "بوك توك" في إطار تعامل مهرجان الكتاب مع "تيك توك" (121 مليار مشاهدة)، وتذليل تحديات القراءة، ورواج الأدب الخيالي، وأصول القصص، والكتاب القديم وغيرها من القضايا المتعلقة بعالمي الكتاب والنشر بوجه عام. لم يقتصر تمجيد وتخليد الإبداع بكل أصنافه الممكنة على الفضاءات النخبوية المغلقة، وخرج الأدباء والكتاب والناشرون يتجولون عبر شوارع وأزقة باريس للقاء من لم يتنقل لعين مكان مهرجان الكتاب.

إيطاليا... الضيف المبدع

عادت إيطاليا الفكرية والأدبية إلى باريس بعد 21 عامًا في حلة كلها زهو ورونق. إنها الحلة التي تحدث عنها الفرنسي فانسان مونتاني، رئيس النقابة الوطنية للنشر، والإيطالي ريكاردو فرنكو ليفي، رئيس جمعية الناشرين الإيطاليين، في حوار متبادل نشرته مجلة مهرجان الكتاب "لاغازيت". العلاقة الثقافية التي تربط البلدين، تجسدت في معلومات أكدها حجم التنوع الإيطالي في الإبداع الأدبي بوجه عام والروائي بوجه خاص كما تبين ذلك من خلال عناوين كتب المبدعين الذين حضروا بقوة في مهرجان باريس للكتاب. من بين الكتاب والكاتبات الواحد والخمسين، شدّ عدد معين انتباه الزوار، ومن بينهم نذكر إيلينا فيرانتي وروبرتو سافيانو وباولو روميز وجيانكارلو دي كاتالدو وموريزيو دي جيوفياني وجيوليا كامينيتو وإليزا رويوتولو وجيوشبيه مونتيسانو وجيوليانو دا أومبولي وأندريا ماكولونغو وسيمونيتا غريجيو وإيتالو كافينو واستيفانيا أوتشي وفابرسيو غاتي صاحب رواية "بلال في طريق المهاجرين السريين". كل هؤلاء وغيرهم الذين أعطوا قيمة مضافة لدور نشر تصدر سنويًا أكثر من 60 ألف عنوان، أضفوا على الدورة الثانية لمهرجان باريس للكتاب طابعًا غير مسبوق.
كما كان منتظرًا، طغت الرواية على الأنواع الأدبية الأخرى، ومن بينها الرواية البوليسية والتاريخية والإجتماعية والسياسية.
وكما كان منتظرًا، وكما حدث في دورات صالون باريس للكتاب وفي الدورة الأولى لمهرجان كتاب باريس، تترك المشاركة العربية الأثر المرجو، ولم تكن الوجوه السمراء حاضرة في صفوف الزوار بالشكل الذي يؤكد حرص أصحابها على القراءة. اقتصرت المشاركة العربية على الكويت من خلال دار نشر الشاعرة سعاد الصباح للنشر والتوزيع، علاوة على كتب متفرقة باللغتين العربية والفرنسية كما لاحظ ذلك محقًا الزميل شوقي أمين، مراسل قناة "العربي" التلفزيونية. الجزائر التي كان يفترض أن تحضر بشكل أقوى بحكم عدة عوامل يفرضها التاريخ، وعلى رأسها خدمة أهم وأكبر جالية عربية مهاجرة، سجلت هي الأخرى حضورًا باهتًا بكتب في الأدب والتاريخ، وهي الكتب التي لم تعكس أهمية الكثير من الأسماء المعروفة. لحسن حظها، أنقذ الروائي واسيني الأعرج الموقف رفقة الشاعر عمار مرياش. كان وجودهما رمزيًا، والأمر محمود وإيجابي مبدئيًا، إذا عرفنا حجم الغياب الكارثي للكتاب الجزائري في الخارج بوجه عام. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.