}

"فوات الموسوعة": خلخلة اللغة لنقد الواقع السائد

عزيز تبسي 11 يونيو 2023
استعادات "فوات الموسوعة": خلخلة اللغة لنقد الواقع السائد
خير الدين الأسدي (1900 ـ 1971)

(1)

تبقى اللغة وسيلة تعبير أساسية، عن العلاقة التفاعلية مع الواقع والحياة، اختزنت في تضاعيفها الأحاسيس والقناعات المتباينة، الحب والبغض، المديح والهجاء، التأمل العميق والعفوية، الإيمان والإلحاد، اعتمدت، مع تبلور المجتمعات الطبقية، أو الامتيازية، التمايز داخل الهرمية الاجتماعية، لترسيخ حالة يجري الإيهام أنها ثابتة ولا يمكن تجاوزها.
الشتيمة وسيلة مختزلة للاحتجاج والسخرية، حملت حكمة الثقافة الشعبية المتضمنة في اللهجات العامية القديمة، وحزمة من الأقوال والأمثال، والمقالب التي يصنعها الجيران ببعضهم، سواء في أمكنة السكن، أو العمل، ومقتبسات من أفواه البسطاء والمجانين. كما السخرية، التي تدفع للضحك بكشف النقائص الاجتماعية والسلوكية، لتصل إلى نوع من الشتيمة الواضحة، أو المحجبة بطبقات اللغة المرنة.
قاموس الشتائم قاموس تراكمي حمل خبرات متوارثة، استحوذ على شرعية ما، فأي كلمة حملت معنى، اتفق عليها مع مرور الزمن، أكسبتها شرعية لغوية، تشير بالعموم الى هدفها بوضوح من دون حاجة لتوريات، أو محسنات بديعية.
الماخود أو المأخوذ (كل ما يُحمل أو يؤخذ باليد) كلمة دالة على كلمة أخرى، يمتنع المتكلم الإفصاح عنها... لعلة النسيان، أو وضاعتها، فهي العصا، وسرج الحمار، والغربال، والعضو الذكري، أو الأنثوي... إلخ.
احتلت الأعضاء الجنسية موقعًا مركزيًا في الشتائم، وألحقت بها مفرزاتها للغاية ذاتها، بتوظيف الفعل الجنسي، بمعناه الاغتصابي للتوكيد على فعل الإهانة والإذلال. واعتماد العنف اللغوي للإهانة، كحالة متقدمة على العنف الجسدي بالضرب والقتل... حيث تكتفي بإلحاق أذى معنوي بالمخاطب، الذي امتلك، بدوره، حق الرد على الشتيمة بشتيمة، والإهانة بإهانة، مما يدل على أن ذلك يجري بين طرفين يحتلان مكانة اجتماعية واحدة (بين الرجال البالغين)، لكنها ليست كذلك بين الرجل والمرأة، أو بين الرجل البالغ واليافع... وتمكنت النساء من إنتاج مفرداتهن الدفاعية عما يلحق بهن من إهانات، حيث تمكّن من توظيف العجز الجنسي للسخرية من الرجال.
كتب الباحث اللغوي نادر سراج:
"إن المعايشة اليومية لمختلف الظواهر اللغوية الاجتماعية، ورصد معالمها وتطوراتها وتأثيراتها، تنطلق من المدونة اللغوية، وعمادها التحقيق الميداني، فقراءة هذه الظواهر وتحليلها، والخلوص منها بنتائج، تشكل مجتمعة سعيًا مطردًا وحنينًا لمحاولة فهم التجليات التعبيرية الكلامية المصاحبة والمترجمة للسلوك الإنساني اليومي، العادي منه الاستثنائي"(1).
تناثرت آلاف تعابير البذاءة في صفحات كتب التراث العربي: "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني، و"ألف ليلة وليلة"، وفي "المقامات"... وما كانت إلا نقل تعابير الحياة اليومية الى صفحات كتب الأدب، لتحصل على شرعيتها في الوجود.




"في نطاق الاستخدام اليومي للغة التخاطب، درجت العادة أن يقوم المتكلم، في الأعمّ الأغلب، وفي سياقات لغوية عمومية، باستحضار وتكرار مجموعة من المسكوكات اللغوية، والعبارات المتراكمة الجاهزة غبّ الطلب"(2).
لكننا لا نستطيع الاعتماد على ما بات يعرف بالحكمة الشعبية المتناثرة في الأمثال والحكايات والأساطير، وسلسلة متراكمة من التجارب الذاتية المدرجة تحت إطار الثقافة العامية، لتأسيس وعي كلي يتضمن المجتمع وتطوره، والدولة وسياقات أشكالها التاريخية.
"يتعذر على الدين والحكمة الشعبية بناء نظام فكري متكامل، لأنه يستحيل سكب أي منهما في وحدة متماسكة حتى داخل الوعي الفردي ذاته، ناهيك بالوعي الجماعي. وحريّ بنا القول إنه يستحيل سكب أيّ منهما في وحدة متماسكة "طوعًا"، لأن ذلك لا يتم إلا بأساليب قسرية، وهذا ما حصل في الماضي ضمن حدود"(3).

(2)


قسمت "فوات الموسوعة"(4)، لخير الدين الأسدي (1900 ـ 1971) المكونة من ثمانين صفحة، إلى أربعة أقسام، انتزعت من "موسوعة حلب المقارنة"(5) المكونة من سبعة أجزاء واسعة وشاملة، لما ضمته من شتائم وبذاءات، ووصف للأعضاء الجنسية والأفعال الجنسية المتنوعة.
رواتها هم ذاتهم أبطالها، يتحدثون من داخل عالمهم، وتعبر بشكل مباشر عما يجول في رؤوسهم من أفكار ومشاعر، وتهكمهم على الرزانة والجدية.
توضّعت الشتائم على طبوغرافيا الجسد، بلغة مشدودة إلى أفعال محسوسة، لتنقل التجارب الحية، التي تراكمت كطبقات رسوبية في الوعي الشعبي.
يقدم الجنس فيها، سواء بين الرجل والمرأة، أو بين رجلين، بكونه اعتداء القوي على الضعيف، أو الضعيف على الأضعف، مبني على ثقافة "كسر العين"، كأحد الأنماط السائدة للتعبير عن الإهانة والإذلال.
عبر لغة اصطلاحية، عابرة للجماعات الاجتماعية، مستخدموها في تزايد مستمر، وهم أوسع من أن يتعينوا زمانًا ومكانًا. عرفت اللغة تكوينات مخصوصة بجماعات محددة، لغة الحرامية والنصابين والحرفيين والتجار، كلغات سرية. كما أنشأت الجماعات المضطهدة لغة خاصة بها عرفت في بلاد الشام باسم "العصفورية"، و"الزرزورية"، نسبة للطيرين الشهيرين، عبر إضافة أحرف في أول الكلمة ووسطها، وهي لغة غير مفهومة لمن هم من خارجها.
لغة "فوات الموسوعة" لغة واضحة، لا تزال حيّة في معظم مفرداتها وتعابيرها. قدمت الشتائم كجمل مختزلة، مقطوعة عن سياقها الاجتماعي واللغوي، لهذا لم نقف على الأسباب التي دفعت إليها.




ووظفت بعض الحيوانات والحشرات في الشتائم والأمثال.
القمل، حشرة تنشط لغياب النظافة. مقمّل: تقال للدنيء الخسيس. "المال بيجر مال، والقمل بيجر الصيبان". الكلب، "درب الكلب ع القصّاب"، و"الكلب اللي بيعوّي ما بيعض"، و"الكلب اللي بدك تجرو ع الصيد، بيس منو ومن صيدو"، و"كلب ابن كلب معجون بميّة الكليب".
الجحش، ولها معان عدة، أخطأ، غلط، تنح، يبس راسو.
"متل جحاش الحجارة، جواعى بطارى"، "متل جحش الخاخام (الحاخام)، غشيم شيطان"، "تسابقوا الجحاش من سعد الركاب".
وانتقلت الى رصد قصائد وأغان:
"يا رايحة ع الحديقة ليش الباجاية رقيقة
الله خلق ها البنات للشباب طقيقة"
كما عبرت شدّيات لمواقف من رجال الدولة، كـ"تاج الدين الحسني"، رئيس الجمهورية السورية في فترة الانتداب الفرنسي (16 أيلول 1941 حتى وفاته 17 كانون الثاني 1943)، الذي عرف بعدائه للحركة الوطنية.
"يا شيخ تاج يا بومة يابو اللفة المبرومة
عطيني شعرة من دقنك لا خيّط فيّا التاسومة"

(3)
ليست قصصًا متخيلة، ولا حوارات مضبوطة بالحكمة والأمثال... سرد حياة واقعية، طافحة برموزها الذكورية الصاعدة إلى موقع الهيمنة على الثقافة الشعبية، عبرت بوضوح عن حاجاتها السوية والشاذة (لا تعد شاذة وفق رواتها)، بل ممارسات طبيعية، يتداخل الجنس الطبيعي مع اللواطة والدعارة، تحضر فيها الزوجات إلى جانب قحبات الماخور، إلى الجتر "الصبي الخاص باللوطي، الذي كان من متممات الوجاهة عند الآغاوات، وله مكانة الزوجة عند صاحبه".
لا مكان للمبالغات، ولا لتضخيم الوقائع... حكايات آتية من قرون خلت، وامتد بها الزمن إلى منتصف القرن العشرين.


هوامش:
1 ـ نادر سراج: "خطاب الرشوة... دراسة لغوية اجتماعية". دار رياض الريس للكتب والنشر بيروت ـ لبنان 2008، ص23.
2 ـ المرجع ذاته، ص24.
3 ـ أنطونيو غرامشي: "قضايا المادية التاريخية"، ترجمة فواز طرابلسي. دار الطليعة. بيروت- لبنان.
4 ـ فوات موسوعة خير الدين الأسدي. معهد التراث العلمي. حلب ـ سورية.
5 ـ موسوعة حلب المقارنة، تأليف خير الدين الأسدي. أعدها للطباعة ووضع فهارسها محمد كمال. نشر جامعة حلب ـ معهد التراث العلمي العربي. الطبعة الأولى 1987.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.