}

رحيل كريم العراقي: سفير الشعر الغنائي في العراق

علي لفتة سعيد 3 سبتمبر 2023
هنا/الآن رحيل كريم العراقي: سفير الشعر الغنائي في العراق
نعت رحيل كريم العراقي مؤسسات حكومية مختلفة
توفّي بعد صراعٍ مع المرض في مدينة أبو ظبي في الإمارات العربية المتحدّة عن عمر يناهز الثامنة والستين عامًا، الشاعر الغنائي العراقي كريم العراقي، الذي وصف بأنه شاعر الكلمات المسؤولة، والأحاسيس المرهفة؛ الشاعر الذي كتب مئات الأغاني، واشتهر بثنائيته مع المطرب العراقي كاظم الساهر، والذي كتب له أجمل الأغاني، بما فيها أغنيته "بغداد"، التي كادت أن تتحوّل إلى نشيدٍ وطني.
أُطلق على كريم العراقي عدد من الألقاب، منها خليفة أحمد رامي، كونه يمتلك إحساسًا كبيرًا بالكلمة، وكونه كتب الأغنية بالشعر الشعبي، وبالشعر الفصيح. كما لقّب بسفير الشعر الغنائي العراقي، خاصة بعد أن لحّن الفنان بليغ حمدي عددًا من كلمات أغانيه للمطرب سعدون جابر.
ولد العراقي، واسمه الحقيقي كريم عودة، في الثامن عشر من فبراير/ شباط 1955 في قضاء سوق الشيوخ بمحافظة ذي قار. انتقلت عائلته إلى العاصمة العراقية بغداد ليعيش في منطقة الشاكرية. أكمل دراسته في بغداد، وحصل على شهادة دبلوم في علم النفس وموسيقى الأطفال من معهد المعلمين في بغداد. كان معلّمًا ومشرفًا في عدد من مدارس العراق. كتب الأوبريت في بداية مشوراه الأدبي مذ كان تلميذًا في الابتدائية، ونشر وهو في عمرٍ لا يتجاوز العشر سنوات في مجلّات عراقية عديدة، منها: "المتفرج"، و"الراصد"، و"الإذاعة والتلفزيون"، و"ابن البلد"، و"وعي العمال"، و"الشباب". كتب بعدها الشعر الشعبي والغنائي والأوبريت والمسرحية والمقالة. وكان معلّموه يصفونه بأنه الموهبة التي ستكبر. كتب أول أغنية للأطفال وهو في عمر 19 سنة، وحملت عنوان "الشميسة"، تبعتها أغنية "يا خالة يالخياطة"، ليستمر في الإبداع والتأليف للمطربين العراقيين، من أمثال صلاح عبد الغفور، وسيتاهاكوبيان، ورضا الخياط، وأنوار عبد الوهاب، وسعدون جابر، وماجد المهندس، فضلًا عن عشرات الأغاني لكاظم الساهر، الذي بدأ التعاون بينهما منذ عام 1987، ليصل عدد الأغاني للساهر فقط إلى أكثر من 70 أغنية. وتابع العراقي تعامله مع الفنانين العرب، فكتب لهاني شاكر، وأصالة نصري، وصابر الرباعي، وديانا حداد، وفضل شاكر، وعمر العبدللات، وسميرة سعيد، ومحمد منير، وغيرهم.
العراقي حصل على عددٍ كبيرٍ من الجوائز، منها جائزة منظمة اليونيسيف لأفضل أغنية إنسانية عن قصيدة "تذكّر"، التي لحنها وغناها الفنان كاظم الساهر. وجائزة الأمير عبد الله الفيصل العالمية عام 2019م. وكرّمته قناة الشرقية بوسم الإبداع.
وله عدد من الإصدارات والمؤلّفات الشعرية والمسرحية، منها ديوان "للمطر وأم الضفيرة"، و"ذات مرة"، و"ألم يا عراق"، وروايات للأطفال "الخنجر الذهبي"، و"الشارع المهاجر"، و"كسل وبغلته الرمادية". وكتب أربع مسرحيات هي "ياحوته يامنحوته"، و"عيد وعرس"، و"دنيا عجيبة"، و"يقظة الحراس". فضلًا عن سيناريوهات أفلام سينمائية منها "افترض نفسك سعيدًا"، و"مخطوبة بنجاح ساحق"، وفيلم الأطفال "الخياط المرح"، وغيرها من الإنجازات في كتابة القصة القصيرة.




نعت رحيل العراقي مؤسسات حكومية مختلفة، بدءًا برئيس الوزراء، الذي دعا إلى  تسهيل مهمة وصول جثمان الراحل إلى بغداد، ورئيس البرلمان، ومرورًا بسياسيين، ورئيس حكومة إقليم كردستان، والاتحادات الثقافية والنقابات العراقية، وانتهاء بكثير من المطربين العرب، بينهم كاظم الساهر، الذي نعاه على موقعه في منصة تويتر (إكس). وعدَّ هؤلاء رحيله خسارة كبيرة لعملاق القصيدة الغنائية الذي أوصل الكلمة العراقية المحلية إلى الذائقة العربية. فيما تحوّلت مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة إلى حالةٍ من العزاء والرثاء لرحيله.
رئيس اتحاد الأدباء والكتّاب العراقيين، الناقد علي حسن الفوّاز، قال إن رحيل الشاعر كريم العراقي يعد خسارةً كبيرة، ليس للشعرِ وحده، وهو الذي تعوّد أن يمارسَ غواية الامتلاء دائمًا، بل للألفة والحميمية التي يصنعها شاعرٌ أنيقٌ بامتيازِ، بوصفه شاهدًا ورائيًا ومنتميًا. ويضيف: أجد في هذا الفقد قسوة من يرى عالمنا وهو يخسرُ كائنًا جماليًا طالما تغنّى بالحياة، وصنع لها أجمل الصور. ولفت إلى أن الراحل كان صديقَ الوجع الوطني والأحلام المؤجّلة، ولا يكفي الرثاء كونه كان مُصرًّا على الحياة، وكان يسخر حتى من مرضه، ويضحك وهو يفتّش في جسده القديم عن عللٍ قديمة. وأشار إلى أنه كان حالمًا بعالمٍ أجمل، وبأيام تتّسع للضحك الذي تركناه عن رابية الجمل. ويصفه بأنه كتب للحلم وكأنه وطنٌ أنيق، وكتب عن الأنوثة كأنها سحرٌ للتطهير، وكتب عن الوجع وكأنه ما زال عالقًا بروحه منذ أيام فيكتور جارا، وكتب عن الغناء وكأنه يجد فيه ترياقًا للخلاص من غرائبية الموت.
صديق صباه، الأديب شوقي كريم، قال: قبل أيام كتب لي آخر رسالة، حيث فقد الصوت. ولهذا فهو قد عرف بموته، وكتب عن ذلك قصيدته التي بثّها عبر صفحته. وأضاف أنه يعد شاعر الأغنية العربية بلا منازع، وأنه خليفة الشاعر أحمد رامي الذي كتب أجمل الأغاني. وأفاد أنه سليل الحضارة التي اهتمّت بالمخيال والصورة الشعرية والغنائية، فكان صائغًا للجملة التي تلحّن، ولا أعتقد أن ملحّنًا وجد صعوبةً في تلحين كلماته مثلما لا أجد مطربًا لا يتمّنى لو كتب له أغنية. وعن علاقته به، قال إنها تمتد منذ أيام الطفولة، ولذا توجّب عليَّ محو أزمنةٍ طويلةٍ تمتدّ من الشاكرية حتى مدينة الثورة، بكلّ ما لاقيناه وحلمنا في تأسيسه. وزاد بقوله: كان وفيًّا لفنّه وأحلامه، لذا: سلام عليه يوم ولد، ويوم عاش صانعًا للجمال، ويوم يبعث أمام الربّ بهيًا خاليًا من الأخطاء والخطايا.
فيما قال الناقد والملحّن مهدي الوزني إن الراحل تركَ بصمةً مميّزةً ومتفرّدةً في عالم الأغنية. وما يميّزه هو التجديد في كتابة النصّ الغنائي فنيًا وجماليًا. ويضيف: كان يختار مفردات لا تخطر على بال المتلقّي لكسر أفق توقّعه. ويرى الوزني أن نصوصه الغنائية لكاظم الساهر يتّضح فيها هذا التجديد، ونلحظ ذلك من عنوان النصّ الغنائي الذي يحمل من الترميز ما يجعل المتلقّي يسعى إلى التأويل، لأنه يستفزّه من خلال التجديد والتحديث في اختيار المفردة والمعنى. ويعطي مثالًا نصّه الغنائي "بعد الحب"، حيث كان مهتمًّا بالصور الشعرية التي يكوّنها خياله الأدبي المنعكس على مكوّنات الصورة الشعرية، إضافة إلى اهتمامه باللغة التي كان يحسن اختيار المفردة التي تعبّر عن الوجدان، وكذلك اهتمامه بالخيال الذي تولد فيه هذه الصور الشعرية، فهو قادر على الجمع بين الواقعي والخيالي بلغة بلاغية وجمالية.



أما الشاعر الشعبي وكاتب الأغنية مالك الشرع فقال إنه شاعر الوجع. فقد كان حين تأتيه دعوة للقراءة في المهرجانات يذهب إلى باب الشرقي لشراء الملابس المستعملة (البالات) فيغسلها ويكويها ويتأنّق ويعتلي المنصة. ويشير إلى أن من يحيا بمثل هكذا ظروف، كيف لا يصبح جزءًا من الوجع العراقي، ومترجمًا للخيبات والانتكاسات المتوالية التي عصفت ولا زالت تعصف بوطن الجمال. وأضاف أنه يلجأ إلى حضن أمّه بقوله (يا أمّي يا أم الوفه)، تلك المرأة السومرية عميقة الجذور لوطنٍ يمتلك الكون، إذ قال (الشمس شمسي والعراق عراق)، ولفت إلى أن الراحل كان كريمًا كاسمه، لا يبخل أبدًا، ولا يبالي بالمغرضين، إذ قال (كثر الحديث عن التي أهواها)، فهو (معلّم على الصدمات قلبي)، رغم كل هذا يقول لحبيبته (وين آخذك وين انهزم بيك)، ولا يتعجّل بل (أمشي بهداوه)، و(آهٍ على آهٍ على آه)، و(إلك وحشه يبو ضحكة الحلوه)، و(ياهلا بهالطول يامية هلا). ويؤكد أن حبّ الوطن هو الأوّل عنده، إذ قال (جنه جنه يا وطنه). واستذكر الشرع أن أوّل مجموعة شعرية له كانت "المطر وأم الظفيره" عام 1972 وأعلنت عن وجوده شاعرًا حالمًا بعمق الجمال والحب، مغرّدًا بقصائدَ ولوحاتٍ نقشت على جدار القلب والروح وتتوارثها أجيال وأجيال وتتغنّى بها حتى لرحيله، إذ تقول (سلامي على إلّلي فارغ مكانه). ويؤكّد أنه سيبقى نجمًا في سماء عراقه الذي أحبّه منذ نعومة أظفاره إلى رحيله الهادئ دون ضجيج.
وقال الشاعر الشعبي جواد الكعبي إن شهادته مجروحة. فالراحل كريم الشعر وكريم العراق، كريم الشمس شمسي والعراق عراقي... كريم لا تشكو للناس جرحًا أنت صاحبه. كان ظاهرةً لا تتكرّر. ولفت إلى أن الراحل ظلّ يعني اللغة البيضاء والسهل الممتع والممتنع.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.