}

من يوميات الكارثة إلى التفكير في الكارثة

فريد الزاهي 15 سبتمبر 2023
هنا/الآن من يوميات الكارثة إلى التفكير في الكارثة
في خضم الكارثة، ثمة صور وفيديوهات تحولت لرموز (Getty)
تصيبنا الكوارث في عمق القلب، في مناطق زرناها وشاركنا أهلها الطيبين الخبز والملح، يعيشون في أعالي الجبل، ويصارعون يوميًا المسالك الوعرة، والثلوج والسيول الجارفة. ويضطرون لنقل الحوامل اللاتي يستعصي عليهن الوضع على الدواب إلى أقرب مستوصف قريب. يمشي أطفالهم المسافات الطويلة يوميًا لارتياد مدارسهم، وقت الثلج، وتحت وابل المطر، ويقطعون الوديان الهادرة بالمياه في عز البرد.
في هذه الحال، تتكلس الكلمات، وتجفّ الحروف في الحلق، ويتعطل التفكير، ويتشتت الذهن. والعادات التي ألفناها تتكسر على إيقاع الأخبار، فتنفر العين من القراءة، واليد من الكتابة، حتى الدموع تتحجر في المآقي، ويصبح خبزنا اليومي صور المداشر المحطمة، ونداءات الاستغاثة، وصرخات المنكوبين وعواءهم على من فقدوا من أهلهم وذويهم. وتداول الأخبار عن المناطق المنكوبة.... وبعد الكارثة مباشرة صور قافلات التموين والدعم، ودعوات التضامن...

إيقاع الكارثة والخبر اللحظي
حين ضرب الزلزال منطقة الحوز جنوب مراكش كان الخبر قد استشرى في كل مناطق المغرب في اللحظة نفسها. لقد حول الهاتف والصور والفيديوهات الكارثة إلى حدث وطني، بالصور والتعليقات؛ خاصة وأن الهزات الارتدادية بلغت مدنًا بعيدةً مئات الكلومترات، جعلت الناس كلهم يحسون ولو جزئيًا بمن عصفت بهم الكارثة، في الأرواح كما في المساكن. صار الخبر لحظيًا، متناثرًا كزخات المطر. وأضحى الكل متعلقًا بهاتفه يتابع أخبار الحدث. ولأن الناس الهلعين في المدن المجاورة لمركز الزلزال أحسوا بقوتها، وتضررت منازلهم، ولو جزئيًا، فقد باتوا على الطوى لأيام في الخلاء. في هذه الأيام العصيبة، غدا التواصل كثيفًا ليل نهار، والخبر والتعليقات في مواقع التواصل الاجتماعي لا تنقطع، والنداءات وأخبار الضحايا المتزايدة تملأ حتى الاحتقان الشاشات...
قبل أن يصل الصحافيون إلى المناطق المتضررة، تناسلت الأخبار بالصورة والصوت. وصار كل من يحمل هاتفًا يمارس مهمة التقصي، حتى لو كان هو نفسه متضررًا، مازجًا الوصف الكلامي والبصري بالنداء والاستغاثة وطلب العون. في اليومين الأولين، بدا أن المتضررين في عزلة تامة، خاصة بعد انقطاع الطرق الموصلة إلى مناطق الكارثة. وكانت رسائلهم وفيديوهاتهم وصورهم هي التي تملأ مواقع التواصل والتطبيقات الموازية لها. كان خطابهم حارقًا مليئًا بعنف الصورة وعنف الكلام، يكاد يجرح العين ويثقب الأذن. لقد مكنت تقنيات التواصل الحديثة من فتح ثغرات سمحت للضحايا بأن يكونوا شاهدين على تراجيديا حياتهم، أي أن يكونوا ضحايا وشاهدين في الآن نفسه.
بعد يومين، أو أكثر، بدا وكأن الناس استفاقوا من هول الكارثة، بعد أن تأكدوا من غياب الهزات الارتدادية. فبدأت حملات التضامن في المدن كافة. فعجّت وسائل التواصل بخطابات الدعوة إلى التضامن وجمع المعونات الأساسية، والبحث عن تبليغها إلى المناطق المتضررة. كان ذلك طبعًا بالموازاة مع الأخبار الرسمية عن تزايد عدد الضحايا والجرحى، ومجهودات السلطات العمومية المختصة في فتح الطرقات التي حقنتها الصخور، المؤدية إلى المداشر المتضررة. هكذا انتقلت الصور والفيديوهات المتداولة من التركيز على خطاب الكارثة إلى التركيز على صور المعونات وقوافل المساعدات الغذائية، وخفتت صور الكارثة المباشرة لتحل محلها صور أخرى تتحدث عن أنشطة الدعم.
في خضم يوميات الكارثة، ثمة صور وفيديوهات تحولت إلى رموز، بالأخص منها صورة صومعة الكتبية وهي تقاوم عنف الزلزال. فهذه الصومعة التي تعود إلى دولة الموحدين (القرن 12) رغم طولها الفارع، والمواد التقليدية التي بنيت بها، ظلت قائمة صامدة رغم تضررها، في الوقت الذي تحطمت فيه صومعة لا تصل إلى نصف طولها، على بعد بضع مئات من الأمتار، في الطرف الآخر من ساحة جامع الفنا الشهيرة.




وقد أسرّ لي صديق معماري أن قاعدة الصومعة بُنيت بطريقة تسمح لها بمقاومة الزلازل، وهي تقنية عبقرية اكتشفها معماريو ذلك الوقت. أما الكارثة التي لحقت المآثر التاريخية، فهي تلك التي تدوولت عن مسجد تينمل في جنوب مدينة مراكش، والذي تقدمه الصور قبل الكارثة قريبًا من الاكتمال بعد عمليات الترميم التي طاولته، وخرابًا وأطلالًا بعد أن انهار بكامله في لحظة واحدة. أما صور الكارثة التي تحولت إلى رموز فهي صورة امرأة عجوز تتكئ على حائط، وفيديو لطفل جريح فقد عائلته بكاملها، وصورة رجل يحمل ضحية من ضحايا الكارثة على ظهر بغلة.... أما بعد الكارثة، في مرحلة التضامن، فإن الصور التي حظيت أكثر بالتعليق عبارة عن فيديو لرجل عجوز يركب دراجة يحمل عليها معونة يقدمها بصمت ويرحل بصمت، ولعجوز امرأة تحمل قنينة كبيرة وثقيلة من الزيت لتقدمها للدعم...
هكذا تغدو الصورة حاملًا للمعاني التي تلتقطها، وقابلة للتأويل والترميز. صحيح أن الخطاب اللغوي في الكارثة كان يمرّر معاني الفقد والحنق واليأس والفاجعة، ويعبر عن العزلة وعن الحاجة إلى الآخر. الصوت في هذه اللحظات (وكما تنقله الفيديوهات) يكون معْبرًا نحو هول الكارثة، وينزّ حزنًا وكآبة. أما الصورة فإنها تستنطق الحدث، وتنقله في تزامنيته ومباشرته، كما بعد حدوثه. وقد لاحظنا أن الناشرين لتلك الصور غالبًا ما يلجؤون إلى التوليف بين الصورة قبل الكارثة والصورة بعد الكارثة للمداشر (القرى) والمناطق المتضررة، لكي يبرزوا هول المصاب. فالمقارنة البصرية بالصورة أكثر إقناعًا، وتمنح المتلقي القدرة على بلوغ المعنى، والوصول إلى غور المأساة. واستعمال الصور يسمح أكثر بخلق المعنى لدى المتلقين، وفي الآن نفسه استثارة العواطف وتأجيجها.

تحرّك الكوارث العواطف قبل أن تحرّك الفكر (Getty)

التفكير في الكارثة، الإنسان من السياسة...
لا شك في أن الكوارث تغذي العديد من أنواع الفكر والتفكير، التضامني منه والتكافلي، والاحتجاجي منه والانتقامي، كما الانتهازي منه والعقيدي... البعض سارع إلى تفسير الكارثة بالتخلي عن الدين والإيمان، وفسرها كما لو كانت علامة من علائم الساعة. وكان ذلك من باب التذكير بالإيمان كرادع للكوارث، مع أن الجيولوجيا تفسر ذلك بشكل منطقي وعلمي. والبعض الآخر جعل منها فرصة للتنديد بالسياسة الحكومية فسارعوا إلى نشر صورة رئيس الحكومة مع شعار: البحث عن متغيب، بالنظر إلى عدم ظهوره الإعلامي، مع أنه ينتمي جهويًا إلى منطقة الكوارث، وهو من أكبر أغنيائها وميسوريها. والبعض الآخر، لكي يحيّي حملة التضامن الواسعة مع ضحايا الزلزال، استعاد شعار "تمغْرَبيت" (الذي تطرقنا له في مقال سابق)، كما لو أن المغاربة قادرون لوحدهم على مواجهة الكوارث مهما كان حجمها. والأمر يشكل إحالة ضمنية إلى صمت المسؤولين المغاربة (على خلفية الأزمة الدبلوماسية الفرنسية المغربية) على اقتراح المساعدات الفرنسية للمغرب.
تحرّك الكوارث العواطف قبل أن تحرّك الفكر. لذا، كان أول رد فعل للمتابعين هو استبدال صور بروفايلاتهم في مواقع التواصل بالأسود إبانةً منهم عن الحداد الشخصي، قبل أن تعلن الحكومة عن الحداد الرسمي لمدة ثلاثة أيام. ثم تحوّل السواد إلى صورة مركبة تحمل نجمة سداسية خضراء على خلفية سوداء. ثم مع الوقت صارت النجمة مؤسلبة تحمل في زواياها أيادي متعاضدة... ومع الوقت أيضا بدأ بعضهم في التفكير في سبل المعونات، وطرائق جمعها وتوصيلها. والتفكير في جمع المعطيات عن المناطق، وعن المداشر المكونة لها، وتشاطر المعلومات عن المداشر الأكثر حاجة إلى المعونة لانتشال الضحايا من تحت الأنقاض.
تخلق الكوارث (الزلازل والفيضانات وغيرها) الرعب والبلبلة، ليس فقط في نفوس ضحاياها، وإنما في نفوس المحيطين بها. الكوارث تفضح هشاشة البنيات والفوارق الاجتماعية بين المناطق والجهات، كما تفصح عن العلاقة الإشكالية بين القدَر وبين التقْدير المسْبق. فسواء كانت الكارثة الطبيعية فيضانًا أو زلزالًا فإنها تخلق قطيعة في تصورنا بين الماضي والحاضر.




ألا نتذكر اليوم أن كورونا أضحت تاريخًا جديدًا خلق قطيعة بين الماضي والحاضر. وبالرغم من أن الزلزل الأخير الذي ضرب حوز مراكش يذكرنا بزلازل سابقة في قوته، آخرها في بداية القرن، فإنه يخلق زمنه الخاص، هنا والآن. فالكارثة الطبيعية تخلق زمنًا يختلف عن الزمن الذي نعرفه. إنه زمن مكثف وفينومينولوجي، لأنه يحرك الذات في علاقتها بمعنى الوجود وبمقاصد الكينونة. وليس لنا هنا إلا أن نستعيد النقاش الفكري بين فولتير وروسو عن زلزال البرتغال عام 1755، فقد رأى فولتير في ذلك فرصة أخرى للتنديد بالقدَر، فيما رأى صاحب "العقد الاجتماعي" أن آثار الزلزال كانت أخطر مما يمكن توقعه لأن "الطبيعة لم تجمع هناك قط عشرين ألف بيت من ستة إلى سبعة طوابق...". هذا الرأي هو ما يعبر عنه فيديو تُدوول يظهر فيه أحد أبناء المناطق المفجوعة وهو يصرح بأن سبب هول الكارثة يعود إلى أن المسؤولين كانوا يمنعونهم من البناء بالوسائل الحديثة (الإسمنت المسلح) والحفاظ على البناء التقليدي بالتراب والتقنيات المتوارثة... وذلك لكي تظل تلك المناطق محافظة على سماتها العتيقة، ومزارًا مستمرًا للسياح... هكذا تفضح الكوارث المسكوت عنه، وتكشف الحجاب عن مواطن أخرى تحجبها الحداثة.
بيد أن التفكير في الكوارث لا يشبه أبدًا مشاهدة فيلم هوليوودي عن نهاية العالم. نحن نشاهد هذه الأفلام التي تتحدث عن الكوارث الكونية، من تسونامي عملاق يهاجم نيويورك، أو زلزال غير مشهود يدمر أميركا، بمتعة المشاهد الذي يبدو وكأنه يتدرب على معرفة الكارثة. لكننا حين نفقد صديقًا، أو قريبًا، يلقى حتفه لأنه مدرس شاب في قرية نائية من تلك المناطق، أو نسمع صرخة صديقة شابة على فيسبوك تستنجد لأنها أضاعت كل ما تملك من مال ومتاع، حتى حاسوبها وكتبها ومراجعها، ومسودة الدكتوراة التي كانت ستحسّن بها وضعيتها كأستاذة في تلك المناطق، آنذاك تتخذ الكارثة طابعًا عينيًا أشبه بالكابوس، وتمسنا في ذواتنا...
الكارثة تعني أن هذه الأخيرة تخلق قطيعة في حياتنا اليومية. إنها تشكل واقعةً بالمعنى الحرفي للكلمة، تشكل لوحدها صدمة لوعينا وعواطفنا وفكرنا. بل إنها، بعْديًا، تجعلنا ندرك أيضًا أننا ننتقل من مجتمعات التقدم، التي لا تراعي الطبيعة، بل تركز على تحقيق انطلاقها الاقتصادي، إلى مجتمعات المخاطر. ولا ريب في أن هذا الانتقال هو ما يحرك حاليًا الخطابات السياسية عن الانتقال البيئي وتشجيع الطاقات المتجددة وغير ذلك... ثمة كثير من الأسئلة التي تطرحها الكارثة: ذات طابع سياسي عن نجاعة السياسات الكائنة، وذات بُعد سيكولوجي عن الجروح النفسية والصدمات، وذات طابع اجتماعي عن فظاعة التحولات والقدرة على استعاد المجرى السابق للحياة، كما ذات بُعد ثقافي عن الطابع اللامحتمل للعيش مع الكارثة وآثارها...
ونحن لا نزال نعيش آثار الكارثة، ونحاول أن نضمد الجروح، تأتينا من بلد شقيق أخبار كارثة أخرى، أشد هولًا، وأكثر ضررًا... وكأن الحياة تغدو تناسلًا للكوارث، أو كأن الشرّ لا يأتي أبدًا وحيدًا، كما يقول المثل الفرنسي الشهير... 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.