}

مهرجان الحرية المسرحي في أستونيا: الفنّ والسلطات الاستبدادية

سمير رمان سمير رمان 4 سبتمبر 2023
هنا/الآن مهرجان الحرية المسرحي في أستونيا: الفنّ والسلطات الاستبدادية
من عرض مسرحية "الرومانسية الشمولية" للمخرج عبد الرزاقوف

استضافت مدينة نارفا الأستونية في الفترة بين 15 ـ 19 أغسطس/ آب الماضي في المركز المسرحي "بابا لافا" نسخة جديدة من مهرجان الحرية/ Vabaduse.

تقع مدينة نارفا الصغيرة على ضفاف نهر نارفا بالقرب من الحدود مع روسيا، وهي ثالث أكبر مدن أستونيا (حوالى 60 ألف نسمة)، غالبيتهم العظمى من الناطقين بالروسية. وعلى الرغم من صغرها، تعد نارفا مركزًا تاريخيًّا واقتصاديًا مهمًّا، وتضم كثيرًا من النصب التذكارية التاريخية.

يستضيف المهرجان عادةً أعمالًا مسرحية من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، ولكنّه استضاف هذا العام مسرحية من أميركا اللاتينية البعيدة، وبالتحديد من تشيلي. ويهدف المركز المسرحي (بابا لافا) أساسًا إلى أن يكون مركزًا تلتقي فيه ثقافات مختلفة، بما في ذلك مشاركة محترفين من الجارة روسيا (لا تبعد المدينة سوى ساعتين بالسيارة عن سانت بطرسبرغ). واليوم، ولأسبابٍ سياسيةٍ يعرفها الجميع، توقفت العلاقات مع روسيا، بما في ذلك الثقافية، فأصبح الحديث الهادئ حتى بلغة المسرح شبه مستحيل، بعد أن ارتفعت حرارة المشاعر بين مواطني الدولتين، وهذا أمرٌ يسهل تفسيره بالطبع. بلغت المشاعر ذروتها بعد عرض الدراما الوثائقية "اختر أفضل رواية"، التي أنتجها مسرح كييف للدراما، من إخراج الليتواني فالترس سيليس/ Valters Silis (1985).

عمومًا، شدّت أعمال مسرحيي جمهوريات آسيا الوسطى انتباه لجنة التحكيم، وخاصّة أعمال المسارح المستقلة، التي تعمل اليوم في ظروفٍ صعبة للغاية بسبب الضغط الذي تمارسه السلطات في حقها. يعرض مسرح طشقند الشهير "إلهام" مسرحية "فتيات تحت الأرض"، المقتبسة عن كتاب الصحافية السويدية جيني نوردنبيرغ: "فتيات كابول: المقاومة السريّة في أفغانستان". وشرع المخرج البولندي يعقوب سكرجيفانك/Jakub Skrzywanek في إخراج مسرحية تقتصر أدوارها على النساء بالكامل تقريبًا. معلّمةٌ عجوز تلقي محاضرة على مسامع نساءٍ حوامل، وتخبرهنّ عن أفضل الطرق التي تضمن أن يكون المولود ذكرًا. في المسرحيّة، يحتجّ المخرج، وهو محقّ بذلك، على إرغام النساء على تكريس أنفسهنّ لخدمة عالم الذكور، ليقوم من ثمّ بنقل المسرحية من نقطة الاحتجاج على ظاهرةٍ بعينها إلى مرحلة رفض الواقع علنًا. تنتهي المسرحية بصدمة تتلقاها فتاة أفغانية مهاجرة بعد أن رأت بعينيها اللامبالاة التي يبديها المواطنون. لا تترك نهاية المسرحية للمشاهد فرصةً للشعور بأيّة مشاعر سوى الشعور بالغضب المحقّ. قامت هيئة المسارح في كازاخستان بمنع عرض المسرحية بذريعة أنّها تسيء إلى العلاقات مع أفغانستان، الأمر الذي أثار احتجاج وغضب المهتمين بالفنّ.

شدّت أعمال مسرحيي جمهوريات آسيا الوسطى انتباه لجنة التحكيم، وخاصّة أعمال المسارح المستقلة، التي تعمل بظروفٍ صعبة للغاية بسبب الضغط الذي تمارسه السلطات في حقها


تقول إيرينا بوهارات: "مشروعٌ المسرحية مشروعٌ نسويّ. تعمل فيه تسع نساءٍ رائعات. لقد كان لخبر منع عرض المسرحية وقع الصاعقة عليهنّ، فقد عملن بتفانٍ على مدار ستة أسابيع، وكنّ يعشن طيلة تلك الأسابيع وكأنهنّ في معسكرٍ مغلق. أثارت صيغة الرسالة التي وصلت إلى إدارة المسرح الدهشة. كيف توصل أصحاب القرار إلى هكذا استنتاج، في وقتٍ لم يشاهد أحدٌ منهم المسرحية بعد؟ ليس في المسرحية شيءٌ من التهم التي يحاولون إلصاقها بها".

من جانبها، قالت منتجة المسرحية، تصف مشاعر الفنانات: "يتملكنا شعورٌ بعدم حاجة البلاد لنا، تلك البلاد التي يمكن فيها شطب كلّ آمالنا وتوقعاتنا بجرّة قلم. هذا بالضبط ما نتحدث عنه في مسرحيتنا". أمّا المخرج، فعقّب على القرار بالقول: "إنّها قصّة تذكرنا كيف يمكننا أن ننسى بسهولة قضايا مثل المساواة والحريّة".

المخرج الطاجيكي بارزو عبد الرزاقوف هو الآخر غاضب اليوم. وبالفعل، لديه ما يثير الغضب، فهو يعيش عمليًا في المنفى: فقد منعت مسرحية "مانكورت"، التي سبق أن أخرجها في طاجيكستان قبل وقتٍ قريب. بالإضافة إلى ذلك، زجّ أحد الممثلين في السجن بعد أن وجهت له تهمة مفبركة.

كانت مسرحية "الانهيار الثلجي"، التي عرضها المخرج عبد الرزاقوف في مهرجان نارفا، قد صممت في المسرح الكازاخي  ـ الروسي المستقل (جاز زاخن) في العاصمة الكازاخية السابقة ألمآتا، وترتبط حبكتها أيضًا بمشكلة ولادة الأطفال. تتحدث المسرحية عن قريةٍ ما، يتحدث سكانها همسًا، ويحظر في أشهرٍ معينة من السنة ولادة الأطفال: تزعم أسطورة روجت لها سلطات القرية أنّ صراخ الأطفال حديثي الولادة قد يتسبّب بحدوث انهياراتٍ ثلجية. لا يحتاج الأمر إلى كثير من الذكاء ليخمّن أنّ التهويل بأخطار الطبيعة ليس إلا كذبة خيالية خبيثة، يساعد سلطات القرية في إبقاء القرويين في خوفٍ دائم، ليسهل عليها التلاعب بهم.

من المثير أنّ المخرج عبدالرزاقوف قام بنفسه بتمثيل أحد الأدوار في "الرومانسية الشمولية" المستوحاة من مسرحيةٍ جديدة كتبها الكاتب المسرحي الدرامي الليتواني ماريوس إيفاشكيفيتيوس، أحد القيّمين على المهرجان. تحولت المقابلة التي أجراها عبدالرزاقوف مع إيفاشكيفيتيوس إلى جزء من هذه الفانتازيا التاريخية حول الموضوع الأبدي عن العلاقة بين الفنّان والسلطة. يتحدّث المسرح في نارفا استنادًا إلى مواد التاريخ المشترك الذي يوحّد دول البلطيق مع دول آسيا الوسطى، عن الكيفية التي يضطرّ فيها أناسٌ كبار إلى التحوّل إمّا إلى منفيين، أو إلى رهائن وضحايا الأنظمة التعسفية السياسية.

في الأمسية الأخيرة من أيام المهرجان، عرضت مسرحية "واحة الإفلات من القانون"، من إخراج التشيلي ماركو لاير. يسهب مسرح La Resentida في وصف واستكشاف موضوعات العنف التي تحدث في ظلّ الديمقراطية. ويتطرق أيضًا إلى البحث عن العدالة في عالمنا الحديث، الذي يسوده الإفلات من العقاب.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.